البوابة نيوز
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير
عبد الرحيم علي
رئيس التحرير التنفيذي
داليا عبد الرحيم

الإرهاب يتحدى التوجه نحو العالمية والكونية


مع نهاية القطبية الثنائية والحرب الباردة، واتجاه البلدان المختلفة في شرق أوروبا وغيرها من بلدان العالم الثالث والعالم الإسلامي والعالم العربي إلى تبني الليبرالية الجديدة وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية والسير نحو الديموقراطية والحريات، أعتقد الكثيرون منا أن في الغرب وإن في الشرق باتجاه العالم نحو الوحدة الكونية في القيم والثقافة وبناء المصير المشترك للإنسانية وتجاوز الخصوصيات الثقافية والدينية في إطار الثقافة والحضارة العالمية الآخذة في التشكل.
عزز من ذلك ظهور العولمة بتجلياتها في عالم الاتصال والبث المباشر وتداول المعلومات وظهور الشبكة العنكبوتيه للمعلومات "الإنترنت" وعولمة أسواق المال والأعمال والخدمات ومختلف التطورات الاقتصادية والثقافية التي رافقت العولمة أو نجمت عنها وتطورت معها، بيد أنه مع ظهور مفاهيم "الجهاد" والجماعات الجهادية والإرهاب والتطرف يبدو أن التوجه صوب الكونية وصوب العالمية تحيط به الكثير من المشكلات والتحديات، من بينها أن الإرهاب وخاصة العملية الإجرامية الأخيرة التي وقعت في باريس، كشفت حجم التعارض بين التوحد الوطني في الداخل وبين الانقسام على الصعيد الدولي وتمركز هذا التعارض بين اعتبار حرية الرأي والتعبير في فرنسا وأوروبا حرية مطلقة وأساسية وحجر الزاوية في كل نظام ديموقراطي حديث وبين اعتبار ضرورة وضع حدود لهذه الحرية خاصة عندما يتعلق الأمر بالمساس بمعتقدات الآخرين الدينية مسلمين ومسيحيين.
ويجسد هذا التحدي التعارض الأكبر بين تطور المجتمعات وحداثتها ومواقفها من المطلق والمقدس والعقائد الدينية المختلفة، ففي فرنسا كما في أوروبا، دخلت هذه الدول الحداثة من أوسع أبوابها بل هى التي خلقت عالم الحداثة الثقافية والسياسة والفكرية والقيمية المتعلقة بتنظيم شئون المجتمع وإدارته، وبل وتعيش هذه البلدان طور ما بعد الحداثة والذي يمثل مرحلة في أزمة الحداثة ذاتها وليس مرحلة مستقلة بملامحها العقلية والفكرية والثقافية، بينما تعيش الدول العربية والإسلامية وغيرها من البلدان المرحلة التي لا تزال تحيط المقدس بهالة من الاحترام والتبجيل وتحظر المساس به تحت أي من الظروف وتعتبر ذلك جرما يعاقب عليه مرتكبه، وذلك باختصار لأن المكون الديني لا يزال يحتفظ بتأثيره وسطوته في مجريات الحياة ويحمل المواطنون والمجتمع إرثا ثقافيا طويلا لم يتم فحصه بدقة من منظور حاجات العصر واحتياجات المجتمع إلى التجديد وفتح أبواب الاجتهاد والابتكار.
والحال أنه لا يمكن الحديث عن عالم واحد وحضارة واحدة حديثة تشمل الجميع دون أن تشعر كافة الشعوب والثقافات والديانات أن لها موطئ لقدم في هذه الحضارة وأن الحضارة التي تنتمي إليها تعترف بخصوصياتها وثقافاتها وتنطوي على احترام للمنظومات الرمزية والعقائدية لمختلف هذه الشعوب.
ففي الوقت الذي التف كافة الفرنسيين حول مفهوم الوحدة الوطنية وحرية الرأي والتعبير تضامنا مع ضحايا مجلة "شارلي إيبدو" الذين اغتالتهم يد الإرهاب مما شجع المجلة على إعادة نشر رسوم مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن إعادة نشر هذه الرسوم قد أثارت غضب العالم الإسلامي وكرست الإحساس بالإهانة لدى المسلمين وعقائدهم كما لو كان المطلوب من المسلمين أن يسلموا بأن إهانة عقائدهم ونبيهم شكل من أشكال حرية الرأي والتعبير وقبول القيم والمعايير الحداثية الغربية كما هى دون تعديل بل ودون مناقشة.
تجاوز هذه الفجوة بين إطلاق حرية التعبير وبين وضع حدود لها يتعلق بالذات بعدم المساس بمعتقدات ديانات الآخرين ومقدساتهم قد يرتهن بمبادرة دولية تتبناها هيئة الأمم المتحدة باعتبارها الإطار الممثل للنظام الدولي في صورة قرارات أو توصيات تحظر المساس بهذه المعتقدات وحث الدول على تبني هذا القرار والتوصيات، ويستهدف ذلك رفع الجرج الذي قد تشعر به الأنظمة الديموقراطية من جراء وضع هذه الحدود لحرية الرأي والتعبير وتوفير غطاء أممي وقانوني يحظى بالأولوية على التشريعات الوطنية في التطبيق على غرار ما هو معمول به أحيانا بخصوص حقوق الإنسان.
قد تفتح هذه المبادرة الطريق لتجاوز الفجوة بين الدولة الوطنية والتوجه الكوني من أجل إرساء معايير كونية حقيقية تدعم هذا التوجه وتحظى بالاعتراف والشرعية من مختلف المجموعات البشرية والدينية المختلفة عبر العالم.