الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

محلك سر .. قراءة في حكاية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"سدوم ... سدوم" هى رواية للكاتبة الدكتورة مارلين تادرس المصرية المعجونة بحب مصر، ويأتى انتقائى للرواية بداية لكونها تخترق، وربما لأول مرة، الجدار السميك الذى يحيط بالمجتمع القبطى، المتدين تحديدا، والذى صار حساساً لأى محاولة للإقتراب منه، قراءة أو تحليلاً أو نقداً، وإن كنت اتصور أن هذه الحساسية مردها المناخ المجتمعى السائد وتراكمات الخبرات المؤلمة والتى وصلت إلى إحدى ذراها فى العقدين الأخيرين، ولم تنج منها سنوات ما بعد انفجار 25 يناير الملتبس والغائم، وحتى بعد 30 يونيو، ظلوا فى مرمى نيران التطرف، والتعامل معهم كحاملى رسائل للنظام والدولة، ومازالت احداث 14 اغسطس ماثلة تجسدها الاعتداءات الغادرة على اكثر من 80 كنيسة ومؤسسة خدمية مسيحية.
الرواية لا تتناول موضوعاً دينياً وإنما ترصد واقعاً وتكشف غطاء يخفى وراءه الكثير، ربما تكون محفزة لأقلام أخرى أن تتجاوز خطوط حمراء مفتعلة رسمها أناس إستقرت لهم مصالح استكان الناس لها وصدقوها بل وقدسوها، وربما تسهم فى ولادة أدب عربى بنكهة قبطية، لا بالمعنى الدينى وإنما من خلال ابداعات الإنسان المصرى المثقل بالخلفية القبطية ، وقد يحدث ـ ودعونا نحلم فى عالم فقد القدرة على الحلم ـ التواصل الوجدانى والفكرى والمعرفى من خلال تيار الأدب.
كيف ينصر المصرى المسيحى للأرض والجار والذات، كيف يعيش يومه وينظر لغده، ما هى ملامح طموحاته، وهو متوزع بين جموح اصولية غائمة وشباب يتوق ليتحقق وسط ضغوطات من داخل ومن خارج.
دعونى أنقل لكم بعضاً من انطباعات قراءة أولية لهذه الرواية، سبق وكتبتها فى يوليو 97 على صفحات مجلة سطور، مازلت أراها تتماس مع واقع قطاع عريض وربما ترصده وتشير حتى اليوم الى بعض من جوانب أزمتنا المعاشة، وتكشف قدرة الأدب على تجاوز زمنه المعاش، ربما يكون للعصف الذهنى دوره فى استفاقة نحتاجها.
يأتى العنوان ليهيئ القارئ لفحوى الرواية، والتى ترصد واقع مجموعة متدينة، متخيلة، موقعة على حال مدينة "سدوم" الواردة بالتوراة وقد أُحرقت من جراء خطاياها ولم يوجد فيها حتى "عشرة أبرار" لتنال العفو من الله بحسب الحوار الذى جرى بين الله وأبراهيم فى السرد التوراتى.
وفى الإهداء يتأكد الهاجس الذى يؤرق الكاتبة فتتخطى كل صفوف البشر لتقف بسطورها أمام الله، وقد تأكد لها مصير مدينتها ـ المدانة ـ لتطلب من إلهها أن لا يدمر المدينة، والتى تبدو من الخارج وكأنها مدينة فاضلة وهى من الداخل تئن من الذاتية المفرطة.
فى السطور الأولى تأتى كلمات "احرقوهم .. احرقوهم" ورغم ما تحمله هذه الكلمات من حدة وتنم عن ثورة وغوغائية، فإن الكاتبة تصفها بأنها ترنيمة لها نغمات متصاعدة، فى جو يسوده الهدوء والاتزان، ووجوه المرنمين متشابهة إلى الدرجة التى لا تستطيع معها التعرف على أحد منهم، يسود بينهم الثبات والإستمرارية، ولا أحد يسمع ولا أحد يهتم بأن يسمع، والكاتبة تَجمِل هنا سمات مجتمع الحكاية، الذى تجمد عند نقطة إنفصال الوجدان الذى تحجر وفقد تفاعله مع البشر ومشاعرهم، وتكشف لنا عن منهج ذاك المجتمع فى العقاب، فهو يرى أن "هناك أساليب أخرى غير الحرق والرجم تمشياً مع الحضارة، الكلمات .. الكلمات أقوى أثراً من النار والحجارة" .
