السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

محمود صلاح يكتب: مذكرات الرئيس السادات في السجن! (4)

محمد انور السادات
محمد انور السادات
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"الفصل السابع"
أنور السادات: آمنت بالله.. نار الحاكم العسكري ولا جنة النيابة!
خلال فترة محاكمته في قضية اغتيال أمين عثمان. قضى اليوزباشى أنور السادات 913 يومًا في السجن، وفيما بعد تبين أنه كان يكتب بعض مذكراته على شكل يوميات عن ظروف السجن والأحداث التي كان يعيش فيها، والشخصيات الغريبة التي التقاها داخل السجن.
وقد نشرت مجلة "المصور" فيما بعد ذكريات السادات عن أيام السجن. تحت عنوان "30 شهرًا في السجن ـ صندوق الدنيا في محكمة الجنايات"!
وكتب السادات في يومياته داخل السجن يقول:

21 يناير 1946:
يظهر أن خطابى للنائب العام أحدث أثرًا، فقد أحضر لى مأمور السجن ملابسى، وكذا أحضر الصابون..
لا أريد أن أفكر فإننى أشعر بأسئلة عديدة تؤرقنى ولا أجد لها جوابا، فان هيكمان يتغير في كل لحظة كما يبدو لى بشكل جاف لا أدرى له تعليلا.
الفسحة في السجن معدومة، وأكاد أقضى الأربع والعشرين ساعة في الغرفة، وهى مظلمة وشديدة الرطوبة لأنها في الدور الأول على سطح الأرض.. ولما طلبت تفسير ذلك من هيكمان هز رأسه ولم يجب !

22 يناير 1946:
أصبحت الحالة لا تطاق ـ فلم يسمح لى الضابط النوبتجى اليوم بالتوجه إلى دورة المياه في الصباح كالمعتاد وعبثا حاولت التفاهم معه، ولم ينقذ الموقف إلا نزول هيكمان من منزله فسمح لى بأن أقضى حاجتى وأتوضأ...!
وقد كتبت للنائب العام مرة ثانية أعلمه بهذه المعاملة الشاذة، فطلبنى وكيل النيابة عند الظه وأثبت شكواى، وخاصة فيما يختص بالسماح لى بالقراءة ولكنه، سامحه الله لم يسمح لى بشىء حتى ولا بالمصحف الشريف.

27 يناير 1946:
خرجت اليوم للفسحة فقابلنى شاب أخبرنى أنه صحفى معتقل على ذمة قضية صحفية وأخذ يحدثنى عن قضييته ثم تدرج إلى التحدث عن السياسة والإنجليز والذين يتعاونون معهم وكيف أن الكفاح الحق يجب أن يتجه أولا إلى القضاء على هذه الفئة من المصريين لأنها طابور خامس يكمن في ظهر البلد.. إلخ وكنت طوال الوقت أقوم بدور المستمع، سكت "الصحفى" قليلًا وعاد يخبرنى أن الغرفة التي أسكنها وهى رقم 6 كان يسكنها في وقت من الأوقات شقيق منصور الذي أعدم في قضية اغتيال السردار وكيف تمكن البوليس والنيابة من أخذ الاعترافات منه، فقال إنهم لم يكونوا يسمحون له بالنوم، ثم يأخذونه في ساعة الفجرية وهى ساعة "النومة الحلوة" في عربة حنطور ويمشون بها على النيل ويأمرون شقيق منصور بالوقوف طول الوقت، حتى إذا أخذته سنة النوم أيقظته أسنان سناكى المرافقين له، وبذلك وبطرق أخرى "لم يوضحها" تحطمت أعصاب المتهم وأدلى باعترافه، وعاد الصحفى إلى السكوت فترة أخرى وهو ناظر إلىّ في إشفاق ثم قال لى إنه علم من أحد العساكر السجانين أن الغرفة رقم 2 " وهى مقفلة دائمًا ويسدل خلف بابها ستار سميك بخلاف جميع غرف السجن " تحوى سرًا غريبًا، وهو أن بها آلات وأجهزة تركب على الجهاز التنفسى للإنسان وعلى رأسه ليصبح في غيبوبة، يدلى فيها بكل ما في قلبه من أسرار يحرص على إخفائها وهو في حالته الطبيعية! ولاحظ صاحبنا أننى لا أتكلم مطلقا واكتفى بأن أظهر له علامات عجبى من آن لآخر فسألنى لماذا لا أتكلم وأخبره بالحقيقة عله يتمكن من مساعدتى قانونيًا، فقلت له بهدوء "أنت بتمسك كام ساعة نوبتجية"، فرد على الفور بدون تفكير: " 12 ساعة " ثم أحمر وجهه وأدرك خطأه فقام في الحال وتركنى.. وحضر إلى السجان يعنفنى لأننى تأخرت في الطابور ويأمرنى بالذهاب إلى غرفتى فقمت وأنا أضحك في كمى.

