الأحد 02 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

وداعًا أيها الغريب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا يعرف الكثيرون محمد إبراهيم مبروك، ولا يعرفه الشباب الذين يكتبون الآن إلا نادرًا.. وأعني به كاتبًا كبيرًا للقصة القصيرة، وموته يعيد إلينا على الفور ذكرى الأيام التي لا تنسى في نهاية الستينيات حين ظهر جيل من الكُتاب رأوا أن يختلفوا عما قبلهم، قاموا بحركة تجديد كبيرة في القصة القصيرة على نحو خاص، ورغم أن التجديد سبقهم إليه كُتاب كبار مثل يحيى حقي ويوسف الشاروني وادوار الخراط ومحمد حافظ رجب، إلا أنهم كجماعة أصبحوا ظاهرة في مصر والعالم العربي ولم يعد التجديد رهين فرد أو فكرة، وكان تجديدهم أكثر مغامرة، كان محمد حافظ رجب على وجه خاص هو المقدمة الكبيرة لهم، لقد هشّم الزمان والمكان والبشر والجماد، صار له وجود فاعل ربما أكثر من البشر، واستخدم جملًا جديدة وصورًا غير مسبوقة وأتاح لنفسه من الحرية في التشكيل للبناء القصصي ما لم يفعله كاتب من قبل، كاتب جبار سبقهم جميعًا مثل يوسف إدريس أتاح لنفسه الحرية في موضوع القصة وشكلها لكن في موضوعها أكثر ثم كان بعد ذلك من الكبار في ابتكار أشكال جديدة أيضًا.. أسماء كُتاب الستينيات كثيرة ومنهم مَن ظلم من زملائه أنفسهم الذين تجاهلوه وتجاهلوا وجوده رغم أنه من الكبار جدًا لكن هذا لا يهمنا الآن، يهمنا الراحل المجدد الكبير محمد إبراهيم مبروك الذي حين نشر قصته الأولى "نزف صوت صمت نصف طائر" هاجت الدنيا وماجت ليس استنكارًا بل محاولة للفهم، وكان استخدامه للغة أمرًا شديد التعقيد على القارئ العادي الذي تعود على التسلية أو حتى بذل مجهود قليل، لكن القصة تبعتها قصص وصار محمد إبراهيم مبروك مثلًا خاصًا على التجديد في الكتابة والصورة الأدبية، وأصبحت قصصه محل دراسات شبه أسبوعية في المجلات والصحف العربية والمصرية.. التقيت به في أوائل السبعينيات في الإسكندرية وهو سكندري عاش في القاهرة، زارنا في قصر ثقافة الحرية وكان معه الشاعر عزت عامر المجدد أيضًا في قصيدة النثر أطال الله عمره، واجتمعنا معًا وبعض الأصدقاء بعد الندوة في مقهى على البحر. وكان مبروك طوال الجلسة بسيمًا لا يكف عن الضحك والتفاؤل، انتقلت إلى القاهرة وعشت فيها وصرت أقابله كثيرًا ثم تباعدت اللقاءات وتباعدت أكثر بسبب الحياة وزحامها علينا، وعرفت منه أنه يدرس اللغة الإسبانية ثم مرت الأيام وعرفت أنه يترجم منها أيضًا، أصدر كثيرًا من الأعمال الأدبية لأدباء أمريكا اللاتينة التي كانت قراءته لماركيز كما يقول سبب هذا التحول الكبير، كان يريد قراءة أدب أمريكا اللاتينية في لغته، عكف على الدراسة ثم الترجمة بحب وصدق واستغنى بهما عن العالم وعن كتابة القصة.. لماذا توقف محمد إبراهيم مبروك عن كتابة القصة ولماذا لم ينتقل مثل أبناء جيله إلى الرواية؟، بدا لي مبروك قد اختار الانفراد بنفسه والاستغناء عن العالم الذي يزداد قبحًا حوله، لم يعد يرى فائدة لا في اليمين ولا في اليسار! ويعبر عن ذلك إذا احتدم الحديث ببسمة الرافض القانع بما استقر في روحه، بدا لي وهو الذي يطل الاغتراب قويًا من قصصه قد اختار أن يكون غريبًا رغم ما حققته له الترجمة من وجود فاعل، كانت أكثر ترجماته للقصة القصيرة حبه الكبير، وكأنه أيضًا يقول نحن على خطأ كبير إذ نضع هذا الفن العظيم خلف الرواية الآن، لم يعد النقاد ينشغلون بالقصة القصيرة، اكتفى بما قدم وكانت صرخة صارت في وادٍ للأسف.. ذكرى رائعة على عصر من التجديد والمغامرة انتهى لصالح الاستسهال والسرعة، كان يعرف ذلك ولا يشغله ولا يجعله موضوعًا، لقد لاذ بكنز من الخيال أبى إلا أن يعرفه بنفسه وفي لغته، الإسبانية.. وظل مبتسمًا لا تختفي ضحكته، فعل ما يريد من اعتزال إيجابي.. رحمك الله عزيزي محمد لقد كنت لنا يومًا هاديًا ودليلًا جميلًا كما كنت إنسانًا رائعًا.