الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

نجيب سرور.. ومنين أجيب ناس

 الشاعر والكاتب المسرحي
الشاعر والكاتب المسرحي والناقد والمترجم الكبير نجيب سرور
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إعداد: ياسر الغبيري
إشراف: سامح قاسم
"لقد تلقفوني فور عودتي من دمشق وأرسلوني.. لكن مهلا، ليس في معتقل من المعتقلات الحكومية المعروفة والمزدحمة بالنزلاء، وإنما في مستشفيات المجانين، مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية!!...المهم أنني خرجت من مستشفى الأمراض العقلية بمعجزة حطاما أو كالحطام! خرجت إلى الشارع.. إلى الجوع والعري والتشرد والبطالة والضياع وإلى الضرب في جميع أقسام البوليس المخلص في تنفيذ أغراض الأعداء والمحسوب علينا من المصريين أو نحن العرب! خرجت أدور وأدور كالكلب المطارد بلا مأوى، بلا طفلي وزوجتي.. وظللت مجمدا محاصرا موقوفا.
وبعيدًا عن مجالات نشاطي كمؤلف مسرحي ومخرج وممثل، وبعيدًا عن ميادين النشر كشاعر وناقد وزجال ومؤلف أغان"!
بهذه الكلمات وصف عملاق شعر ومسرح ستينيات القرن الماضي نجيب سرور، حاله التي يرثى لها في رسالة استغاثة أرسلها إلى يوسف إدريس، قبيل فترة قصيرة من وفاته.
ميلاد الأسطورة
كان مشوار حياة الشاعر والكاتب المسرحي والناقد والمترجم الكبير نجيب سرور مثال لحياة الكفاح والنضال التي مر بها كل المناضلين المصريين، في مقاومتهم للحكم الديكتاتوري والسلطوي وللظلم والقهر الذي كانت تمارسه السلطة في عهده.
حيث ولد سرور عام 1932 في قرية صغيرة من قرى الدقهلية الفقيرة تسمى إخطاب، مركز أجا، وهي إحدى أهم قلاع الإقطاع المصري في ذلك الزمن، تقتات القرية بجني مـا يزرع أهلها ومـا يربون من الدواجن والمواشي، بعيدًا عن أية رعاية حكومية، وترسل أبنـاءها بقليل من الحماس إلى المدارس الحكومية المجانية المكتظة بالتلاميذ يتعلمون بشروط بائسة القليل من المعرفة والعلم بعكس مدارس المدن الكبيرة أو المدارس الخاصة ذات المصاريف الباهظة.
وكان أبواه يتعرضان للمهانة والضرب من قبل عمدة القرية الذي كان جشعًا جلفـًا ظالمًا قاسي القلب يتحكم في أرزاق الفلاحين وفي حياتهم، وكانت هذه النشأة سببًا في ترك بذور الثورية في نفس الفتى الذي امتلأ قلبه حقدا على الإقطاعيين وسلوكهم غير الإنساني تجاه الفلاحين.
ورغم كل ذلك فقد تميز سرور في أشعاره بالرقة ورهافة الإحساس، وكان كبير القلب وإنسانًا في جميع المواقف، التي ألمت به على مدى حياته، ورغم الظلم الذي تعرض له، منذ بداياته، فإنه لم ينكسر يومًا من الأيام أمام ظالم أو مستبد أو طاغية.
وجعل من الدفاع عن المهمشين والفلاحين والمنكسرين قضية عمره، وجسدها في كل أعماله المسرحية تقريبًا، وذلك لإدراكه أهمية عالم المسرح بالنسبة لهذه القضية، الأمر الذي جعله يترك دراسته الجامعية في كلية الحقوق قبل التخرج بقليل والالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية والذي حصل منه على الدبلوم في عام 1956 وهو في الرابعة والعشرين من العمر.
بصمة واضحة
وقد شهد سرور وهو على مقاعد الدراسة انطلاق ثورة 23 يوليو وواكب -بعد التخرج- العدوان الثلاثي على مصر مما عمق في نفسه الكرة الشديد للامبريالية والاستعمار والرأسمالية، وكان منطقيًا أن يلتزم الخط الأحمر فانتمى إلى الحزب الشيوعي وطار إلى موسكو في بعثة حكومية لدراسة الإخراج المسرحي وصدم -كما صدم غيره- بالوحدة الارتجالية مع سوريا، ثم بمؤامرة الانفصال وراقب عن كثب بطش المخابرات المصرية بالطلبة فتحول إلى (معارض) سياسي في الخارج وسحبت منه البعثة والجنسية فزاد اقترابًا والتحامًا بأمميته!!