30 يناير 1946

حدث في الساعة الثالثة من صباح اليوم مشهد مسرحى رائع ! فقد استيقظت في الساعة الثانية صباحًا على صرير فتح القف ودفع المزلاج بشدة للخلف ثم دخل الضابط الجزار وطلب إلى أن البس لأننى مطلوب للتحقيق، فقمت من تحت البطاطين على السرير لانتظر ما يقرب من ساعة في جو هو الثلج تمامًا، ثم عاد الجزار وقادنى إلى الطرقة الخارجية حيث وجدت ثلاثة شبان ينتفضون من شدة البرد مثلى، وكان أول أثر انطبع في ذهنى عند رؤيتهم أنهم طلاب الابتدائى أو على الأكثر في أوائل الثانوى ـ وأُمرت أن اقف مع هؤلاء الأولاد ولكن بعيدًا قليلًا، بحيث وقف الجزاروتوفيق السعيد بينى وبينهم زظللنا صامتين فترة ولدت في نفسى، بالاشتراك مع سكون الليل وبرد الساعة الشديد رهبة هي مزيد من الخوف والقلق، قلقًا شديدًا.. واردت أن أحول فكرى عن هذا القلق فتوجهت بالحديث إلى توفيق السعيد أسأله عن أخيه وهو زميل لى بالجيش ولكنه رد بخشونة طالبا إلى السكوت لأن " البك وكيل النيابة " في الطريق فزادت هذه المعاملة من اضطرابى ومضت فترة قد تكون قصيرة ولكن خيل غلى أنها أيام ثم خرج الينا وكيل النيابة ونحن في موقفنا هذا، ورأيته أول ما رايته يزيح ستارة الغرفة رقم 2 الخضراء ويقف قليلًا حيث انعكس عليه ضوء الغرفة ثم تقدم الينا في خطوات ثقيلة وبدأ بالثلاثة الصغار فتفرس في وجوههم، ثم اتى إلىّ فتفرس في وجهى وفى لهجة عميقة سألنا من منكم يعرف الآخر ؟ فتعرف أحد الشبان الثلاثة على الإثنين الباقيين وهو ينتفض، ولم يتعرف علىّ أحد، ثم كرر هذا الأمر ثانية مشيرًا إلىّ بشكل ذكرنى " بأبى حجاج " وهو يمثل رجل الساعة في برنتانيا ! ولكن لم يتعرف علىّ أحد فأمر باعادتى إلى غرفتى حيث لم أنم إلى الصباح.
31 يناير 1946:
آمنت بالله.. نار الحاكم العسكري، ولا جنة النيابة. تكرر نفس المشهد التمثيلى في الساعات الأولى من صباح اليوم ولكن بثلاثة وجوه جديدة، بدأت اشعر بتعب وارتباك عصبى شديدين لذلك أرسلت للنائب العام تلغرافًا استنجد به وأطلب مقابلته بحضور محامى.
2 فبراير 1946:
استدعانى اليوم وكيل النيابة ظهرًا وكان بيده التلغراف وحقق معى بشأنه فرفضت الادلاء بسبب إرساله إلا بحضور المحامى، سواء أمام النائب العام أو أمام المحقق، ولما أعلمنى باستحالة ذلك لسرية التحقيق أجلت الادلاء بما أريد إلى فرصة أخرى.
4 فبراير 1946:
ليلى الهندية تحب السجين رقم 19، هذه هي العبارة التي يرددها السجن كله قالتها لى سنية الفراشة والسجانة والعسكري السجان، بل أكثر من هذا تقدمت ليلى للمأمور بطلب اعطاء المسجون رقم 19 فسحة أطول لكى تتمتع بالتحدث اليه ومناجاته، وقد دفعنى الفضول لرؤية هذا " الحبوب " وبكل عناء تمكنت من أن أراه لمدة نصف دقيقة على الأكثر فوجدته يستحق اعجاب ليلى فعلا إذ كان شابًا أشقر ذا أنف رومانى وشعره أصفر، وتقاطيع متناسقة في رجولة وقد علمت فيما بعد أنه يدعى محمد إبراهيم كامل.
5 فبراير 1946:
تحسنت معاملتى نسبيًا، واتضح رسميا أن صاحبنا " الصحفى " اياه لم يكن سوى أحد أعوان البوليس السياسي أو أحد " العملاء المغررين " بالتعبير الفنى، وكان يتحاشى مقابلتى عند خروجى للفسحة السيفة وهى عشر دقائق طول اليوم زيدت عشرًا أخرى، وسمح لى بقراءة المقطم والأهرام

