البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

هوامش "نزار" على دفتر الشعر

 الشاعر السوري الراحل
الشاعر السوري الراحل نزار قباني

رغم صيته الذائع في العالم كله بشعره الرومانسي وأبياته الرقيقة، إلا أن الشاعر السوري الراحل نزار قباني كان واحدًا ممن أثروا القضايا العربية بأبياته، فحملت قصائده السياسية هموم الوطن العربي ومشاكله، كما عانى كثيرًا من الفقد، بداية من شقيقته التي انتحرت وحتى حبيبته التي قتلتها الحرب، فكتب لها رثاء حمّل فيه الجميع مسئوليتها، فامتزج حبه بقضيته ليُخرج لنا شعرًا احتل مكانة متميزة حتى اليوم.
ولد نزار في حيّ مئذنة الشحم بالعاصمة السورية دمشق في 21 مارس عام 1923، في بيتٍ دمشقيّ تقليديّ لأُسرَةٍ عريقة؛ ورث فيها نزار من أبيه حبه للشعر، وقبله كان جدّه كذلك مُحبًا للفن بمختلف أشكاله؛ وكان حب الفتى للرسم في طفولته جعله غارقًا في بحر من الألوان، كما بلغ عشقه لوالدته لحد اتهامه أنه يُعاني من عقدة أوديب، وكانت قصائده عن أمّه في ديوانه الرسم بالكلمات خير دليل على شغف الطفل بصورة الأم التي ألهمته في نصوصه.
"حتى تنتصر القصيدة..
على المسدس الكاتم للصوت..
وينتصر التلاميذ
على الغازات المسيلة للدموع
وتنتصر الوردة..
على هراوة رجل البوليس "..
وكأي فتىً يحيا مُراهقته، احتار نزار كثيرًا في تحديد موهبته، فبدأ خطّاطًا وتتلمذ على يد خطّاط يدويّ، ثم اتّجه للرسم، ولكنه لم يلبث وأن شُغف بالموسيقى، فتعلّم على يد أستاذ خاص بالعزف والتلحين على العود؛ إلا أن الدراسة الثانوية دفعته للتوقف عن العزف، فانتهى الحال بالفتى الموهوب إلى الشعر، وحفظ أشعار الكثير من عمالقة الشعر العربي، منهم عمر بن أبي ربيعة، جميل بثينة، طرفة ابن العبد، وقيس بن الملوح، وساعده في هذا أستاذه الشاعر خليل مردم بِك، الذي علّمه أصول النحو والصرف والبديع.
"عندما أشرب الكأس الأولى
أرسم الوطن دمعةً خضراء
وأقلع ثيابي..
وأستحم فيها"..
صادف نزار واقعة مأساوية عندما انتحرت شقيقته بعد أن أجبرها أهلها على الزواج من رجل لم تحُبّه، ما ترك أثرًا عميقًا في نفسه، وفي عام 1939 كان نزار في رحلة بحريّة مع المدرسة إلى روما، فكتب أولى أشعاره مُتغزلًا بالأمواج والأسماك التي تسبح فيها، وبدأت موهبته في النمو خلال دراسته، حيث التحق بكلية الحقوق في جامعة دمشق، ونشر خلال دراسته الحقوق أولى دواوينه الشعريّة "قالت لي السمراء" الذي قام بطبعه على نفقته الخاصة، وكتبَ له مُقدّمة الديوان منير العجلاني الذي أحبّ القصائد ووافق عليها، وأثار موضوع الديوان جدلًا في أوساط الجامعة، فذاع صيت نزار كشاعر إباحي؛ ولكن في أعقاب تخرجه عام 1945 التحق بوازرة الخارجية السوريّة، وفي العام نفسه عُيّن في السفارة السوريّة في القاهرة؛ ولم تطل إقامة نزار في القاهرة، فانتقل منها إلى عواصم أخرى مختلفة، فقد عُيّن سفيرًا في لندن لمدة عامين أتقن خلالهما اللغة الإنجليزية، ثم تنقّل بين أنقرة، الصين، مدريد؛ إلى أن استقرّ في لبنان بعد أن أعلن تفرغه للشعر عام 1966، فأسس دار نشر خاصة باسم "منشورات نزار قباني".
" عندما أشرب الكأس الثانية
أرسم الوطن على شكل امرأةٍ جميلة..
وأشنق نفسي بين نهديها"..

بدأ نزار كتاباته بالشعر العمودي، ثم انتقل إلى شعر التفعيلة، وساهم في تطوير الشعر العربي الحديث إلى حد كبير؛ وتناولت كثير من قصائده قضية حرية المرأة، فكانت دواوينه الأربعة الأولى قصائد رومانسية، وتحوّل نزار إلى الشعر السياسي بعد حرب 1967، فأصدر عدة قصائد لاذعة ضد الحكومات والأنظمة العربية عمومًا وضد حكم البعث في سوريا ومنها "هوامش على دفاتر النكسة"، "عنترة"، و"يوميات سيّاف عربي".
"إذا خسرنا الحربَ لا غرابة
لأننا ندخُلها..
بكلِّ ما يملكُ الشرقيُّ من مواهبِ الخطابة
بالعنترياتِ التي ما قتلت ذبابة
لأننا ندخلها..
بمنطقِ الطبلةِ والربابة"..

