الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

من قلوبنا.. "سلام لفيروز"

من قلوبنا.. سلام
من قلوبنا.. "سلام لفيروز"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

عام "1994"، بعد سنوات من الصمت، خرجت لتبحث عن شادي، ذلك الصغير الذي تركها حين اندلعت الحرب بلبنان، ووقف أعلى التل ليرى تلك البنادق التي بدأت في تدمير لبنان بكل ما يحمله من جمال، حاولت منعه ولكنه تركها وذهب، وبدأت هي تكبر يومًا بعد يوم، وشادي ما زال صغيرًا يلعب بالثلج.


وبعد انتهاء الحرب، خرجت "فيروز" عن عزلتها وصمتها، وبدأت تبحث عن ذلك الصغير، بخطوات بطيئة وثابتة، تحركت ووقفت أمام الميكرفون لتصوب عينيها ناحية الأرض، ويعلو صوتها تطالب الصغير بالعودة، ظلت تبحث عنه ولكنه لم يكن بين كل تلك الحضور الذين تخطى عددهم الخمسين ألف، ناهيك عمن تابعو تلك الصرخات على شاشات التلفاز، والذين تخطى عددهم المليون والربع مليون.


وقفت على أرض الشهداء، وهي ساحة دمرتها الحرب، ودمرت كل من عليها، وجاء الحضور من جميع بلدان العالم، لعلهم يجدوا في صوتها شفاءًا لكل تلك الجروح، وقفوا حيث لا مكان للجلوس، ووقفت هي أعلى خشبة ليراها الجميع، وبعد عدة سنوات من الصمت غنت وغنى معها لبنان بكل طوائفه، التي أغارت على بعضها البعض، "سنرجع يومًا إلى حينا ونغرق في دافئات المنى سنرجع مهما يمر الزمان وتنئي المسافات بيننا".


لم تكن تلك الكلمات التي قدمتها فيروز لطوائف لبنان غريبة على أسماعنا، فرغم كونها مسيحية، لكنها لم تأتى على طرف لحساب الآخر، فهي التي وقفت في باريس وقالت "لبنان باعتلك بقلبي سلام ومحبة وبيقلك لبنان رح نرجع ونتلاقي عالحب والصداقة"، كان ذلك في حفلة الأولمبياد في فرنسا، فرغم كل ما قامت به الأخيره في حق لبنان فترة الاحتلال، ولكن ظل لبنان مسامحًا شامخًا منتصرًا بصوت فيروزانتهت حفلتها بساحة الشهداء، والتي كانت عام 1994، وعادت فيروز مرة أخرى لعزلتها، فكانت قليلة الحديث، وكنا لا نعرف أخبارها سوى من جارها القمر، الذي غنت له يومًا "نحن والقمر جيران".


في خطوات ثابتة تحركت فيروز على المسرح، وقفت أمام الميكرفون مرة أخرى، وبدأت تشدو "لبنان الجريح"، الجميع كان في لحظة شوق لذاك الصوت الذي غاب عن دمشق كثيرًا، وبدأ الجميع يتمايل معها كما تتمايل الرياح لتعانق الزهور، ولكن كم من الحاضرين كان يعلم أن فستان فيروز ممزق، نعم فقد تمزق زيله وهي تتحرك باتجاه المسرح، رفضت أن تعود مرة أخرى لتبدله، حيث لملمته ووضعته على يدها وغنت لجمهورها كي لا ينتظرها أكثر من اللازم.


وتحركت فيروز ليصفق لها جمهورها تصفيقًا حادًا حين وجدها على مسرح بيت الدين عام 2000، بدأ الكورال يغني "تلفن عياش"، وتغنت بنصيبها من الأغنية، وكان من المفترض أن يكمل الكورال غناء الأغنية بالكامل، لكنها لم تتمايل على المسرح أو تطلب كرسي للجلوس عليه.

وفجأة بدأ الجميع يصفق ويصرخ، متناسين ما يقوله الكورال ففيروز التي تخطت الستين عام آن ذاك جلست على أرض المسرح حتى انتهى الكورال كلماته، وبدأت في الأغنية التالية.


 

فيروز التي نعرفها، تلك التي رآها الجميع وهي تتشح السواد يوم رحيل زوجها عاصي، ولكن التي لا نعرفها هي التي اختبأت عينيها خلف نظارتها، وهى تذرف دمًا على وطنها وزوجها في آن واحد.

وباتت فيروز تخرج أوجاعها كل عام في أسبوع الآلام، لتجسد مدى حزن العذراء على ولدها، حيث نراها كل عام وهي راكعة على ركبتيها أمام الصليب، وتقول بوجع أم ذاقت مرارة فراق زوج وإبن نائحة المسيح بصوت مريم العذراء "حبيبي حبيبي يا ولداه خاطبنى كيف أراك عريان ولا أبكيك يا ابني أوجاعك حرقت أكبادي، آلامك خرقت فؤادي، أحياة لوالدتك يا ولداه بعد موتك"، وقف الجميع آنذاك في ذهول، وبدأت العيون تذرف دموعًا على حرقة الفراق، وأصبح صوتها في عيد القيامة شيء مقدس ينتظره الجميع كل عام.


فيروز تلك التي استطاعت أن توحد الجميع على صوتها، كان مصيرها في النهاية أن منعها منصور، شقيق زوجها، من الغناء، والجميع يعلم تلك القصة التي باتت حديث الصحف والمجلات.

 

وهي نفسها فيروز التي رفضت أن تغني لرئيس الجزائر في حفلة خاصة له أثناء زيارته للبنان، وقالت:"أنا صوتي ملك الشعب وليس ملكًا لأفراد"، لذا وجب علينا في عيد ميلادها الثمانين وبعد كل ذلك العطاء الذي قدمته أن نقف جميعًا ونقول لها "لفيروز من قلوبنا سلام لفيروز".