الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

اطفئوا الشمعة الـ 79 النهاردة عيد ميلاد فيروز.. خلطة إبداع من الزمن الجميل..غنت ومثلت سينما ومسرح.. بدأت الفن من بوابة إذاعة بيروت بأغنية لأسمهان.. وذاع صيتها مع النجم الساطع آت و"عتاب"

فيروز
فيروز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

هي: كوتيل فن من الزمن الجميل، أسعدت الملايين بصوتها العذب الحنون ووحدت العرب تحت راية الحب والسلام، ماذا يمكن أن نقولُ فيمَن صوتُها بوّابةٌ للعبور ننتقل بها من صقيع أيامنا وقسوة آلامنا إلى مساحات لا متناهية من الجمال الوارف..وكأنّها الشَّمسُ أشرقَتْ علينا والجمالُ الذي استوطنَ قلوبنا.

وهي أيضا، شمسٌ دافئةٌ أرسلَت خيوطها لتنمو عليها أغاني الخريف بورقه الأصفر فتعانق حكايات الربيع في ليالي الشتاء، حاملةً معها أسرارَ البحر والقمر، على أنغام صوتها يلتقي المغتربون على جسر العودة ململمين ذكرى لقاء الأمسِ بالهُدُبِ.. نتحدث عن فيروز صوت الجبل في لبنان، وصاحبة النجم الساطع آتٍ.

وُلدت نهاد حدّاد شهرة " فيروز "، في 21 نوفمبر عام 1933، كأوّل مولود لوديع حدّاد وليزا البستاني.

لم يكن أحد ليدرك أنّ تلك المولودة الّتي أطلّت في ذلك اليوم القارس البرودة، ستبلغ من الشهرة والنجاح ما لم يصله أحد، لتدخل قلوب الملايين، وليصبح لقبها"سفيرة البشر إلى النجوم ."


في منزل العائلة المتواضع والمؤلّف من غرفة واحدة ترعرعت "نِهاد حداد" الأكبر سنًّا بين إخوتها" هدى، آمال، جوزيف" وربّما كانت بداية فيروز مع الغناء ليست إلّا هدهداتها العذبة لأخوتِها الصغار يحنو بها صوتها الشجي قبل أن تسرقهم يدُ الوسن أوّل الليل.

وكما قُدّر للطير أن يحلّق، وللماءِ أن ينساب في جدوله، وكما كُتب على الفراشة الجمال كنصيب لا مفرّ منه، كذا كان قدرُ فيروز مع الغناء، وكأنه أحد القراراتِ المحتَّمة التي اتّخذتها الطبيعةُ فمدّت حنجرة فيروز بكلِّ الجمال والقوّة، تلك الفتاة التي يزيّن محياها خفر هادئ رزين، لم تكن لتنفض عنها خجلها إلّا في لحظات الغناء، تلك اللحظات التي تستطيع أن تُدخِلها في أثير يحتضن روحها وكأنّها في عالمِها الخاص الذي لا ينتمي إليه أحدٌ سواها، عالم من نور استمرَّ منذ تكوينه في إضاءةِ العتمة داخل أرواحنا.

تلقّت " نهاد حداد " تعليمها في مدرسة سان جوزيف في العاصمة بيروت حتى بدأت الحرب العالمية الثانية فاضطر والدها لنقلها إلى مدرسة عامة انضمّت لاحقًا إلى كورالها.


في الرابعة عشر من عُمرِها كان الحظ حليفها حين سَمِعَ الأستاذ في المعهد الموسيقي اللّبناني" محمد فليفل" صوتها خلال بحثِهِ عن أصوات شابّة بغيةَ ضمِّها إلى كوراله لغناء الأناشيد الوطنية في الإذاعة اللبنانية..

كان لـ"فليفل" الفضل الكبير في أن تُكمِل فيروز تعليمها في المعهدِ الموسيقي اللّبناني والّذي بدورِه هذّب وشذّب صوتها، كما علّمها تجويد القرآن الكريم.

استمرّت دراستها في المعهد الموسيقي الوطني مدّة أربع سنوات، لتتقدّم بعدها ضَمن باقة من المواهب إلى الإذاعة اللّبنانية.