وعبر سبعة فصول ـ جاءت عناوينها معبرة ومكملة للمحتوى ـ نتابع لاهثين لقطات بارعة لهذا المجتمع، الذى يمثل جانباً من الكنيسة الإنجيلية لكنه فى حقيقته يصلح ـ مع بعض اللمسات لأى مجتمع متدين على هذا النحو، فالهم الإنسانى كل لا يتجزأ وطالما ابتعد التدين عن مهمته الإنسانية المكلف بها وقع فى هوة التجمد عند حرفية الأداء وتبقى مهمته وسعيه محصورين فى التتميم الآلى لمجموعة ممارسات رتيبة وفاقدة للمحتوى الفاعل فى وجدان هذا الفريق من المتدينين.
تبدأ المصادمة ـ أو المناقضة ـ بين روح النص وجمود الممارسة فى الفصل الأول وفى سطوره الأولى باجتماع يبدأ بقراءة من رسالة القديس بولس الأولى الى مدينة كورنثوس فصل 13، وهى إحدى ذرى نصوص المحبة فى الكتاب المقدس، يليها بعض من ترنيمات المحبة وينتهى الإجتماع بنمطية تتكرر عبر كل فصول الحكاية:
وقف الكل يسلم على الكل.
وقف الكل يتحدث مع الكل.
لم يستمع أحد إلى أحد.
لا وقت لدى أحد من أجل أحد.
وحول هذا التضاد تأتى النماذج المختارة، لتكشف جمود الوجدان، وتكشف المأزق الذى تجتازه الكنيسة؛ الناس والممارسة والأحلام والصدام بين الواقع والنموذج.
الشاب الذى يموت أبوه فلا يشعر بالفقد، ويأتى التبرير "فى الإيمان ... لا دموع".
وقائد القادة بصفاته المثالية كرجل عام له حضور لكن اهتماماته تتخطى الحدود إلى الكنائس خارج الحدود وجمع العطايا، وفى الداخل ينعزل فى صومعته يصلى ويصوم.
والرجل الذى هربت زوجته مع رجل أخر، لا أحد يناقش مشكلة المرأة بل كان الحكم حاسماً وقاطعاً : "زانية" ولم تجد قبلاً من يستمع إليها أو يتحدث معها عن مشاكلها، وتتوه المسئولية ويتنصل منها الكل والمبررات جاهزة، الوصية بحسب الناموس "لا تزن" قد كسرت والعقاب جاهز والعلاج لا محل له.
والساعى للهجرة يتعلق بزعم الرؤى والأحلام وتوجيه الرب المباشر ل، ومع كل فشل ـ عبر فصول الرواية ـ يأتى التفسير بأن توجيه "الرب" قد تبدل (!!) لأنه يحتاجه فى المكان الجديد، ولا يريد رغم تكرر الفشل أن يقر به، ويبرر بقاءه بأن الرب أراده هنا.
والغلام الصغير الذى يسرق من أصدقائه، لا أحد يلتفت إليه أو يستمع إليه فقط يصدرون الأحكام الفورية : الوصية بحسب الناموس "لا تسرق" قد كَُسرت والعقاب قائم والعلاج لا محل له.
والطبيب حديث التخرج تتحطم طموحاته الصغيرة أمام الواقع، يُسلم .. يبتسم .. يتحدث مع الكل، لكن أحداً لا يجيب على سؤاله : هل لديكم عمل لى؟ ولم يساعده أحد ولم يجد عملاً.
