حتى لا تذهب القوة الناعمة إلى الجحيم
أوائل التسعينيات كتبت مقال «فنانون يؤيدون الرقابة» يستنكر بيانا أصدره مجموعة مبدعين وفنانين أعلنوا فيه التضامن مع جهاز الرقابة على المصنفات الفنية.. فالفنان مخلوق لا يطيق أن يضع أحد قيودا على إبداعه، حتى لو تطلبت ظروف المجتمع وجود جهاز رقابة منطقي يكون تعامل الفنان معه مجرد أمر واقع. أى جهاز رقابة ـ مهما اختلفت مسمياته أو أشكاله ـ لن يكون حامى حمى الفن والفنانين.. قد يرفض رواية ليوسف إدريس أو سيناريو يحمل رؤية سياسية مختلفة.. لكنه عاجز عن إزالة بُقع القُبح عن الوجه الجميل للفنون بأنواعها، سواء الغناء أو السينما أو المسرح وهو ما يؤكد عدم جدوى التصريحات التى استهل بها الفنان المبدع هانى شاكر منصبه نقيبًا للمهن الموسيقية حول دعوته لمنع الألفاظ الخارجة والملابس غير المناسبة على المسرح. علما بأن التاريخ لم يكتب النجاح يوما لكل محاولات إخضاع الإبداع الفنى إلى معادلة القوانين.
تصاعد الجدل ـ حتى وصل إلى الشتائم على الهواء ـ حول تردى مستوى السينما الذى ارتبط باسم عائلة وفدت، ثم اكتسبت شهرتها فى عالم الإنتاج، رغم أنها لا تحمل بمفردها وزر جريمة الإفساد، لكنها أصبحت نموذجا له بسبب كثرة إنتاجها. وهو ما يفرض بإلحاح أن يوجه وزير الثقافة حلمى النمنم اهتمامه إلى ملف السينما الذى مازال فى انتظار خطوات حاسمة بعيدا عن محاولات تشتيت دوره الثقافى فى مواجهات تجعل الوزير دائم الانشغال فى موقف الدفاع عن الفكر المستنير فى مواجهة الفكر الظلامي. لجان السينما لم تفلح فى الخروج من دائرة الاجتماعات المكررة والبيانات المعلبة. جانب المسئولية الذى تتحمله الدولة ـ ممثلة فى وزارة الثقافة ـ يتطلب دورًا أكثر واقعية وحسمًا لجذور كارثة القُبح والتردى التى أصابت السينما.
إشكالية الفصل بين الجانب التجارى والردىء للفن، لطالما شغلت مبدعين كبارًا فى السينما. بعد الستينيات رفعت الدولة يدها عن الإنتاج السينمائى وهو الدور الذى كان يخلق حالة توازن بين إنتاج سينمائى لا يخسر وفى ذات الوقت لا يبتذل. بعض الفنانين اختار اللجوء إلى شركات عالمية لإنتاج أعمالهم مثل الرائع يوسف شاهين.. بينما لجأ آخرون إلى دخول مجال الإنتاج بداية بجيل آسيا وفاطمة رشدي..ثم جيل مديحة يسرى ويليه جيل ماجدة..وصولًا إلى جيل نور الشريف ومحمود ياسين.. وأخيرا إلهام شاهين. المهم أن هؤلاء المبدعين وغيرهم حاولوا القيام بخطوة لإنقاذ مستوى وصناعة السينما.. إذا كان الوسط السينمائى يرفض اليوم النمط السائد للجرائم التى تقدم باسم الفن، فعليهم تحمل مسئولية دورهم فى الأزمة إما بتقديم البديل أو محاولة فهم الأسباب التى دفعت الشارع إلى التهافت على الردىء سواء فى دور السينما أو أكشاك بيع الأقراص المدمجة، لأن ترك الساحة خالية ليس له معنى سوى التخاذل والرضوخ لقانون من امتهنوا الإنتاج فى غفلة من الزمن ـ أو الحضارة ـ عن طريق «الخلطة» التى تضمن الإيرادات.. ولتذهب أى قوة ناعمة إلى الجحيم!.
الجزء الثالث من المسئولية يفرض علينا ـ للأسف ـ الاعتراف أننا بصدد حالة من الذوق العام الفاسد. من البديهى أن يواكب فترات الانكسار والهزائم نمط فنى يدعو إلى تغييب العقل.. ليس بعيدا عن الذاكرة ما حدث بعد نكسة ٦٧ من ظهور أفلام سطحية أو ظاهرة أحمد عدوية وغيره فى الغناء.. لكنها ظلت فى إطار التعبير النفسى والاجتماعى المؤقت عن حالة الشارع.. ولم تتحول إلى قاعدة يتم بموجبها استثمار التمرد والغضب المتدفق عند شريحة لا يستهان بها من المجتمع، لكى يتحول البقاء داخل دائرة إشباع غريزة مقابل جشع منتج إلى رقم فى أرصدة هؤلاء الدخلاء على الفن.
ظاهرة فساد الذوق العام بكل تشابك جذورها النفسية والاجتماعية والاقتصادية.. لا تستحق أن تعامل بالتخاذل أو التصريحات التى تلعن ظلام الإبداع بدلًا من إيقاد شمعة قد تفتح بارقة أمل.. سواء عن طريق سرعة فتح ملف السينما فى وزارة الثقافة وعودتها ـ ممثلة للدولة ـ كطرف فى الإنتاج تحت أى مسمى أو حتى فى شكل نوع من الإشراف الفنى بما يضمن للمنتج الجاد تقديم أعمال سينمائية تحقق له ربحًا وتطرح أمام الذوق العام تجارب سينمائية قد تنجح فى جذب اهتمام الشارع والإقبال عليها، أيضا عودة نجوم و نجمات السينما إلى الإنتاج ستخدم نفس الهدف فى كسر دائرة القبح، لأن الفساد فى الذوق العام يحتاج إلى فن جميل ينجح فى تغييره.
الحلول ليست مستحيلة.. لكنها قطعًا لن تكون بين أجهزة الرقابة وقرارات المنع.. وعلى وزارة الثقافة اتخاذ الخطوة الجادة نحو إتاحة مساحة لفن جميل بعيدا عن مخدر «الجمهور عاوز كده».