هناك وقفت "نِهاد" شابة في مقتبل العمر، جميلة وخجولة، لكن تمتلك أوتار حنجرية ذهبية وإحساس لا مثيل له ليُدهش هذا المزيج الساحر اللجنة المكلَّفة بفحص الأصوات والتي كانت مؤلفة مِن:" حليم الرومي، نقولا المنى، خالد أبو النصر وآخرين "..وكانت أغنية "يا ديرتي" لأسمهان بوابة العبور التي اخترقت الحواسّ والتي جعلت حليم الرومي يتوقّف عن العزف في وسط الأغنية لدهشته وكأنَ الأوتار تقف مُنْصتةً أمام هيبة هذا الصوت وجلالته، وبعمق براءتها وبساطة عفويتها استمرّت فيروز لتغني مطلع "يا زهرة في خيالي" لفريد الأطرش ثم ما لبثت أن أُحيطت بأعضاء اللجنة الذين أثنوا مطوّلًا على صوتها الساحر.

وهكذا تحقّقت أولى أماني فيروز على بساطتِها بأن تعمل كمغنّية في جوقةِ إذاعة بيروت، هكذا كانت البداية، مُشْبَعةً بالعذوبة والقيم الإنسانيّة ومفعمة ببساطة الحياة بعيدًا عن تعقيداتها. حتى صار صوتُها مبعثًا على السلام الداخليّ في كلِّ مرّة يزور صباحنا من حدود الأمس كالحُلُم مُلقيًا التّحيّةَ على أرواحِنا التعِبة ومُزيلًا غبار الهموم والأعباء اليومية عن كاهلنا، باعثًا الحياة في حبّات البنّ مجدّدًا نكهة الحنين والأمل في أيّامنا.

اللحن الأول الذي لَبِسَ صوت"نهاد حداد" كان لـِ"حليم الرومي"، من كَلماتِ"ميشيل عوض"، وبُثّت للمرّة الأولى على الأثير في الأول من نيسان عام 1950.


اللحن الأول الذي لَبِسَ صوت"نهاد حداد" كان لـِ"حليم الرومي"، من كَلماتِ"ميشيل عوض"، وبُثّت للمرّة الأولى على الأثير في الأول من نيسان عام 1950.

عام واحد فقط أضاف إلى رصيد"نِهاد" أغاني متنوعة مختلفة الأنماط واللهجات ولعدّة ملحنين على رأسِهم حليم الرومي، خالد أبو نصر، نقولا المنى، مدحت عاصم، محمد محسن، توفيق الباشا وآخرون.

لم يكتفِ "حليم الرّومي" بإعطاء ألحانِه لـ"نهاد حدّاد"، بل أعطاها اسمًا يليق بصوتها فكان اسمُ "فيروز" الذي سيرافقها في مسيرة طويلة ولتحمل هذهِ الحروف الخمسة معنى واحد فقط منذ الآن فصاعدًا..

البداية كانت مع أغنية "عتاب" من ألحان عاصي، وهي الأغنية الأولى التي لفتت الجميع إلى الصوت الباهر الجمال المفعم بالإحساس. ليصبح هذا الثالوث المقدّس مع مرور الأيام صرحًا فنّيًا عملاقًا..لكن البداية كانت بإيمان شاب بسيط يُدعى"عاصي الرحباني" بصوت صبية واعدة تُدعى"فيروز".

عَمِلَ عاصي مع منصور على تمكين "فيروز" من الأسلوب الشرقي في الغناء، ليشقّوا لاحقًا طريقًا مميّزًا اعترف عليهِ اصطلاحًا بـ"الفن الرحباني".

وبمباركةِ الموسيقى تلاقتِ الأرواح فتشابكت في عالم الحب، ليتكلّل هذا الحب الفريد بين عاصي وفيروز بالرابط المقدّس وليتزوّجا في عام 1954.

 


تفتحت الابواب أمام صوت فيروز، فتتوالى الدعوات من الإذاعات المختلفة لتغني عبر أثيرها، وكانت إذاعة دِمشق سبّاقة في ذلك، كما أنّ إذاعة صوت العرب في مصر أرسلت أحمد سعيد، المعتمد الرئيسي فيها، إلى لبنان ليعقد اتفاقًا مع الثلاثي،الأخوين الرحباني وفيروز.

