البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

من يحرق "الياسمين" في تونس


عدة تحليلات سياسية طرحت أوجه شبه بين قيام ثورة «الياسمين» فى تونس وثورة ٢٥ يناير فى مصر.. على الأرجح أن فارق التوقيت الضئيل بينهما كسر فى البداية حاجز الحدود الجغرافية لتمتد بعدها سلسلة الثورات والاحتجاجات إلى عدة دول عربية. الشق الاقتصادى أيضا يشكل عاملًا أساسيًا فى الثورتين.. «العيش» كأحد مطالب ثورة يناير مقابل البطالة فى تونس.
فور اندلاع الثورة كان بديهيًا أن تعود المعارضة التونسية، التى يشكل التيار الإسلامى الكتلة الأكبر فى تكوينها، من المنفى فى فرنسا ولندن، حينها راهنت بعض الآراء على أن عودة راشد الغنوشى - عضو مكتب الإرشاد العالمى لجماعة الإخوان المسلمين - وحزبه «حركة النهضة» إلى العملية السياسية فى تونس ستكون مختلفة عن تجربة الإخوان فى مصر.. اعتمد رهانهم على أن الغنوشى والمنتمين لحزبه نجحوا فى الاندماج والتأثر بالرؤية الأوروبية التى احتضنتهم مما أبعدهم عن التأثير السلفى.. خلافًا لنمط حياة أعضاء جماعة الإخوان المصرية فى المنفى، والتى يغلب عليها الانعزال داخل «جيتو» يحصنهم من الاصطدام مع أى رؤية سياسية تتقاطع مع «فريضة» الرضوخ إلى قوانين حسن البنا دون جدل أو نقاش.
كل التطمينات التى منحها الغنوشى للشعب التونسى لم تفلح فى بقاء سيطرة حزبه على الحياة السياسية وتمت الإطاحة سريعًا بالإخوان بعدما استشعر الشعب عدم جديتهم فى الإصلاح. اللافت للنظر ما صدر من مبالغات فى الموقف الأمريكى والغربى من حفاوة استقبال رد فعل «حركة النهضة» فى تونس وتأكيده على احترام رغبة الشعب واستعداده للاندماج والمشاركة فى الحياة كحزب سياسى مدني!.. تدفقت بعدها جوائز «نوبل» لتبارك بدروها خطوات (الديمقراطية النموذجية) فى تونس. مقابل هذه الصورة الوردية.. لم تنشط أحداث الإرهاب فى استهداف عناصر الأمن والمنتجعات السياحية - علمًا بأن السياحة تشكل عصبًا أساسيًا فى الاقتصاد التونسي - إلا بعد إقصاء التيار الإخوانى وليس قبل ذلك.
بعيدًا عن الوقوع تحت تأثير نظريات كهنة معبد المذهب «التآمري».. لا يوجد أمام التيار الإخوانى فى تونس سوى كتلة مدنية صلبة على رأسها «الاتحاد التونسى للشغل» الذى يمثل إلى حد كبير صوت اليسار الليبرالى المعارض.
المعروف تاريخيا أن الفكر اليسارى لا يتبنى فى حراكه السياسى منهج العنف والتفجير، مما يضع علامة استفهام كبيرة حول تزامن بدء العمليات الإرهابية مع إعلان «حركة النهضة» انضمامه إلى العملية السياسية إثر فقدانه الأغلبية فى الانتخابات التشريعية عام ٢٠١٤.. والأغرب أن دول الغرب أبدت استعدادها الفورى للترحيب بالدعاوى السلمية التى صدرها لها هذا الحزب كطرف مشارك فى العملية السياسية!.
خلال العامين الماضيين وقع الحزب الحاكم «حركة نداء تونس» فى عدة «مطبات» تحت ضغط «التهليل» العالمى لنجاح التجربة الديمقراطية التونسية باحتواء جميع الأطياف.. ما يستدعى إلى الذاكرة القريبة موقفًا مماثلًا للرئيس الراحل أنور السادات فى محاولات احتواء التيارات الإسلامية والتى انتهت باغتياله على أيديهم.. لم يتوقف الرئيس التونسى الباجى قايد السبسى أمام مثل هذه «اللقطات التاريخية» ولا التحفظات التى أبداها أعضاء «حركة نداء تونس» - الذى اقتنص الأغلبية فى الانتخابات التشريعية الأخيرة - على دعوة السبسى للغنوشى إلى مؤتمر الحزب. النتيجة المتوقعة حدثت فعلًا.. تمكن الغنوشى وحزبه مع تهاون السبسى أيضا أمام زرع مؤسسة تشكلت منتصف العام الماضى فى تونس تحت عنوان ظاهره «المجلس العربى للدفاع عن الثورات» وباطنه محاولات يائسة من أسماء عرضت نفسها للبيع فى سوق النخاسة السياسية لأى مشتر ولو كان الشيطان. من المؤكد أن مسلسل الرضوخ من جانب الحكومة والرئيس لعب دورًا فى إحداث انقسامات نهشت صلابة الحزب الحاكم وأفقدته الأغلبية البرلمانية ليعود إلى حجر حزب «حركة النهضة» الإخوانى، ثم واكبتها دعوات أطلقها رئيس تونس السابق، المنصف المرزوقى، الذى باع تاريخه الماركسى من أجل «الكرسى والدولار الإخواني» إلى إجراء انتخابات مبكرة.. وهى جميعها إشارات خطرة تستدعى كل القلق على مسار المستقبل السياسى فى تونس.
لم تكن الجملة التى وردت فى كلمة الرئيس عبدالفتاح السيسى عن تونس مجرد صيغة رسمية.. بقدر ما حملت رسالة إلى الشارع التونسى الذى ضاق ذرعًا بأوضاعه الاقتصادية.. الاحتجاجات الشعبية لإيصال صوت المعارضة قد تكون سلاحًا ذا حدين.. الضغط على الحكومة من أجل الإصلاح فى مقابل سهولة تحويل مسار هذه الحالة من المشاعر السلمية المتدفقة عبر دس الفوضى والتخريب لخدمة مصالح تيار لم يتحمل الإقصاء عبر تاريخه، ولم يقابله إلا بسفك الدماء، خصوصًا أن طرق التعبير عن الاحتجاج والضغط لا تقتصر فقط على قنوات التظاهر.. بل إن العديد من مفاتيحها توجد فى يد قوى مدنية على رأسها الاتحاد التونسى للشغل.