وفي أوج سطوة مخابرات صلاح نصر عام 1964، كان من الطبيعي أن يحل نجيب سرور ضيفًا على زنازين صلاح نصر فيعذب وينفخ ويصلب وتمارس عليه كل أنواع التعذيب التي أبدع صلاح نصر في ابتكارها.
وبعد فترة من تعذيبه تركت الأجهزة الأمنية الحبل على غاربه لسرور، بعد أن وجد صلابة هذا الفلاح المصري المثقف، وأن ما تفعله لن يفت في عضده، وكانت مسرحية "الذباب الأزرق" نقطة تحول في حياته، إذ اتخذت المخابرات المصرية قرارها بالتخلص منه نهائيًا، بسبب تجاوزه الخط الأحمر، حين هاجم مجازر الملك حسين بحق الفلسطينيين في سبتمبر عام1971، وسرعان ما تدخلت المخابرات الأردنية لدى السلطات المصرية لإيقافها، ومنذ ذلك التاريخ انتهت مواجهات سرور والأمن المصري، بعزله وطرده من عمله ومحاصرته ومنعه من النشر ثم اتهامه بالجنون!
لم تمتد حياته الأدبية رغم ثرائها الشديد والبصمة الكبيرة التي تركها في الوسط الدبي والثقافي طويلا، فقد بدأت حياته الفنية والأدبية والسياسية، والتي استمرت قرابة الأربعة عشر عامًا حتى وفاته متأرجحًا بين النجاح والمعاناة الشديدة، بكتابة وتقديم النصوص الدرامية ومسرحياتها، استهلها في عام 1965 بعمل مسرحي من إخراج كرم مطاوع بعنوان "ياسين وبهية".
تفوق مبكر
وفي كتابه المهم الذي تناول العلاقة الإبداعية بين أدب نجيب سرور وأبو العلاء المعري، يرصد الدكتور حازم خيري بدقة المؤثرات التي سيطرت على أدب سرور وعلى رأسها قرية إخطاب بفلاحيها ومآسيها وغيطانها، حيث ظلت متغلغلة في نسيج حياته وفي الكثير من كتاباته ومسرحياته، منها استخرج المادة البشرية والحياتية الأولى لأدبه، وفيها تلقى معارفه الأولى، إذ تشرب بالموروث الشعبي من عادات وحكايات وأمثال واعتقادات وأساطير. وفيها قرأ ما ألقت به الأيام بين يديه، خاصة أن والده محمد سرور امتلك مجموعة من الكتب يُعتد بها، وكانت له محاولات شعرية وقصصية.
وكثيرًا ما حث الأب ابنه نجيب على القراءة والكتابة، على خلاف الحال مع ثروت الأخ الأكبر لنجيب الذي اختصته الأسرة بأعمال "الغيط"، والذي أكمل تعليمه لاحقًا، على أمل أن يحقق الابن نجيب سرور حلم الأب محمد سرور، بأن يصبح كاتبًا وأديبًا يُشار إليه بالبنان، فلم تكن المناقشات الأدبية بين الابن نجيب سرور ووالده لتنقطع يومًا في تلك المرحلة.
وبالفعل التحق نجيب بالمدرسة الابتدائية وبدأ رحلته التعليمية، وتفوق وشُغف بالقراءة، وتمتع بحس نقدي راق، حتى أن الكتاب لم يكن ليفارق يده.
ومرت الأيام ونجح نجيب في الابتدائية، ثم التحق بالمدرسة الثانوية، فلم تكن على أيامه المرحلة الإعدادية.
 وبدأ الصبي نجيب ينضج، كان لا يترك كتب الشعر من يديه وخاصة كتب أبي العلاء المعري - موضوع هذا الكتاب - على صعوبتها، خاصة لمن هم في مثل سنه آنذاك.
وطبقًا لرواية نجيب سرور (فارس آخر زمن!) وهى رواية غير منشورة تجسد السيرة الذاتية لنجيب سرور، حال رحيله دون اكتمالها، كان الوالد محمد سرور بحكم وظيفته دائم التنقل من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة بين الوجهين البحري والقبلي، فقد ترك التدريس الإلزامي والتحق بمدرسة الصيارفة، وأصبح يملك ثلاثة عشر فدانا.
وفي مدرسة مغاغة الثانوية اشترك نجيب لأول مرة في تمثيل مسرحية (أصدقاء السوء).
وفي كلية الحقوق التي اختارها له والده انضم نجيب إلى فريق التمثيل، واشترك مع زميله كرم مطاوع في تمثيل مسرحية (نهر الجنون)، لتوفيق الحكيم من إخراج سعد أردش الطالب آنذاك.