وفي عام 1955 حطّ الثلاثي رحالهم في القاهرة، حيث كتبوا أهم أعمالهم الموسيقية آنذاك: "راجعون" كما غنّت فيروز العديد من الأغاني كثنائي مع الفنان المصري كارم محمود.

كانت ولادة ابنِها البكر "زياد الرحباني" عام 1956 لتنطلق في العام التالي بأول أداء لها أمام جمهور عريض وفي مكان عريق لكن فيروز وكأنّما قُدّر لها أن تقف في بعلبك منذ الأزل فكانت رهبة المكان جزءًا لا يتجزّأ من سحر وعنفوان صوتها. وكان الحفل الأول لها في بعلبك عام 1957 ليأتي العرض الثاني لها في نفس المكان عام 1960 بعنوان "مواسم العز"، في 1961 عرض "البعلبكية"، "عودة العسكر في 1962.

 


انطلاقتها السينمائية الأولى كانت مع المخرج يوسف شاهين، في واحد من أشهر الأفلام. إنه "بياع الخواتم" الذي كان مسرحية قبل أن تلتقطه الشاشة. أدّت فيروز دور "ريمة" أمام المختار "نصري شمس الدين"، وغنّت فيه مجموعة من أجمل أغنياتها، مثل: "تعا ولا تجي"، "يا مرسال المراسيل"، "على مهلك يا با على مهلك"، "بياع الخواتم"، وغيرها.

ثم انتقلت فيروز من كاميرا شاهين إلى بروجكتور "هنري بركات" عام 1967، ذلك المخرج العبقري الذي منحها دور "عدلة" في فيلم "سفر برلك"، وكان من تأليف الرحابنة وكامل التلمساني، ودائمًا بحضور نصري شمس الدين، حيث قدمت في هذا العمل مجموعة من الأغاني منها: "يا أهل الدار"، "دوارة عالدوارة"، و"علموني".

ويبدو أن فيروز فضلت المسرح على السينما، إذ أنها بعد "سفر برلك"، لم تقدم سوى فيلم واحد هو "بنت الحارس" عام 1971، حيث أدت دور بطلة القرية "نجمة" التي تتنكر في زيّ "أبو كفية" لتقبض على اللص الذي يسرق بيوت السكان، وقد كان الفيلم من إخراج "هنري بركات" أيضًا، وشارك فيه نصري شمس الدين كالعادة، مع مجموعة من النجوم، منهم: عاصي الرحباني، إلياس رزق، ومارسيل مارينا. وفي هذا الفيلم نجد أغنيات خالدة، منها: "يلا تنام"، "يا عاقد الحاجبين" و"اطلعي يا عروسة".

 


لم تقدم فيروز بعد هذا الفيلم أي دور آخر في السينما، واكتفت بالمسرح الذي فضلته على السينما، فنجد لها أدوارًا رائعة في مسرحياتها الغنائية، مثل: "زاد الخير" في ناطورة المفاتيح، عام 1972، ووردة في مسرحية "المحطة" عام 1973، و"زيون" في مسرحية "ميس الريم" عام 1975، والملكة شاكيلا في مسرحية بترا عام 1977، وكان هذا الدور آخر دور لفيروز على خشبة مسرح، حيث كان عمرها في حدود 42 عامًا.

قدمت " فيروز " صاحبة الصوت الملائكي 13 مسرحية وثلاثة أفلام فقط، خلال 15 سنة، لكنها داخل هذه الأعمال، غنّت عشرات الأغاني التي ستبقى خالدة إلى الأبد، وجزأ" من ذاكرة الطرب العربي في زمنه الجميل.

شَهِدَ عام 1962 المسرحية الغنائية الأولى لفيروز بعنوان "جسر القمر"، ولعلّ البداية هي أصدق قراءة في ما سيأتي مع قادم الأيام من نجاح باهر منقطع النظير لما يُدعى بـِ"المسرح الرحباني"، في العام التالي كانت مسرحيتها الغنائية الثانية "اللّيل والقنديل".

وفي غمرة النجاحات المتوالية، كانت فيروز تحافظ على إطلالتها مع جمهور عريض تُخطف أنفاسه بمجرد ذكر اسمها..

