الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

انسحاب المخدر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
على طريقة تجار السموم كان هناك من يحقن المجتمع المصرى بسمومه ببطء شديد ومثابرة تحكم حصاره ليقع فى هوة الإدمان، بغطاء يبدو فى مظهره بريئا ومشروعا، نقف على مشارف الربع الأول من القرن العشرين، خريطة العالم تتبدل بعنف، تندلع حربا عالمية غير مسبوقة، قوى دولية تختفي وأخرى تجلس على عرش العالم، إمبراطورية تتحلل وتتفكك وقبل أن نخطو نحو الربع الثانى تستخرج شهادة وفاة دولية وتصبح رجل أوروبا المريض، لكن خيالات المجد الزائل مازالت تداعب بعض من الحالمين بعودة تسيطر على العالم، وفيما يرتب الغرب أوراقه وقد تخلص بعد لاى من سطوة خلط الدين بالسياسة، يشهد الشرق ــ العربى تحديدًا ــ من يعيد إنتاج عصور أوروبا الوسطى، من أول السطر، رافضا استيعاب درس التاريخ، غير مدرك أنه عندما تجتمع نفس المقدمات لابد وأن نحصد ذات النتائج.
كان الاستعمار يدرك هذا فلم يتوان عن دعم هذا التوجه، حتى لا ينهض الشرق وينتبه إلى مواقع قوته، كانت التطورات تسير فى خطوط متوازية لا تلفت النظر إلى اتفاقها فى الهدف، كانت أوروبا تضع لمسات ولادة إسرائيل كباكورة الكيانات السياسية المعتمدة على مرجعية دينية، وكانت ترصد كنز البترول فى المنطقة وهى تؤسس لنهضتها الصناعية والتى لن تستمر دون إمدادات الطاقة الجديدة ــ وقتها ــ وكانت تتابع وتدعم تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن نجحت بروفة تأسيس دولة فى قلب صحراء الخليج على قاعدة عرقية دينية، ربما بلورت الفكرة فى ذهن المؤسس حسن البنا حتى فى المسمى الذى اتخذته وكانت الجماعة الوليدة تتسلل إلى المجتمع المصرى تحت غطاء من البراءة، وتؤكد أنها جاءت لتحيي منظومة مكارم الأخلاق، ومن يقترب من مذكرات مؤسسها “,”الدعوة والداعية“,” يكتشف عسكرة التنظيم، المؤسس على الطاعة المطلقة، وعبر كتابات كوادر من التنظيم ترد إشارات واضحة عن ارتباطه بالماسونية بحسب ما رصده الشيخ محمد الغزالى ونقله عنه الاستاذ ثروت الخراوى فى كتابه سر المعبد.
كانت البداية دعوية لا تكشف عما تضمره من أهداف سياسية، وتسير ببطء وهدوء تنظم صفوفها وتحكم هيكلها التنظيمى الذى ينقسم إلى مناطق وأقسام، وأشهرها قسم الطلبة وقسم المهنيين وقسم أساتذة الجامعات وقسم الدعوة وقسم التربية وقسم الأخوات، وقسم الوحدات وهو بحسب وصف الخرباوى المختص يأنشطة الإخوان داخل الجيش والشرطة، ومن رحمها تولد تنظيمات عديدة ويتشكل وجدان شكرى مصطفى الذى انقلب على الإخوان إلى حد تكفيرهم، وأسس تنظيم “,”جماعة المسلمين“,” الذى عرف إعلاميا بـ“,”التكفير والهجرة“,”، وتنفجر طاقات العنف والإرهاب تروع المجتمع وتتهدد الوطن.
كانت انتكاسات المنطقة ومصر فى القلب منها أرضا خصبة لترويج وقبول فكر الجماعة وما انبثق عنها، بدءا من نكبة 48 ووصولا إلى نكسة 67، وارتباكات إدارة الدولة والانهيارات الاقتصادية، وانقلابات توجهات الأنظمة من النقيض للنقيض، واختلالات منظومات التعليم والثقافة بفعل اختراقها من تلك التنظيمات.