مذكرات الرئيس السادات في السجن !
"الفصل الثامن"
الرئيس السادات: في السجن.. عشت حياة الحيوان!
كان أنور السادات قد قضى أكثر من ثلاثة شهور في السجن مع بقية المتهمين في قضية أمين عثمان. لكنه لم ينس أن يدون كل يوم مذكراته أو يومياته عن حياته في السجن. استغرق نظر القضية التي شغلت الرأي العام في مصر نحو عامين. وبعد صدور الأحكام خرج أنور السادات من السجن. لينشر مذكراته على حلقات في مجلة المصور.
وفى هذه المذكرات سجل أنور السادات كل كبيرة وصغيرة كانت تحدث داخل السجن. على شكل يوميات لم تكن منتظمة بشكل يومي. لكنها في النهاية كانت صورة بليغة عن السادات وعن السجن وعما كان يحدث داخله وخارجه.
هكذا كانت واستمرت يوميات أنور السادات. كل واحدة تحمل تاريخ اليوم وما حدث فيه
8 فبراير 1946

حدث أن خرجت من غرفتي إلى دورة المياه اليوم ظهرًا، فوجدت العسكري المراسلة يدخل الغرفة رقم 1 ومعه لفة " كباب وكفتة " اخترقت رائحتها أحشائي ! ولما سالت قبل لي أن المتهم الأول في هذه الغرفة هو وستة آخرون، وأنهم يأكلون ما يشاءون ! فترت ولم ادخل الغرفة إلا عند ما حضر المأمور ـ وكان قد تعين مأمور مصري في هذه الفترة ـ فتكلمت معه بغلظة هي رد فعل الجوع، كان من نتيجتها أن سمح لي بعد جهد بأكلة من " الشيمى " على حسابي، ولا أزال أحس بحلاوة هذه الأكلة إلى الآن !
14 فبراير 1946

ليس في الامكان أبدع مما كان.. فقد استيقظت اليوم على صوت حنون يغنى كليوباترا وآهاتها ـ أنها " ليلى " في الغرفة المجاورة
لقد امتزجت البراءة مع رقة الأنوثة في إخراج هذا النغم الساحر حتى خيل إلى أنه ليس صوت بشر.. أنني أعشق الموسيقى بكل جوارحي، وأكثر من ذلك فهي تضفى على هذا الجو الرهيب لونا خفيفا طليا من الجمال الذي يرتفع بالنفس على آفاق الروح فينسى الإنسان الزمان والمكان والأشياء !
استغفرك اللهم وأحمدك حتى ترضى
17 فبراير 1946

طلعت علينا جريدة " المقطم " وفيها خبر نقل " كيلرن " من مصر، ولما كنت ابغض هذا المخلوق الذي أدمى كرامة مصر كلها، فقد صممت على أن احتفل بهذه المناسبة بقدر ما أتمكن، وأرسلت في شراء دستة جاتوه باسم المسجونة ليلى الهندية ووزعتها على ليلى والسجانات والسجان والفراشة واستبقيت لنفسي ثلاث قطع احتفل بأكلها على فنجان شاي المساء ـ وقد استمتعت بأكلها أيما استمتاع، خاصة وان " المعازيم " تركوها لي من النوع الدسم المملوء بالكريمة !
وفى نحو الساعة الثانية صباحا استيقظت على مغص وإسهال مروع، وأتضح لي أن الجاتوه كان تالفا، وقد جيء به من دكان في شارع محمد على..!
أنني أقرر لوجه الحقيقة أن بغضي لكيلرن قد تحول إلى حقد دفين منذ هذه الليلة !!
30 يونيو 1946