 


وحين تُذكر حفلات فيروز الأولى، لا يعود من الممكن إغفال إطلالات "معرض دمشق الدولي السنوية، حيث غنّت فيروز أجمل القصائد في دِمشق وباتت حفلاتها حدثًا سنويًا يُنتظر بشوق وشغف، ومناسبة للاحتفال بكل معاني الجمال والبهاء التي تستحضرها فيروز في صوتها، وروحها.

في عام 1964 كانت مسرحيتها الغنائية الشهيرة "بياع الخواتم" والّتي تمَّ تحويلها إلى فيلم سينمائي تمَّ عرضه بعد عام واحد فقط.

1966 كانت مسرحية "أيام فخر الدين" وفي عام 1967 كان فيلمها الثاني بعنوان"بنت الحارس" وفي نفس العام كانت مسرحيتها الشهيرة" هالة والملك".

في عام 1968 كان لفيروز إطلالات على جمهورها العربي في المغرب العربي (تونس، الجزائر..) نجاحات متلاحقة، جمهور نهم لا يشبع، وفيروز لا يُرتوى مِنها.

تتوالى مسرحيات فيروز وتتوالى النجاحات.. مسرحية"الشخص" 1968، فيلمها الغنائي "سفر برلك" في نفس العام.

"جبال الصوان" في 1969، "يعيش يعيش" 1970، "صح النوم" 1971، "ناطورة المفاتيح" و"ناس من ورق" 1972، "المحطّة" 1973،"لولو" 1974، "ميس الريم" 1975، "بترا" 1977.

في عام 1970 كان جولتها الناجحة في البرازيل والأرجنتين، في العام التالي كانت جولة أمريكا (حفلات بوسطن، نيويورك، ديترويت، لوس أنجلوس، سان فرانسيسكو) والتي لاقت نجاحًا منقطع النظير.


تلاحقت الحفلات في لندن( حفلة الرويال فيستفال)، بغداد، القاهرة، المغرب، الكويت. كما شهِد الثالث والرابع من أيّار عام 1979 حفلتان في الأوليمبيا، باريس، استراليا، كندا..

شاءت الأقدار أن تنتهي المسيرة مع رفيق الدرب "عاصي" بعد أن رحل صبيحة 21 يونيو عام 1986

لكن لا الدرب انتهى ولا المسيرة توقفت.. ألبَس زياد الرحباني-الابن- صوت فيروز حلّة جديدة، مبتكرة، حالمة، وبنكهة حديثة تحمل عبقرية الابن، وأصالة الأب، وتراث رحباني كامل مُختمر لا يفقد شيئًا من رونقه بل يزداد لذّة في كل مرّة ينفخ فيه زياد من روح الحداثة لتعود فيروز وتغنّيه...وليعود جمهورها مخمورًا منتشيًا.

 تتوقف المسرحيات لكن الألبومات تتوالى "معرفتي فيك"، "كيفك أنت"، "وحدن"، "إلى عاصي"، "مش كاين هيك تكون"، "ولاكيف"، ليأتي ألبومها الأخير وليس الآخر "في أمل"، غنّت السيّدة فيروز الشعر الحديث، القديم، رتّلت، وصَلَّتْ، أنشدت الأغاني الشعبية والتراثية، غنّت للحب، للفرح، للحياة، للوطن، للحرّية، للجمال، للإنسان..


جمعت أغانيها الّتي تُقدّر بأكثر من 800 أغنية، قامات عِملاقة كتابةً وتلحينًا إلى جانب الأخوين الرحباني، تألق صوتها بكلماتِ سعيد عقل، طلال حيدر، نزار قبّاني، جوزيف حرب..ولَمع جوهره بألحان فيلمون وهبي، محمد عبد الوهاب، نجيب حنكش، زكي ناصيف، حليم الرّومي..

ويكفي عن فيروز ما كتبه الكاتب الكبير أنسي الحاج في جريدة الأخبار بعنوان "أحبّها بإرهاب ": قال الحاج: ".. ليكن للعلماء علم بالصوت وللخبراء معرفة، وليقولوا عن الجيِّد والعاطل، أنا أركع أمام صوتها كالجائع أمام اللقمة، أحبه في جوعي حتى الشبع، وفي شبعي أحبه حتى الجوع، أضم يديّ كالمصلّين وأناديكَ: إحفظْها ! إحفظها ".