البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

صفاء النجار تكتب عن:

صاحبات الأسى


إبرة مكسورة 
وحدها تحمل خوفها فى أحشائها، يضطرب أمنها، ويتمزق الستر الذى عاشت ترتق ثقوبه، إحساسها بالمسئولية يدفع برأسها فى بحر من الهم، تتقاذفها الأمواج السوداء إلى جزر العزلة والأشباح.
وكامرأة خاطئة تجرب كل الوصفات.. تدق بطنها، تقفز من فوق السرير مرات، يعاندها ويزداد بها التصاقا، تتشبث بمحاولاتها، لكنه يغلبها، فتجلس على بلاط حجرتها الرطب وبكم جلبابها تجفف عرقها، تركن ظهرها إلى الدولاب وتمد ساقيها على الكليم المضفر بقصاقيص الأقمشة.. قصاقيص تعودت جمعها من تحت ماكينات الخياطة فى المشغل المجاور، تذهب أمها بالكيس المنتفخ وتعود به كليما مستطيلا، أقمشته كأيامها مختلفة الألوان والخامات لكنها فى مجملها باهتة. 
تمر شتاءات عدة ومن برد إلى مطر تحصل على دبلوم التجارة المتوسطة، ويصبح المشغل مصنعاً تجلس على واحدة من ماكيناته، ومن بين من تقدم لها من العرسان، تشير أمها: ابن خالتك يسندك وتسنديه، تكتسى بالفرحة جدران البيت الذى ولدت فيه، يخرج سريرها القديم وتدخل حجرة نوم كاملة ودولاب وتسريحة، دفع فيها عريسها خمسمائة جنيه مقدماً وفى كل مساء يعود ليمسح رأسه فى صدرها ويضع فى يدها يوميته القليلة، فتضحك فى وجهه وتقول: ولا يهمك ومرتبى راح فين.
يزداد الضغط على الموتور، وتتطلع إلى المشرفة، تتمنى البالطو البيج الذى ترتديه، وأوامرها - الهمة يا بنات.. الطلبية لازم تتسلم النهارده. 
آلاف الأثواب تدخل وتخرج مفصلة بانحناءة الظهر.. وتدقيق النظر، فساتين تتبختر بها نساء وفساتين ترنو إليها أخريات من خلف «الفتارين».
سألت شيخاً أزهرياً بعد أن غلفت السؤال بـ«واحدة صاحبتى» وكان الرجل حاسماً وإن بدا فى عينيه خيط إشفاق بعد أن مزق اندفاعها وبروز الجزء العلوى من جسدها «غطاء واحدة صاحبتى» وصرخ توتر وجهها وارتباك يديها: ماذا أفعل؟ 
فى المرات السابقة واصلت عملها وهى فى شهرها التاسع، يضغط عليها بطنها وتضغط هى أكثر على الماكينة تنكسر إبرة، بسرعة تستبدلها بأخرى. ويستمر المكوك فى الدوران. تسألها المشرفة وكأنها لا تعرف الحال: مش تستريحى بقى فى البيت.
حان موعد ولادتها، وتأخر عنها الطلق، قلقها على مرتب الشهر كاملاً يبقى صغيرها فى مكمنه. تتعاطف معها زميلاتها: هى أولى بكل يوم. 
وبمجرد أن تفك سلك «العملية القيصرية» تترك لحمها فى حجر أمها، وتطل برأسها من باب المشغل.. لكن لا أحد ينتظر. ففتاة أخرى تتشبث بماكينتها. تترجى المدير، يوافقك: دى آخر مرة تتركى فيها العمل. ده مكن داير. منحنية تجمع القصاقيص، أو منتصبة تحمل أثواب القماش، تتطلع إلى ماكينتها القديمة، أحياناً تتحسسها، وفى آخر النهار قد تمسحها بالقصاقيص حتى فاجأها سرها الجديد. تتقوقع على نفسها، مخافة أن يشم أحد رائحته، وكلما لمحت الماكينة، أشاحت بوجهها إلى الجهة الأخرى، ومن خلف زجاج النوافذ العالية، تتفاعل كآبتها مع سحب الخريف المثقلة بدموع مؤجلة.
خالتى فاطمة
أتشبث بزادها الأخير، وعزاؤها الوحيد وهى تجرجر المتبقى من العمر 
- سنة ولا اتنين وأرجع له. 
أحاول إقناعهم فلا يفقهون، ويصدرون لى.. 
- عيب. 
- الناس هتاكل وشنا. 
- إيه!.. أرضنا مش سيعاها. 
- نهبوها فى حياتها وعايزة ترجع لهم. 
ويزعق والدى: هاتوا المغسلة، قلة عقل نسوان.