لقد مضى على منذ نقلت إلى هذا السجن أربعة اشهر كاملة، خلبتها ـ لشدة ما اكتنفنى خلالها من ظلام ـ أطول من أربعة أعوام !
ولطالما حاولت خلال تلك الفترة أن اسطر شيئًا، لعلى أنفض بذلك عن صدري ما يخيم عليه من الكآبة والجمود، ولكن هيهات لي أن أجد القلم، فان الأقلام هنا محظور وجودها، وغرفتي وثيابي يفتشان بانتظام ودقة مرتين يوميا.. وان وجد القلم فلا يوجد الورق، وحيازتي لورقة بيضاء جريمة أعاقب عليها ! وإذا أراد الله لي أن أجمع بين ورقة وقلم، واحتفظ بهما بمنجاة من التفتيش انتظارا لليل، كنت بذلك أغالط نفسي، فالزنزانة التي تحتويني مصممة بحيث لا ينفذ إليها النور إلا من كوة قرب السقف تسمح لضوء النهار فقط أن يغازل الغرفة، أما في الليل فيجب أن تقترن الوحدة بالظلام..
لا سبيل إلى الكتابة إذن، ولا سبيل أيضا إلى القراءة فقد منعت من استحضار كتب أو قراءة الصحف، وأصبحت ـ في القرن العشرين ـ أعيش عيشة حيوانية بحتة، في قفص من الحجر، طوله ثلاث خطوات وعرضه خطوتان، طيلة الأربع والعشرين ساعة، لا يقطعها إلا صرير مفتاح الحارس عندما يفتح باب القفص ليقذف لي بالأكل، ثم يعيد القفل ثانية، وهكذا !
ولماذا ؟! لأنه يراد أن أقضى تلك الفترة القلقة في سجن الأجانب على نحو من الفزع والرهبة، ثم تتلوها هذه الحقبة في سجن مصر في ظلمة وأجداب ووحدة !
أن شر ما يصاب به إنسان ذو مثل عليا هو الانحطاط العقلي. فالقراءة والإطلاع ألزم للفرد من الطعام في هذا العالم الذي اتصل قاصيه بدانيه، ولكنهم في النيابة ـ سامكحهم الله ـ لا يؤمنون بذلك فيما يظهر، بدليل أنهم أمروا بأن يطبق علينا شيء كريه يسمى " لائحة السجون "، ذلك الأثر البربري من آثار الاحتلال البغيض !
ولقد حاولت جاهدا خلال هذه الفترة أن احتفظ بشيء من معنوياتي بعد أن فقدت كل أمل في الإنصاف والعدالة، بل لا أكون مغاليا إذا اعترفت لنفسي صراحة بأنني كدت أن أفقد توازني، وأن اشك في كثير من القيم !
ولكن الله سبحانه وتعالى لطيف بعباده. فقد أراد لي ولباقي المتهمين في يوم من أيام شهر يونيو 1946 أن تزاح هذه الغمة عن صدورنا فصدر أمر باختلاطنا أثناء النهار، وركبت الكهرباء في الزنزانة فأضيئت ليلا، وسمح لي بقراءة الكتب والصحف، وبالأقلام والورق
وهكذا بدأت الحياة تدب في نفوسنا من جديد، وبدأت أفيق من ذلك الكابوس الكريه، وكأنما أشرقت علينا الشمس بعد طول إظلام، وطلع علينا أمل منعش بعد يأس مفجع، ولا غرو فهي حياة جديدة، حتى لو كانت داخل القضبان..!
15 يوليو 1946

استدعاني اليوم ضابط العنبر لكي يسلمني أدوية وردت لي من الخارج، وقد سمح لي بالجلوس نظرا للزمالة السابقة.ز أخذنا نتجاذب أطراف الحديث، وفجأة سمعت عويلا وصراخا على الباب الخارجي للسجن، ولما استفهمت قال لي في بساطة أن مسجونا توفى وأن أهله في انتظار تسلمه.. وبعد فترة وجيزة خرجوا بالجثة من باب الوسط الذي في مواجهتنا وقد تملكني رهبة لجلال الموت فشردت برهة، لأفيق على زغاريد في ناحية سجن النساء
يا الهى ! كم في هذا المكان من متناقضات تهز المشاعر هزا..
نظرت إلى الضابط في استفهام مرة أخرى، ويظهر أنه لاحظ ما انتابني فضحك قائلا: " أنها " سنية النشالة ! " لابد أن تكون قد وضعت مولودا، وهذه الزغاريد زميلاتها في المستشفى يحيينها التحية المعتادة لمثل هذه المناسبة !
تفضل أنت لأنني سأذهب لثبت المولود في الإيراد وأحذف الميت في الترحيل !"
عدت إلى غرفتي بانفعالات مشوشة.. ولكن أليست هذه هي سنة الحياة: إيراد وترحيل ؟