والمرأة المدخنة، لإنها سيئة ولها أراء شاذة، ولا تغمض عينيها فى الصلاة، ولا تقول "الرب عظيم" !! لا أحديتحدث معها إلا فى "الصحة، الحياة، الأولاد، الرب".
وخدمة الفقراء تنحصر فى توزيع بعض الملابس القديمة، وبعض الكلمات "عن المسيح" دون تطرق لمشاكلهم، فمجرد معرفة معلومات عن المسيح كفيلة بحل مشاكلهم.
وفرح الصديق سيحتفل به فى فندق بعد استبدال الراقصة والطبال بفريق ترانيم، وسوف يأتى كثيرون من خلاله الى المسيح !! والعروس التى لا ترتدى نظارتها الطبية فترى الناس أشباحاً والأشياء غير واضحة ربما تعبيراً عن حالة عامة.
والمرأة غير المتزوجة ليست حاقدة أو حانقة على الفتيات الأصغر لكنها عنيفة قليلاً مع الخادمات والجرسونات، تصوم وتصلى وتتبع قائدها كما الرب، وتقبل الزواج تحت إلحاح تقدم السن من زوج بدين ممل فقير.
واجتماع السيدات تدور إهتماماته فى دوائر ضيقة، بعيداً عن رسالته الأساسية.
وتعبر الكاتبة عن الرتابة فى العلاقات عبر كل الفصول بدقة تتكرر عبر فصول الرواية، بتلك الجمل القصيرة:
وقف الكل يسلم على الكل.
وقف الكل يتحدث مع الكل.
لم يستمع أحد إلى أحد.
لا وقت لدى أحد من أجل أحد.
وفى نعومة ورشاقة تطرح الكاتبة وترصد بين السطور واقع ذاك المجتمع : الإنبهار بالقادة، الإنفصال عن الأخر، يحكمه الخوف والتصحر الوجدانى، شخوصه صم بكم عميان، أيديهم تشد الإيجابيين إلى أسفل، وتكتشف أن المدينة ـ على عكس الظاهر ـ تكاد تخلو من "الصالحين"، والعلاقات الجافة هى سمة كل علاقات مجتمع الرواية الحسية والعاطفية والإنسانية، والدوامة تبتلع الكل، حتى ما يتلقاه الأطفال من تعليم يتداخل مع الأساطير، وتطور العلاقات بين النماذج ـ المختارة بعناية ـ تصل بنا إلى خواء مخيف، الكل يزعم أنه وجد الطريق، حتى لو كان بالإنتحار الذى يبدو فى وسط الأحداث وكأنه العمل الإيجابى الصادق الوحيد، الرصد عبر صفحات الرواية يكشف لنا عن واقع مخيف إلى حد الرعب، وصدمة الخاتمة التى تحكى عن الجنازة فى أن الحال الذى بدأت به القصة باق كما هو "الصحة عال العال، الحياة تمام، الأولاد أشقيا".
ثم هذا السطر المتسائل فى تهكم وربما فى أسى عن مجتمع الرواية: إلههم .. أليس إلهاً رائعاً ؟.
فى تصورى أن الكاتبة إستطاعت أن تنقل لنا محاكاة للواقع لكن بشكل مغرق فى التشاؤم، ومع ذلك يحسب لها أنها فتحت الباب، ولا يعيبها أنها أخذتنا إلى بحر متلاطم مداده الواقعية لكنها كانت واقعة تحت إلحاح إيراد كل الصورة فى حيز ضيق جعلنا نلهث وراءها، ويُحسب للرواية أنها كشفت للمتلقى أن للإنسان المصرى القبطى همومه الخاصة فى مجتمعه وفى علاقاته البينية فضلاً عن همومه المجتمعية العامة بالمشاركة مع شركائه فى الوطن، ربما تسهم بهذا المنظور فى إلقاء الضوء على جانب من الحياة القبطية تؤكد على إنسانيتها وعاديتها ويمكن التعامل معها على هذا المستوى، لكنها تدق ناقوس الخطر للخروج من المدينة المتناقضة ـ داخلنا ـ قبل ان تحترق.