أغافلهم وأغلق علينا الباب، أكشف وجهها الذى ارتاحت تجاعيده، أقبل مفرق شعرها الأبيض. تشكو لها دموعى قلة حيلتي. فتباغتنى بسؤالها الذى لا تمله عن الحنة وهل اكتشفوا علاجاً يزيد كثافة شعرها كى تضعه تحت رأسها فى القبر. ولما لا تجد إجابة لسؤالها سوى ارتباكى وإشفاقى عليها توصينى بالنبى أن أضع مخدة تحت رأسها، ومثل كل المرات الكثيرة التى لا أستطيع عدها تطلب منى فتح سحارتها، وتشير إلى المخدة التى صنعتها من زغب الحمام، أبتسم... حاضر يا خالتى وأداعبها مشيرة إلى سنتيها الذهبيتين فى فكها العلوى:
- وأسنانك الذهب؟ 
تغضب ملامحها وتحذرني:
- مش هسامحك ليوم الدين لو إن حد لمسهم.
أضمها إلى صدرى ونتبادل المواقع.. وحدها تنبهت لبكاء قطعة اللحم الحمراء بعد موت أمى، فضمتنى وبأصابعها قطرت الماء المسكر فى فمى وأعطتنى اسمها وطبعها وصرت ابنتها، كانت عمتى، شقيقة أبى ضمن شقيقات كثيرات، ولم تكن لى خالة، فميزتها عنهن بمحبتى ونداء: 
يا خالتى. 
يقطع ما بيننا عويل النسوة: ميتة ومجنونة. 
محاولات لكسر الباب، أخلع قلة حيلتى وأهددهم بحرق نفسى إن لم تنفذ وصيتها.. خيروها فاختارته، كان الخيار لها والقرار لهم. ولما انفض مجلس العائلتين، قامت تجمع سنين العمر من كل ركن فى بيتها الذى كانت جدرانه وحديقته مطمعاً لأخوته، تسللوا إليها كل يعرض أن يصون عرض أخيه وفى الصباح قالت لهم: 
أعرف ما تريدون البيت لكم وقبره لى وتنازلت عن كل شيء.
خمسة وعشرون عاماً قضتها فى بيتها، دخلته وهى حلوة الحلوات، زغاريدها تنير الأفراح، ودفؤها ونيس الأحزان، وخرجت منه بنتوء صغير فى ظهرها، تحول مع الأيام إلى انحناءة فى أعلى الظهر. 
ففى غفلة من زوجها وبعد أن يأست من وصفات الحمل، ذهبت إلى دجال كواها فى ظهرها، فاعوجت فقرة فيه.
ولأن كفها تتساوى فيه كل الخطوط فقد أخذت نصيبها من كل شيء حتى الأمانى المبتورة، والأحلام المستحيلة. 
وما غلب خط العقل لديها سوى غضبة زوجها، وقسمه أن يخاصمها فتألمت أكثر على ألمها، لكن عمى لم يكمل نهارا بليلته وعاد إليها بعد منتصف الليل، يمسح دموعها بخوفه. تماماً مثلما كان يفعل عندما أغضبتها أمه وذهبت خالتى إلى بيت جدي.. يدق شباك حجرتها بعد أن ينام الجميع وبعد أن اطمئن لفرحة خالتى أتركهما لأشواقهما وأنام.. وحديد الشباك يذوب من لهفتهما.
وفى الصباح تدعى أنها ستذهب للخياطة فى البندر وستبقى طوال اليوم. ومن زيتتها أعرف أنها ستعود قبل العشاء ومعها ضحكتها وفى كيسها حبات أبو فروة والحمصية والجوزية، تقبلنى على وجنتى وفى أذنى وتهمس:
كنا فى طنطا..
هل كان جدى يعرف سرنا..؟ ربما، لكنه رفض عودتها معه إلا إذا جاءت الحماة لتعتذر لها، ولما كانت المرأة الأخرى عنيدة، فقد ظل زوج خالتى يطمئن عليها بعد منتصف الليل حتى أشترى لها أحسن بيت فى البلد بعيدا عن المضايقات وأصرت على أن تأخذنى معها. 
وبالأمس وقبل أن تسدل جفنيها للأبد أشارت إلى سبتها الكبير.. الشيء الوحيد الذى عادت له والمغطى دائماً ببشكير معطر ولا يقترب منه سواها، رفعت غطاء وأخرجت عدة زجاجات فارغة احتضنتها ثم فتحتها واحدة تلو الأخرى، لأن العمر فى وجهها. وبرضى همست: 
- رائحته. 
يعاودون الدق على الباب والباب يستجيب لضغطهم.. يكاد ينهار تحت طوفان كرامتهم.. تسحبنى الدوامة للقاع وما بيدى شيء أتشبث به سوى خط القلب فى كف خالتى فاطمة.