22 يوليو 1946

أفزعنا محجوب أمس في طابور بعد الظهر، بصرخة مكتومة جعلتنا نسرع نحوه لنرى ما الخبر، فأشار وهو فاغر فاه إلى شباك الدور الثاني بسجن النساء، حيث كانت تجلس حورية آية في الجمال !! دهشنا جميعا لهذه المفاجأة، ودهشنا أكثر لأن مثل هذا الجمال يكون نزيلا لزنزانة ! وبالسؤال أتضح أنها " نبوية شاهين " النشالة الفاتنة التي حيرت رواد شبرد وأغنياء الحرب..!
ويظهر أن صاحبنا محجوب ـ وهو شاعر مطبوع ـ وقع في شراكها، فقد طالعنا صباح اليوم بقصيدة عصماء في التشبيب " بنبوية " وتمجيد فن النشل قال في مطلعها:
أنى أرى " نبوي " آية صنعه
في الخلق منذ بداية الأزمان
وجه يضيء بنور صبح فاتن
ويدان تنشل مهجة الأبدان !
25 يوليو 1946

حياتنا تحمل الآن طابع الاستقرار، إلا من مناقشات الصباح بعد قراءة الصحف
أن أهم ما يشغلنا في الوقت الحاضر هو المفاوضات.. كثيرون منا يتنباون بفشلها، وآخرون يعترضون على مبدأ المفاوضة في حد ذاته لنيل حقوق البلاد.. لذلك قررنا عقد مؤتمر لمناقشة هذه المشكلة، وأن تبطل المناقشات حولها حتى ينعقد المؤتمر
31 يوليو 1946

حدث اليوم عندما كنت عائدًا من طابور الصباح أن مررت في طريقي إلى العنبر أمام المطبخ، وإذا بأحد المساجين يخرج مهرولا الىّ ويمسك بالبيجاما وهو يبكى !.. وقفت في مكاني، إلا أنني أدركت أن وجهه مألوف لدى ولكنني لا اذكره، وأخذت أهدىء من روعه واسأله ما يريد، فذكرني بنفسه وأتضح أنه " إبراهيم رضوان " الذي كان جنديا وسائقا لسيارتي بالجيش.. واخذ يرجوني أن أتوسط له لدى الضابط النوبتجى ( مصمما على أنني مازلت ضابطا ) لأنه يخشى عقابا معينا. وقد أتضح لي فيما بعد أن سبب خوفه شكوى الجاويش بأنه يسرق اللحم في " عبه " وكذلك الفراخ " والبصل " ليبيعها للمسجونين !
6 أغسطس 1946