وبدأت اهتمامات نجيب تزداد بالتمثيل، فالتحق مع كرم مطاوع، وفي عام واحد، بالمعهد العالي للفنون المسرحية مع كلية الحقوق، بيد أن نجيب لم يلبث أن ترك دراسة الحقوق في السنة النهائية ليتفرغ للمعهد.
 ولكم أغضب ذلك الأب، الذي لم يلبث أن غفر لابنه فعلته تلك بعد أن عرف أن هناك نية لإيفاد بعثات إلى الخارج، وإلى روسيا بالذات، فقد كانت طرق البعثات إلى لندن وباريس مغلقة عقب حرب 1956.
بعثة إلى الخارج ودكتوراه قد تحمي ابنه من الضياع في عالم الفن والأدب بين أذرع الأخطبوط الذي كان يوشك هو -الوالد نفسه - أن يضيع بينها في مطلع شبابه حين كان يكتب الشعر والمسرحيات!.. ويحمل مجرد شهادة مدرسة المعلمين.
وبالفعل فاز نجيب بالبعثة، وكان قد أقسم بينه وبين نفسه على ألا يعود إلى مصر، فيما لو اتيحت له فرصة الخروج منها، لما سادها آنذاك من قمع شرس لأصحاب الرأي وسجناء الضمير.
وراح الأب محمد سرور يشترى لولده لوازمه، وأوصاه في قصيدة الوداع التي ألقاها بين المودعين أن يعيش دائمًا بعقله وقلبه ووجدانه في وطنه مصر مهما باعدت بينهما المسافات والسنوات!
عزلة وشكوك
وفي موسكو ضرب نجيب على نفسه عزلة، لاقتناعه - كما قال لصديقه أبو بكر يوسف فيما بعد - بأن المبعوثين المصريين آنذاك (عام 1959)، كانوا منتقين بعناية من أجهزة المباحث بحيث لا يفلت منهم تقدمي واحد.
 أما هو فأفلت بأعجوبة، لأنه وصل إلى موسكو في قمة الحملة المعادية للشيوعية في الجمهورية العربية المتحدة، وهي حملة صاحبت إقامة الوحدة بين مصر وسوريا.
ولعبت دورًا مأساويًا في حياة نجيب سرور في موسكو، فما أن أفصح نجيب سرور عن انتمائه للفكر الماركسي، وأشاع أنه كان عضوًا بأحد التنظيمات الشيوعية في مصر (جماعة حدتو) حتى وجد نفسه محاصرا بشكوك وريب قوية من قادة التنظيمات الشيوعية العربية في موسكو، وخاصة تنظيم الحزب الشيوعي السوري الذي كان يقوده في موسكو أحد أعضاء اللجنة المركزية للحزب اللاجئين إلى الاتحاد السوفيتي.
وكان مبعث الريبة هو: كيف يتمكن شخص يقول أنه شيوعي من المجيء إلى موسكو في هذه الفترة بالذات، ويفلت من أجهزة المباحث المصرية التي كانت في أوج عنفوانها، بل وفوق ذلك يأتي طالبًا في بعثة حكومية!
وفي محاولة منه لتبديد هذه الشكوك جنح نجيب إلى التطرف، فلجأ إلى تشكيل مجموعة من "الديمقراطيين المصريين"، لإصدار البيانات واتخاذ المواقف المعادية للنظام الحاكم، واستغل ذات مرة فرصة انعقاد أحد المؤتمرات التضامنية مع الشعب الكوبي في جامعة موسكو فقفز إلى المنصة واستولى عليها، وأطلق بيانًا ناريًا ضد "النظام القمعي الديكتاتوري" في مصر وسوريا.
 وبينما هدرت القاعة المملوءة بالعرب وأجانب بالتصفيق ظهر الحرج والضيق على أوجه المسئولين في الجامعة، الذين وضعهم نجيب في ورطة شديدة.
 ونجحوا أخيرا في تنحيته عن المنصة ولكن بعد فوات الأوان! ففي اليوم التالي احتجت السفارة المصرية على جامعة موسكو، وفُصل نجيب من البعثة (هو وماهر عسل الذي ترجم له البيان وألقاه بالروسية)، وأُلغى جوازا سفرهما، وطالبت السلطات المصرية المسئولين السوفيت بترحيل نجيب سرور وماهر عسل إلى القاهرة فورًا!
بهذه الحركة نجح نجيب في كسب ثقة الشيوعيين العرب في موسكو فدافعوا عن بقائه فيها وتكللت مساعيهم لدى السلطات السوفييتية بالنجاح فظل نجيب في موسكو، ولكنه نُقل إلى مدينة جامعية أخرى حتى لا يحتك بالمبعوثين المصريين الهائجين ضده.
