الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"الجوسقي" نقيب العميان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا يزال البعض يجهل أن الشعب المصري يملك طاقة جبارة، يظن الجاهلون أن بعض رصاصات تخترق صدور الجنود المصريين البواسل من الممكن أن تفت في عضد الشعب أو في عزيمة الجيش، يظنون أن قنبلة هنا أو هناك من الممكن أن تؤثر في نفسية هذا الشعب الجبار، فليكن، أطلقوا أيها الجبناء ما شاء لكم سيدكم من الرصاص، دمروا المباني، فخخوا السيارات، أريقوا الدماء، ولكنكم سترون العجب، لن تلبثوا ساعات هناء أو فرحة، إذ إن هذا الشعب سيلتهمكم، ثم سيبصقكم كما يبصق من فمه نفايات الطعام الفاسد، هل تظنون أننا سنجزع من الدماء، إذن أنتم لا تعرفون التاريخ، كما أنكم لا تعرفون مصر، مصر أيها الجهلاء لا يستطيع أحد أن يصل إليها إلا إذا دخلها مسالمًا، لا مغالبًا أو محاربًا، مصر أيها الجهلاء لا تقبل أبدًا أن يبقى فيها الخونة والعملاء وأدعياء الدين، نعم قد تصبر على بعض من ادعوا السلام، وتحسن الظن بهم، ولكنها حين تسبر غورهم وتعرف حقيقتهم لا تبقي منهم أحدًا، ولكم في الفرنسيين والإنجليز أسوة، وهم الأعداء الذين وفدوا إلى بلادنا تباعًا، فهل بقى منهم أحد؟ ولا تظن أيها الغازي أن لسانك العربي وكلامك عن الدين سيعصمك من أهل مصر، فقد اكتشفوا خداعك.
اسمع مني هذه الحكاية التي استخرجتها لك من بطن التاريخ، وقت الغزو الفرنسي لنا، وقصتنا مع نابليون بونابرت، سأحكي لك هذه الحكاية لتعرف مخزون الصمود والقوة الذي استقر في الضمير المصري، وهل يمكنك أن تقاوم هذا الصمود؟! كان "سليمان الجوسقي" شيخ طائفة العميان وكان شيخًا فقيهًا مجاهدًا حافظًا للقرآن، وكان محبوبًا من العامة والعميان وموضع تبركهم، وقد نجح الرجل بمحبة العميان في أن يجمع ثروة كبيرة عن طريق إدارة أوقاف العميان والتجارة، وعندما اشتعلت ثورة القاهرة الأولى ضد الفرنسيين لجأ إليه العامة خوفًا من بطش العساكر الفرنسيين، فخطب فيهم مشجعًا ومحفزًا على الصمود ودعا الناس الى قتال المحتلين حتى النهاية، وقال في خطبة بليغة سجلتها كتب التاريخ: "إنكم بشر مثلكم مثلهم، فاخرجوا إليهم فإما أن تبيدوهم أو يبيدوكم" وبدأ الشيخ سليمان الجوسقي بنفسه فأخرج ما لديه من مال - وكان ثريًا - واشترى به سلاحًا ووزعه على الناس، وبث العميان في أنحاء القاهرة ليأتوا إليه بالأخبار، وانتقل الى الأزهر لينظم المقاومة من داخل الجامع الشهير.
ويحكي المؤرخون أن الشيخ الكفيف كان يشق بحماره القاهرة متفقدًا الاستحكامات والمتاريس ويستطلع احتياجات المجاهدين ويأمر بإرسال السلاح والمؤن الى الأماكن التي تحتاج إليها، وينفق في ذلك عن سعة، كما يقال إنه استخدم بعض جواريه - وكن فائقات الجمال - في اصطياد عساكر الفرنسيين الى الحارات المظلمة والطرق الضيقة وقتلهم هناك.
المهم أن نابليون أراد يومًا أن يضحك على دقن الشيخ الجوسقي ويستعمله لصالحه، فقال له وهو يحاوره أمام جمع من أهل مصر: أنا مسلم شيخ "كوسكي" أحب الإسلام وأحب تطبيق (السريعة)، ضع يدك في يدي وأنا أجعلك حاكمًا على القاهرة، فوافقه الشيخ الجوسقي ظاهريًا ومد يده له إذا بيد الشيخ الجوسقي ترتفع وتهوي على صدغ نابليون ليأخذ بونابرت قلمًا كبيرًا لم يأخذ مثله في حياته، ارتعد نابليون مما حدث وهاجت الحارة فتدخل الجند وفرقوا أهل الحارة وتم اقتياد الشيخ الجوسقي بواسطة عساكر الفرنسيين الى سجن القلعة لاستجوابه ومحاكمته، ولم ينكر الرجل مشاركته في الثورة ضد الفرنسيين ولا لطمه نابليون، ولم يتم إعدامه مع قادة الثورة الذين أعدمهم الفرنسيون رغم إدانته لكونه كفيفًا، وظل في السجن عدة شهور حتى لقي ربه، مات الجوسقي ولكن لم يستطع أحد أن يضحك على مصر باسم الإسلام والشريعة.
أما أنت أيها الجندي المصري العظيم الذي يسقط كل يوم شهيدًا، أظننا نقول: إنك الذي تسقط مضرجًا في دمائك الزكية واهبًا حياتك ثمنًا لعز مصر، ويا أيها الشهيد الذي قتلوه غدرًا ولايزال دمه يختلط بأرض مصر، سأقول لبني وطني إنك لم تسقط مضرجًا في دمائك، فالشهداء لا يسقطون ولكن يصعدون، أنت صعدت ملفوفًا في دمائك المقدسة، فمنها ستكون عزتي، أنت الآن في سماء الحقيقة المطلقة، حيث لا مكان للمزيفين وأدعياء القداسة.