الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

هارون الرشيد "خليفة المؤمنين" الذي شوهت تاريخه "الحبكة الدرامية".. كان معروفاً عنه ورعه الشديد وزهده في الدنيا وكثرة الفتوحات.. فحولته الدراما إلى زير نساء وعاشق للخمر والتبغ

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في حلقة جديدة من مسلسل تزييف الدراما للتاريخ الإسلامي، فاجأتنا أحداث مسلسل "الأمير المجهول"، والذي قام ببطولته الفنان نور الشريف، ويصنف على أنه عمل تاريخي، بإضافة فصل جديد من فصول تزوير الدراما لشخصيات التاريخ، حيث يركز المسلسل على جانب شخصي ضيق من شخصية الخليفة العباسي "هارون الرشيد"، والذي اتسم عهده بالقوة، والرخاء، ليختصر حياته في قصة حب لأحد نسائه أو محظياته وفي صراعات القصور بين الحريم.

وحاول المسلسل تصدير تلك الصورة عن الخليفة العباسي والتي ذكرتها عنه ألف ليلة وليلة، أنه كان حالمًا، يعيش في الترف بين الاستماع إلى الموسيقى وبين مضاجعة النساء وشرب النبيذ وهو أحد أنواع الخمور التي أحلها بعض الفقهاء على مر التاريخ الإسلامي، في الوقت الذي انصفت كتب التاريخ والمؤرخين الغرب والأجانب شخص "الرشيد" من تلك الشوائب التي لحقت بصورته في أذهاننا.

ويرى الدكتور مدكور ثابت رئيس الرقابة على المصنفات الفنية الأسبق أن القصة التي تعالجها الدراما ليست بالضرورة أن تكون هي نفس القصة الأصلية لأصحابها، وهو ما يجب التنويه إليه على أنه ليس عملا توثيقيا ولكنه عمل فني حتى لو تم تصنيفه على أنه تاريخي، لأن الحبكة الدرامية تستوجب التخلي عن بعض التفاصيل وإدخال تفاصيل أخرى تجذب المشاهد.


وأضاف "ثابت"، أن الدراما مهما كانت الحبكة الدرامية ومتطلباتها فلا يجب أن تخل بالخط التاريخي للأحداث لأنها تناقش حياة أشخاص لهم ذكر في كتب التاريخ والجميع يعرفها وحققها المحققون، وما يحدث في أي عمل درامي يجب أن يلتزم بتلك الحقائق ولا يغير فيها ولا في أي تواريخ خاصة بالحدث أو بشخص من الأشخاص.

وأشار ثابت إلى أن الالتباس يأتي عندما يتصور المشاهد أنه يشاهد عملًا حقيقيًا وليس عملًا فنيًا التغيير فيه وارد جدًا، لأن مهمة المخرج والمؤلف تختلف عن مهمة وزاوية تناول المؤرخ.

ويؤكد مختار الكسباني أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة على أن كل عمل فني يجب وضعه في مكانه وعدم الخلط بين ما هو تاريخي وبين ما هو فني فقط، فالعمل التاريخي يراعي الدقة والتوثيق في الوقت الذي لا يضطر المخرج لأن يقدم عملا وثائقيا، والحقيقة أنه لا يوجد من بين الأعمال التي تسمى أعمال تاريخية أي عمل تاريخي، لأنها تفتقد أبعاد كان من الواجب مراعاتها ومراجعتها من جهات مسئولة حتى نروج للعمل على أنه عمل تاريخي.

وأشار "الكسباني" إلى أن شخصية هارون الرشيد تناقلت الألسنة عنه أنه عاش ليالي ألف ليلة وليلة من الترف والعشق وأحيانا ترصد بعض جوانب التدين في حياته رغم أنه كان معروفا بجهاده واجتهاده في العبادة وهو ما ذكرته كتب التاريخ الإسلامي ما بين مؤلفات الطبري أو تاريخ ابن خلدون وغيرهما.


وأوضح أستاذ التاريخ الإسلامي أن الحكم على أي شخصية في التاريخ الإسلامي يجب أن يكون من زاوية ومقومات وتفاصيل عصره، بمعنى أن رأينا فيه ليس بناء على عصرنا، لكن بظروف عصره، فما كان مباحا عنده قد يصبح محرما أو العكس، فشخصية مثل هارون الرشيد والتي نقل عنها حبه للنبيذ كان النبيذ في فترات من التاريخ الإسلامي وبفتوى فقهاء أجلاء كانوا يبيحون شرب النبيذ وليس الخمر المسكر، ومسألة الحلال والحرام يسأل فيها العلماء وليس المؤرخون.

وكان الكاتب البريطاني "هاري سنيت جون فليبي"، في كتابه "هارون الرشيد" ترجمة د. صبري محمد حسن، قد تكلم عن تأثره بشخصية هارون الرشيد قائلا:"استطاع هارون الرشيد باعتباره تجسيدا لكل ما هو أصيل وعظيم في ظل إمبراطورية امتدت في وقت من الأوقات، بالرغم من أن ذلك لم يكن في زمنه هو، من جبال البامير إلى جبال البرانس ومن الإنديز إلى المحيط الأطلسي ومن يصبح تجاهل المؤرخين لهارون الرشيد كفرد أمرًا يدعو إلى الدهشة والاستغراب."


أما العلامة ابن خلدون في كتابه الشهير "كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب" والمعروف بتاريخ بن خلدون، فيقول في المجلد الثالث نقلا عن الإمام الطبري وغيره من كتاب التاريخ والسير " يغزو عامًا ويحج عامًا ويصلي كل يوم مائة ركعة ويتصدق بألف درهم، وإذا حج حمل معه مائة من الفقهاء ينفق عليهم، وإذا لم يحج أنفق على ثلثمائة حاج نفقة شائعة" والأغرب من ذلك النواحي الاقتصادية والعبقرية في إدارة الدولة التي يصورها العلامة بن خلدون عندما يذكر لنا أن "الرشيد" عندما مات كانت خزائن الدولة فيها نحو 900 مليون دينار، وهذا مبلغ خيالي بأرقام ذلك العصر.

وعندما ذكر الكاتب الراحل أحمد أمين الرشيد في كتابه "هارون الرشيد"، نقل عن سابقيه ما كتب عن "الرشيد" لكنه شكك في كثير مما نقله، ورجح أن الجانب الشهواني كان الغالب والأرجح في شخصية هارون الرشيد، حتى لنتصور في الصورة النهائية عن هذا الخليفة العابد المجاهد أنه كان ربيب الكأس والفراش، بمعنى أنه كان عبدًا لكأس النبيذ ولنكاح النساء والجواري، وهي الأشياء التي يبيحها الدين باستثناء مسألة شرب النبيذ والتي اختلف فيها الفقهاء، فهناك من أحله وهناك من حرمه، لتظل صورة "هارون الرشيد" كغيرها من الشخصيات التاريخية التي زيفتها الدراما في حاجة إلى إعادة نظر وتحقيق وتنقيح.