انعقد مؤتمر المفاوضات أمس واليوم.. وهذه صورة سريعة لبعض ما دار في الجلستين، وهو أن يكن مطبوعا بطابع الشباب والاندفاع إلا أنه في اعتقادي صورة لما يعتمل في صدر كل شاب مصري، فحقيقة اليوم هي أن الشباب فقد ثقته إلى الأبد في الحزبية وقادتها وكل محترفي السياسة !
بدأت الجلسة الأولى عندما أعلن الرئيس وهو اصغر الأعضاء سنا " مصطفى حبيشه " افتتاح الجلسة، والموافقة على أن تكون المناقشة حرة في القضية المصرية، تنتهي بقرار تبطل بعده المناقشات في مسألة المفاوضات، فوافق الجميع
مدحت فخري: أطلب وقف الجلسة حدادا على الشهداء منذ مذبحة الإسكندرية إلى دنشواى إلى ثورة سنة 1919 إلى شهداء مارس الماضي ( وافق الجميع.. ثم عادت الجلسة للانعقاد )
حسين توفيق: بعدما استعرض تاريخ الحركة القومية منذ القرصنة البريطانية سنة 1882 إلى الآن قال ما معناه: " ويقيني يا اخوانى أننا نجتاز الآن فترة كالتي اجتازتها تركيا في أعقاب الحرب الأولى، فالتشابه بيننا شديد من حيث الانحلال وضعف الروح المعنوية وما جرته علينا الحياة الحزبية من انقسام جعل هم كل زعيم سياسي هو الفوز لشخصه هو ولمحاسيبه بأكبر الغنم، وترك ما دون ذلك حتى ولو كان استقلال البلاد وكرامتها ! وأنكم لترون أن الدستور كان أكبر نكبة منيت بها البلاد بعد الاحتلال، فقد شغلونا عن الكفاح في سبيل استقلالنا وقوتنا، بالكفاح في سبيل كرأسي الحكم والمنصب الزائل، فتفرقنا شيعا، وجعل كل منا يهد الآخر بكل الطرق، شريفة أو غير شريفة، حتى وصلنا إلى هذا الحال.. وأبلغ مثل على فشل الأحزاب والسياسة في مصر هو حادث 4 فبراير
وسيم خالد: ( بعد ما استعرض كيف استقلت ايرلندا والتشابه الشديد بين حالتها وحالتنا، قال ما معناه ): لا حل لقضيتنا إلا بحمل الشعب كله للسلاح، فالشعب الذي لا يعرف كيف يحارب لا يستحق الاستقلال.. لذا فأنا أرى أن تتحول مصر كلها إلى ترسانة وميدان، وبهذا وحده سنأخذ استقلال !.. ومن حركة ايرلندا يجب أن يفهم أن الاستقلال حق يؤخذ ولا يعطى
سيد خميس: ( بعد أن تلا فذلكة طويلة في تاريخ الثورات الاستقلالية بوصفه طالبا في قسم التاريخ بكلية الآداب قال ما معناه ):
" اننى سأكافح بعد خروجي من السجن بسلاحي الخاص في سبيل الوطن، وهذا السلاح هو سيف العصر الحديث البتار: هو القلم !"
( صيحات استنكار وصفير وهجوم شديد عليه )
الرئيس: لكل عضو الحق في أن يقول ما يشاء، فاتركوه لأن هذا جهده.
محمود مراد: ( في انفعال ) أرجو أخذ قرار بأن الوطن بريء من كل كفاح من نوع كفاح السيد خميس !
( موافقة جماعية )
وبعد هذا أدلى الباقون بآرائهم وهى لا تختلف كثيرا عما تقدم، ثم وقفت في ختام المناقشة وقلت:
- اننى اشكر وكيل النيابة الذي جمعنا، وما كنا لنجتمع أو يعرف بعضنا بعضا لولا عبقريته وخياله الفذ.. واننى أشارككم في أن الحزبية قد فشلت في بلادنا فشلا ذريعا وأن السياسة في بلادنا من نوع عاصر الاحتلال واشرب في قلبه الخوف والاستكانة، وقد استغل الإنجليز ذلك أبشع استغلال، ورأينا أخيرا ذبك لأنصاب العجوز تشرشل يتكلم في مجلسهم وكأن وطننا ارث آل إليه من جده الايرل المحترم، ورأينا من قبل ذلك المخلوق الوقح كيلرن يعجب حين ابلغه النقراشي مذكرة الجلاء ووحدة الوادي، ظنا منه أن النقراشي لابد أن يكون قد جن ليطالب بهذا !
" أن المسئول عن هذا الهوان الصارخ، وهذا الإذلال المميت هو ذلك الجيل المتخاذل الذي لن يستطيع أن يموه طويلا فقد كشفه الشعب وفضحته الحوادث.. يجب أن يتنحى هذا الجيل فان من المستحيل أن تسير عقارب الساعة إلى الوراء !"
وانتهت المناقشة بالقرار الآتي:
" على الشباب وحده أن يعد نفسه ويتقدم للموت، فذلك خير من أن يحيا حياة ذليلة ! "
20 أغسطس 1946

عاد إلينا الهدوء.. حدث أمس أن اشتبك محجوب ووسيم في مناقشة حادة، وذهبت لاستطلع الخبر فعلمت أن الإثنين وهما رئيسا تحرير الجريدتين اللتين اعتزمتا إصدارهما داخل السجن، يتشاجران على استخدام محمود الجوهري وهو الرسام الوحيد ! وبعد تدخل منا اتفقنا على أن يستخدم كل منهما الجوهري، أحدهما قبل الظهر والآخر بعده، وأقسم الجوهري يمينا، بعدم إذاعة أسرار أي مجلة للأخرى أو للقراء وكفى الله المؤمنين القتال ! "
10 سبتمبر 1946