تزوج نزار مرّتين، الأولى كانت من ابنة خاله زهراء آقبيق، وأنجب منها هدباء، وتوفيق، الذي توفيّ عام 1973 وكان في السنة الخامسة بكلية طب جامعة القاهرة فنعاه نزار بقصيدة "الأمير الخرافي توفيق قباني"؛ والثانية من العراقيّة الأصل بلقيس الراوي، التي التقاها في أمسية شعريّة في بغداد، التي عشقها وتزوجها، ولكنها لقيت حتفها أثناء الحرب الأهلية بلبنان في حادث انفجار السفارة العراقيّة عام 1982؛ فرثاها نزار بقصيدته الشهيرة "بلقيس"، حيث حكى أن الجميع كان لهم دورٌ في قتلها، وأنجب منها ابنية عمر وزينب؛ ولم يتزوّج بعدها.
"سأقول في التحقيق.. اني قد عرفت القاتلين..
بلقيس..يافرسي الجميلة..إنني من كل تاريخي خجول
هذي بلاد يقتلون بها الخيول..
سأقول في التحقيق:
كيف أميرتي اغتصبت..
وكيف تقاسموا الشعر الذي يجري كأنهار الذهب
سأقول كيف استنزفوا دمها..
وكيف استملكوا فمها..فما تركوا به وردا
ولا تركوا به عنبا..
هل موت بلقيس..هو النصر الوحيد في تاريخ كل العرب"..

غادر نزار لبنان عقب مقتل معشوقته بلقيس، وتنقّل بين باريس وجنيف، حتى استقر في العاصمة البريطانية، ليقضي الخمسة عشرة عامًا الأخيرة من حياته، واستمرّ بنشر دواوينه وقصائده التي أثارت الكثير من الجدل خلال فترة التسعينات ومنها "متى يعلنون وفاة العرب"، و"المهرولون".
اعتبر كثير من النقاد نزار قباني مدرسة شعرية وحالة اجتماعية فريدة وظاهرة ثقافية، فأسماهُ حسين بن حمزة "رئيس جمهورية الشعر"، ووصفه الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي بأنه "شاعر حقيقي له لغته الخاصة، إلى جانب كونه جريئًا في لغته واختيار موضوعاته"، لكن تم انتقاد هذه الجرأة التي وصفها البعض بأنها وصلت في المرحلة الأخيرة من قصائده لما يُشبه السباب؛ ولا أحد يغفل دوره البارز في تحديث مواضيع الشعر العربي الحديث، فكان مع الحداثة الشعرية، ويكتب بلغة أقرب إلى الصحافة تصدم المتعوّد على المجازات الذهنية الكبرى، وكانت قصائده سريعة الانتشار، فألقت حداثته بظلال كثيفة على كل من كتب الشعر.
"عندما يُولدُ في الشرقِ القَمرْ
فالسطوحُ البيضُ تغفو...
تحتَ أكداسِ الزَّهرْ
يتركُ الناسُ الحوانيتَ.. ويمضونَ زُمرْ
لملاقاةِ القمرْ"..

نقل نزار موضوع الحب من الوصف الخارجي إلى موضوع خاص في الشعر العربي الحديث، وكان لا يُشبهه أحد، وكانت جرأته في تناول أعماله سببًا في انتقاد كبير وجدال واسع، مثل قصيدته "خبز وحشيش وقمر" التي كانت سبب جدال ضخم انتشر في دمشق، حتى وصل إلى قبة البرلمان، وكان نتيجة اعتراض بعض رجال الدين عليه ومطالبتهم بقتله، ولكن نزار العنيد أعاد نشرها خارج سوريا، ورغم ذلك فقد قررت محافظة دمشق تسمية الشارع الذي ولد فيه على اسمه.
"عندما أشرب الكأس الثالثة
أرسم الوطن على شكل سجنٍ..
أقضي به عقوبة (الأشعار) الشاقة المؤبدة"..
توفيَّ نزار قباني في 30 أبريل 1998 بالأزمة القلبية عن عمر يناهز 75 عامًا في لندن، وكان قد كتب في وصيته في المستشفى يوصي بأن يتم دفنه في دمشق التي وصفها في وصيته بأنها "الرحم الذي علمني الشعر، الذي علمني الإبداع، والذي علمني أبجدية الياسمين"، فتم نقل جُثمانه إلى العاصمة السورية التي دُفن فيها
بعد أربعة أيام حيث دفن باب الصغير، وكانت جنازته حاشدة، شارك فيها مختلف أطياف المجتمع السوري إلى جانب الكثير من الفنانين والمثقفين السوريين والعرب.
"أريد الخروج من البئر حيًا..
لكي لا أموت بضربة نهدٍ..
وأهرس تحت الكعوب الرفيعة"..