لم يكن ما حدث فى 25 يناير منقطع الصلة فى ظنى عن هذا السياق، فقد كانت لحظة فارقة اجتمعت فيها كل المتناقضات، نظام شاخ على مقاعد السلطة، ومعارضة مستأنسة انتهازية فى أغلبها، واقتصاد لا يبرح غرف الاستفاقة بعلاجات متهرئة، وفاشلة، وشباب لا يملك إلا قبض الريح، يتراوح بين طموحات مستحيلة وضغوطات قاصمة، وأمل يسابق السراب، وجماعة ترقب وتخطط وتعقد الصفقات مع من يدركون أن السفينة تغرق، وأجهزة دولية تعرف ثقل مصر وتحرص على حماية ثلاثية النفط واسرائيل والتحكم فى مفاصل المنطقة ومن ثم العالم.
كانت طوباوية وقلة خبرة شباب وحشود يناير الباب الملكى لدخول الإخوان إلى المشهد والقفز على السلطة بأدوات الديمقراطية، فى لحظة مرتبكة، مثلما قفز النازى وهتلر يوما على مقاليد حكم ألمانيا. رأس الحربة فى كارثة الحرب العالمية الثانية التى حولت أوروبا إلى ركام وخرائب.
كانت اللحظة رغم التراتيب المحكمة أكبر من توقعاتهم، فكان أن سارعوا إلى فرض سيطرتهم على مفاصل الدولة، كانت السرعة هى سر سقوطهم، فقد اهتز وجدان المصريين بعد أن شهدوا علامات السيطرة المريبة تتسارع وإقصاء حتى شركاءهم فى التيار تسير على قدم وساق، دعم تخوفات الشارع، التى اصطدمت بجدار الترويع، كتيبة الإعلام وكوادر التنظيم التى تعاملت بصلف وكبرياء مع كل الفصائل وأحكمت قبضتها على الأجهزة السيادية ومواقع الوزارات ومنظومة الحكم المحلى والإعلام مقروءًا ومرئيًا ومسموعًا فى أقل من سنة.
لهذا كانت الثورة الثانية التى وجدت استجابة من جيش الشعب فانتفض داعمًا لأمر الشعب الذى أذهل العالم بالخروج الأعظم فى 30 يونيو، كانت الاستجابة مستوعبة لأخطاء يناير 2011، فأعادت الأمور إلى مسارها الصحيح، ولم تخطفها نداهة السلطة، بل بادرت برسم خارطة طريق تقود إلى دولة مدنية ديمقراطية تقوم على المواطنة.
لم يكن من المنطقى أن يسلم الإخوان ومن والاهم بالهزيمة، فانتفضوا يقاومون ويحشدون فى الاتجاه المضاد، بكل ما يملكون حتى لو كان الثمن مزيدا من الدماء فهذا نهجهم وديدنهم، وبدم بارد يستقوون بالخارج ويستعدونه على الوطن، ويدخلون فى روع البسطاء أن سقوطهم يعنى سقوط الإسلام ــ هكذا ــ ويحاربون معركتهم الأخيرة بضراوة قابلة لأن تنقلب إلى احتراب أهلى بدعم القوى التى ترى فيهم ضمانتهم التاريخية، وهم يدركون حرص الشرطة والجيش على حفظ وصون الدم المصرى.
ولأنهم لا يقرأون التاريخ ويعيشون صدمة انهيار الحلم الذى رتبوا له نحو قرن من الزمان إلا قليلًا، ويدركون أنه لن يعودوا إلى مواقعهم الأولى، فلا يرون أن التاريخ لا يعود أبدًا للوراء وأن مسيرة استرداد الوطن قد بدأت وستستمر ليعود لمصر مكانتها ووهجها ودورها اللائق بها.
ومهما كانت متاعب اللحظة فهى تداعيات انسحاب المخدر من جسد الوطن وسيعود بقوة أعظم وطنًا لكل المصريين متواصلًا مع أمجاد تاريخه الأعرق.