الحياة رتيبة، والجو يسيطر عليه هدوء بديع ـ الجميع منصرفون إلى القراءة، وقد استحضرنا مجموعة كتب وروايات باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، واستحضرت مجلدا لمجموعة كتب بالألمانية فأنا أعشقها
أنني أميل إلى قراءة النوع الغرامي من الروايات، فان لها تأثيرًا لطيفا على أعصابي هنا، فضلا. عن أنها تحليل للحياة ولوجه شيق من أعظم وجوهها وهو الحب
يقول الألمان في مثل من أمثلتهم: عليك تحب وأن تحب لهى أعظم نعمة في الوجود "
أي والله، كم أنا في حاجة لحب عظيم يملأ نفسي ويغذى قلبي.. ! وبعد، أليس الحب في مختلف صوره هو اسمي عواطف الوجود ؟!
5 أكتوبر 1946

انتهت جلسات الإحالة وصدر الحكم بإحالتنا إلى محكمة الجنايات لدور نوفمبر المقبل..
20 أكتوبر 1946

دعا وسيم ومحجوب إلى حفل لمناسبة قرب صدور الجريدتين، واشترطا للاشتراك في الحفل والتمتع بالتورتات الفاخرة والحلوى والشاي أن يكتب من يريد الاشتراك مقالا أو قصيدة يقدمها. واحتججنا على هذا الاستغلال بدون جدوى ـ ولما كنت لا احتمل أن تفوتنى هذه الفرصة فقد جلست استوحى شياطين الشعر وكتبت قصيدة بعد عرق وفيها:
سلوني أجبكم أن قد مليحة
لأطيب عندي من طعام ابن خالد
فوالله مالي للطعام شهية
وقلبي على الخلان يرغى ويزيد !
وطعام " وسيم خال " كان ولا يزال عروس يومنا..!
23 أكتوبر 1946

صدرت اليوم بعد طول شوق وانتظار مجلة " الهنكرة والمنكرة " ورئيس تحريرها " وسيم خال "، وهى مجلة فكاهية وتحوى مواضيع شيقة وقفشات وصورا كاريكاتورية لطيفة.. وقد هاجمني وسيم بالكتابة والكاريكاتور واتهمني أنني أستكع بجوار حائط سجن النساء، مما يضرب أسوأ المثل لباقي المتهمين ! وبعد هذا الهجوم العنيف طالب بحرماني من الأطايب لمدة أسبوع على الأقل.. وقد أسرعت واعتذرت، وأمري لله !
26 أكتوبر 1946

صدرت مجلة " ذات التاج الأحمر " وهى آية في الطبع والتبويب والتلوين، ولم أنج من هجومها أيضا، وقد احتفظت بالعدد الأول منها..
20 نوفمبر 1946

أحمد الله فقد بدأت علاقتنا تتحول إلى صداقة عميقة بعد أن مرت فترة التهيب والكلفة، وأن أكبر الفضل في ذلك يرجع إلى الحملات الصحفية اللطيفة.
ولو أن معيشتنا رتيبة إلا أنها شيقة على أية حال
25 ديسمبر 1946

" أنه لغنى ذلك الذي يرى الحياة اكتشافا مستمرًا "
ديهاميل
اليوم هو عيد ميلادي ـ لا أدرى لماذا تداعبني خواطري في ابتهاج ونشوة.. فمنذ ثمانية وعشرين عاما خلت، وفى مثل هذا اليوم ‘ كان مولدي الساذج في تلك القرية الهادئة بالمنوفية..
سأذكر دائما هذا اليوم، وسأذكر أيضا عشيرتي من الفلاحين الكادحين في بساطة ووداعة، فهذه الذكرى ترفعني فوق لؤم المدينة وخداعها ومظاهرها المتكلفة وأهلها التافهين.
سأذكر بيئتي القروية الساذجة حيث تمتلىء النفوس بالإيمان بالله، وحيث يرجعون كل شيء إلى الله، فهناك تعلمت أن الله حي في كل شيء، وأن العبري بنقاء السريرة قبل العلانية
سأذكر محصول الثمانية والعشرين عاما الماضية بفخر واعتزاز، وسأسير مروفع الرأس غير خاش أن يساء فهمي أو يؤول قصدي، اللهم حمدا وشكرا فأنت وحدك القوى المكين.