الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التنشئة الاجتماعية وثورة الاتصالات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ينصرف الحديث عن المؤسسات الإعلامية عادة إلى نوع محدد من أنواع الاتصال تقوم به المؤسسات الإعلامية، رسمية كانت أو غير رسمية، إنه اتصال مؤسسي أو وفقًا للتعبير الشائع اتصال جماهيري.. والاتصال الجماهيري يعتبر بمثابة الأداة الأساسية للمركز أو للقيادة أو للسلطة في التعامل الاتصالى بالجماهير، ولكن ثمة نوعًا آخر من أنواع الاتصال هو الأكثر أهمية بالنسبة للأطفال، إنه الاتصال الشخصي المباشر الذي يتم وجهًا لوجه ويجري عادة بين الجماعات الصغيرة.
إن البشر جميعًا أيًا كانت مواقعهم أو أعمارهم أو انتماءاتهم يمارسون الاتصال إشباعًا لحاجة بشرية أصيلة لديهم، ولذلك فإنهم يمارسونه عادة بشكل تلقائي غير مقصود أو مخطط سلفًا، ومع تطور علوم الاتصال اتجهت اهتمامات المتخصصين لدراسة خصائص هذا النشاط التلقائي، ولعل أهم ما توصلت إليه هذه الدراسات فيما يتعلق بموضوعنا أمرين، أولًا:
للاتصال الشخصي الغلبة في مجمل صياغة اتجاهات ومعارف البشر، فمن خلاله تتشكل الاتجاهات الأساسية للأفراد منذ طفولتهم في إطار الأسرة، ثم في إطار المدرسة خاصة بين جماعات الأقران ومن ثم يصبح تعديلها أو التراجع عنها بعد ذلك أكثر صعوبة.
ثانيًا: جماعات الاتصال الشخصي جماعات تلقائية، بمعنى أن الطفل يختار الانتماء إليها والثقة في أعضائها، ومن ثم فإنه يعود إليها لتصفية مضمون الرسائل التي يتلقاها من غير أعضاء تلك الجماعة وخاصة من الكبار، بمعنى تقييم تلك الرسائل والحكم عليها ومن ثم تصديقها والتأثر بها إيجابًا، أو تكذيبها والتأثر بها سلبًا.
من الطبيعي أن تكون الأسرة بمثابة نقطة البداية لممارسة الطفل لمهارات الاتصال الشخصي، ولكن مع تطور المجتمع حضاريًا بضيق نطاق الأسرة ويتقلص حجمها، وتحل الأسرة النووية، أي الأب والأم والأبناء، محل الأسرة الممتدة التي كانت تضم إلى جانبهم الأخوال والأعمام والأجداد.. إلى آخره.
 ومن ناحية أخرى فقد ازداد سمك الجدران التي تفصل بين كل أسرة وأخرى بفضل تطور تكنولوجيا البناء وتشييد العمارات الضخمة الحديثة التي تضم العشرات بل المئات من الشقق التي أحكم عزلها عن بعضها فنيًا، وقد كان المتوقع منطقيًا بعد ذلك كله أن تزداد حرارة التفاعلات الاتصالية الشخصية بين أفراد الأسرة بعد أن تقلص حجمها وأقيمت الجدران السميكة بينها وبين جيرانها ولكن ما حدث هو العكس تمامًا، فثمة جدران أشد سمكًا قد ارتفعت مع التقدم الحضاري بين أفراد الأسرة وبعضهم البعض، وهي جدران أشد إحكامًا لأنها جدران نفسية: كل مشغول بنفسه، يلهث وراء هدفه، لا يكاد يجد وقتًا لمجرد الحديث الشخصي مع بقية أفراد الأسرة هذا إذا ما وجد في نفسه مجرد الرغبة لإقامة مثل هذا الحديث، لقد أصبح الحديث الشخصي الحميم في عديد من الأسر وخاصة في المجتمعات المتقدمة ترفًا لا يستطيعونه، بل وتزيدًا لا يرون ضرورة له، لقد كثر الحديث عما يتصف به عالم اليوم من ثورة في مجال الاتصال، ولذلك فسوف نوجز القول في هذا الموضوع، مكتفين بتأكيد أمرين:
الأمر الأول:
إن من أبرز أدوات تلك الثورة الاتصالية الأقمار الصناعية والهاتف المحمول وشبكة الإنترنت العنكبوتية، ولم يكن من غير المتوقع أن يستوعب الصغار أساليب التعامل مع تلك التقنيات الحديثة بسرعة تفوق سرعة الكبار، ولكن الأمر الذي يستوقف النظر هو ما أحدثه ذلك التفاوت في السرعة من انقلاب في مجال التعليم فيما يتعلق بمُسلّمة أن الصغار يلجأون دومًا للكبار ليتزودوا بما ينقصهم من معارف، لقد أصبح من المألوف اليوم أن يلجأ الكبير أبًا أو أمًا أو جدًا للابن أو الحفيد الصغير طلبًا للعون في التعامل مع البريد الإلكتروني أو الهاتف المحمول أو ما إلى ذلك، لقد أصبح تبادل الأدوار في بعض مجالات العملية التعليمية واردًا بين الكبار والصغار ربما للمرة الأولى في التاريخ البشري.
الأمر الثاني:
أنه لم يعد في مقدور المؤسسات الاجتماعية في أي بقعة من بقاع العالم أن تحجب عن أبنائها بشكل مُحكم أي معلومات تبثها أجهزة الإعلام المحلية أو الخارجية بصرف النظر عن موافقتها أو معارضتها لمضمون تلك المعلومات، تستوي في ذلك الأسرة والمدرسة بل والمسجد والكنيسة والدولة أيضًا، لقد مضى ذلك الزمن الذي كانت فيه تلك المؤسسات الاجتماعية قادرة على إقناع نفسها بإمكانية إحاطة أبنائها بسياج يحول دون وصول المعلومات غير المرغوبة إلى آذانهم أو إلى عيونهم سواء كانت تلك المؤثرات خارجية المصدر أو داخلية المصدر، أما في عالم اليوم فقد أصبحت المعلومات سواء كانت نزيهة أم مغرضة، مرغوبة كانت أم مرفوضة، داخلية كانت أم خارجية، متاحة لقطاعات متزايدة من الأفراد من مختلف الفئات العمرية والاجتماعية.. وغني عن البيان أن الوضع القديم كان مريحًا للمؤسسات الاجتماعية التي كانت تستطيع بمجهود أقل أن تلقن أبناءها وتنشئهم وفقًا للنموذج الذي ترتضيه، في ظل صراع يلتزم -إذا ما قام- بالحدود الداخلية لا يتعداها كثيرًا، ولكن الأمر يختلف تمامًا في ظل عالم اليوم، حيث أصبح الوقوف عند حد تلقين النشء ما نراه طيبًا وتحذيره من مغبة الإنصات أو المشاهدة لما يقدمه "الآخر"، أمر غير مجدٍ عمليًا فضلًا عن أنه لم يعد مستساغًا قيميًا في ظل عالم يتنادى بالانفتاح على الآخرين.
ومن ناحية أخرى فلم يعد النشء في حاجة لأن يجهد نفسه سعيًا لسماع أو مشاهدة ما لدى "الآخر"، بل إن ما يبعث به ذلك "الآخر" أصبح يخترق آذانه، ويقتحم مجال رؤيته، بعد أن تهاوت قدرات المؤسسات الاجتماعية التقليدية وفي مقدمتها الأسرة على الرقابة والتصفية.