الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

صيحات التجديد الديني (42)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ويأتى إلى ساحة التجديد الديني دعاة الحداثة والتطور الفكر والثقافى والاجتماعى ودعاة حرية الرأى والدفاع عن اللغة العربية وتطويرها حتى ولو كانوا غير متخصصين في دراسة الفقه أو ليسوا راغبين فى ذلك، فيكون جيشا محدود العدد عالى الصوت، ليبرالى النكهة. ويتربع على قمة هذا الحشد زكى مبارك الذى شاكس الجميع بخفة ظل واحترام للخصوم. و"الدكاترة" زكى مبارك كما كان يحلو له أن يسمى نفسه متباهياً على قرنائه بأنه حصل على أكثر من دكتوراه من الجامعة المصرية ومن جامعات فرنسية. ومن بين عشرات الكتب ومئات المقالات التى أهداها زكى مبارك لمصر والعرب كتيب صغير الحجم، شديد الأهمية قوى الحجة عنوانه "اللغة والدين والتقاليد فى حياة الاستقلال" كتبه عام 1936 لكنه يتبدى وبعد صدوره بسبعة وسبعين عاماً لم يزل صالحاً وضرورياً ومعبراً عن المحنة التى تعيشها مصر مع التأسلم والمتأسلمين، ويبدأ زكى مبارك بإهداء "إلى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ مصطفى المراغى، أهدى هذه الصحائف تحية من رجل يضمر له أصدق الود، ويعرف فضله فى اعتزاز باللغة والدين ومحمود التقاليد". وإذا كنا نعانى اليوم من اندفاع عديد من طلاب الجامعات الأجنبية فى مصر إلى نسيان اللغة العربية، والاكتفاء بإجادة لغة أجنبية كتعبير عن الوجاهة ومدخل الى الكسب فإن زكى مبارك يرى أن "اللغة فى ذاتها شخصية إستقلالية فالذى يعبر بلغته يشعر بالقوة وتنطبع نفسه على حب الكرامة والاستقلال" [صـ8] ويؤكد أن "فرنسا فى مستعمراتها تنشر لغتها الفرنسية وإنجلترا في مستعمراتها تنشر الإنجليزية فإذا كان الغاصبون يرون أن نشر لغاتهم من مؤيدات الاحتلال، أفلا يرى الوطنيون نشر لغتهم من مؤيدات الاستقلال والتقدم"[صـ23] وهو يدعو الى تبسيط اللغة "لتصبح لغة سخية تجمع بين البساطة والجمال، ويرى فيها العوام ما يشاءون من البساطة والجمال ويرى فيها الخواص ما يريدون من السمو والتحليق" [صـ26] ثم يقول "لغتنا تدهورت المسئولون لا يقرأون مما يكتب سطراً واحداً صحيحاً ويتندر البعض زاعمين بأنه يجرى امتحان فى اللغة العربية للمسئولين ومن يخطئ يأتى ومن لا يخطئ لا محل له" ثم يأتى زكى مبارك إلى "الدين" فيقول "والدين هو أيضاً من أهم مقومات استقلال الوطن" ويحذرنا مما أسماه هو "الدين المزيف" ونسميه نحن "التأسلم" تمييزاً بينه وبين الدين الصحيح ويقول "الدين المزيف بلاء يصيبه التأخر على الأمم والشعوب لأنه يمنح الكسالى والمتعطلين سلطاناً خطراً يشل حركة التقدم والنهوض، فرجال الدين المشعوذون لهم سوابق فى قتل الحرية واضطهاد الأحرار، وطمس العقل والعلوم والفنون" [صـ54] ويؤكد "أما الدين الصحيح فهو ثروة قومية يجب أن يحرص على حمايتها وتنميتها ساسة الشعوب، والدين ثروة قومية ولهذا هو عماد من عمد الاستقلال والنهوض، لأنه يصبح ضمير الفرد. والدين الصحيح هو الذى يعلم الفرد أن يستهين بطغيان الطاغين وكيد المفسدين ولؤم الحاقدين" [صـ74] "أما الأزهريون فقد انساقوا إلى ما إنساق إليه تلاميذ المدارس وأخذوا يترقبون حظوظهم فى المصالح والدواوين" [صـ78] ثم يتحدث عن الصراع بين المجددين والرجعيين فيقول "لقد أنفقنا من الورق والمداد ما يقدر بالألوف من الجنيهات فى سبيل الجدل حول السفور والحجاب، وقضينا سنين نختصم حول ما يقدم للبنات من علوم" ثم يقول وكأنه يتنبأ "وسنقضى أعواماً كثيرة فى نضال وصراع إلى أن نتفق" و"معاذ العقل أن تخلو الدنيا من الشغب حول المبادئ والآراء، ولكن لا مفر من التنبيه إلى أننا جاوزنا حد المقبول فى الخلاف" [صـ90] . وحول الصراع الحضارى والثقافى يقول زكى مبارك، "إنه صراع بين قوتين قوة الجامعة المصرية وقوة الأزهر الشريف، فالجامعة المصرية لن تسكت أبداً عن الدعوة إلى المدنية الغربية لأنها أنشئت لذلك، والأزهر لن يسكت أبداً عن الدعوة إلى المدنية الشرقية، ولن يكف أهله عن التذكير بمجد الأسلاف، ويزيد من خطر الأزهر قرب أهله من قلوب الجماهير الشعبية وقدرته على بث الشراك والحبائل لدعاة المدنية الغربية" فقط هذه العبارة الأخيرة هى التى تختلف عما نحن فيه من بؤس فكرى وحضارى وثقافى . فالجامعتان أختفى تأثيرهما أو يكاد فجامعة اليوم تدهورت عما كانت عليه أيام زكى مبارك ولم تعد قادرة أو حتى راغبة فى أن تخوض معارك الاستنارة والتجديد إلا فيما ندر ، فقد طغى طوفان الجهالة والتخلف والظلامية بحيث أخاف الجامعة ورجالها ووضع الكثيرين من الليبراليين فى مخبأ الخوف ، والأزهر لم يعد النقيض ولا محور الصراع ولعله فى كثير من القضايا المهمة يستمتع تماماً مثل مستنيرى الجامعة بالصمت والمحاذرة . وبين هذا وذاك اتسعت مساحة الجهالة والظلامية ليحتلها سعى إلى السلطة بأى ثمن سواء بالاتجار بالدين أو بتزييفه (كما قال زكى مبارك) وبإهدار قيم الحوار وإتهام المخالفين بالكفر والإلحاد ونسيد العنف والقتل بدلاً من الحوار بالتى هى أحسن.
والحقيقة أن زكى مبارك كان ينتقد وبشدة زماناً قديماً.. وكان هذا القديم أفضل ألف مرة من زماننا، فهل نخجل من أنفسنا؟