وبمرور الوقت أدرك نجيب أنه ارتكب حماقة، ولم يعد يدري ماذا يفعل بهذه المجموعة الصغيرة التي التصقت به. واعترف لأعضائها صراحة بأنه لا يفقه شيئا في السياسة، وأنه لا يريد أن يلحق بهم الضرر، ولذلك قرر تركهم والانصراف إلى الدراسة، ونصحهم أن يحذو حذوه.
وبالفعل، وفي الوقت الذي بدا وكأن أمور نجيب سرور تسير إلى الأفضل، بعد تبدد سحب الشكوك فيه وانتصاره في المواجهة مع السلطات الحكومية المصرية آنذاك، سواء برفضه أمرا منها بالعودة إلى مصر بعد ثلاثة أشهر، من وصوله إلى موسكو، أو بصموده أمام الضغوط التي مورست ضده بعد فصله من البعثة، أخذ نجيب يبتعد عن مجموعته الصغيرة ويغرق في الشراب والديون.
 وفى هذه الفترة بدأ يكتب قصيدة "العودة" التي أورد مقاطع منها في ديوانه "لزوم ما يلزم"، وهى قصيدة مغرقة في اليأس والضياع والحنين إلى الوطن:
"يا مصر يا وطني الحبيب!
يا عش عصفور رمته الريح في عش
غريب
يا مرفئي.. آت أنا آت..
ولو في جسمي المهزول آلاف
الجراح..
وكما ذهبت مع الرياح..
يوما أعود مع الرياح..
ومتى تهب الريح.. أو هبت..
فهل تأتي بما يهوى الشراع؟
ها أنت تصبح في الضياع..
في اليأس.. شاة عاجزة..
ماذا لها، إن سُلت السكين، غير
المعجزة؟!.."
نفوذ صهيوني
وهجر نجيب سرور المسرح الذي كان يدرس فيه تحت إشراف المخرج الكبير نيكولاي أخلوبوكوف متعللا بأن أخلوبوكوف مخرج شكلي يهوى المؤثرات الصوتية والضوئية ولا يغوص في أعماق النص المسرحي.
وبالطبع لم يكن هذا هو السبب الحقيقي الذي نفر نجيب من دراسة المسرح، ودفعه للتفكير الجدي في إعداد أطروحته للدكتوراه عن ثلاثية الروائي المصري نجيب محفوظ، وإنما كانت الأزمة الحادة التي أخذت تتفاعل في أعماقه، والتي لم يجد سرور سوى الإغراق في الشراب كوسيلة للهروب منها.
وذات مرة سأله صديقه أبو بكر يوسف مستنكرًا - وكان يجالسه في أحد المطاعم-:
ـ لماذا تفرط في الشراب إلى هذا الحد؟
فأجاب:
ـ لكي أنسى!
قال له:
ـ وما الذي تريد أن تنساه؟
فأجاب بروح دعابته الحاضرة دائما:
ـ وهل تراني أذكر!
في أواخر فترة وجوده في موسكو، نحو عام 1963 بدأ نجيب يُكثر من الحديث عن النفوذ الصهيوني في الاتحاد السوفيتي.
واستنكر من حوله منه ذلك بشدة، ولم يصدقوا أن الاتحاد السوفيتي يمكن أن يكون خاضعا للنفوذ الصهيوني، واعتبر زملاء نجيب أنه يغالي كعادته، وخاصة في ظل تفاقم أزمته الشخصية.
ثم وقعت الحادثة التي وضعت نهاية لبقاء نجيب سرور في موسكو...
كان نجيب يسامر أحد الأصدقاء اليمنيين فحدثت مشاحنة بينه وبين أحد الرواد الذي ظنهما يهينانه. وتدخل رجال الشرطة وحاولوا اقتياده بلي ذراعيه.
وكان نجيب قوي البنية، فتخلص منهم بقوة اعتبروها مقاومة، فاجتمعوا عليه واقتادوه إلى مبنى الشرطة حيث أوسعوه ضربًا.
وقال نجيب لصديقه أبي بكر يوسف وهو يروي هذه الواقعة: لقد بكيت آنذاك ليس من الألم بل على انهيار المثال- يقصد المثال الشيوعي بالطبع -، وأحسست أنه لا فرق بين شرطة سوفيتية ومباحث مصرية، فكلها أجهزة قمع، وإنما نحن الذين صدقنا الأوهام عن "الإنسانية الاشتراكية".
المسيح واللصوص
وسافر نجيب إلى بودابست بدعوة من أحد اللاجئين السياسيين المصريين هناك، حيث عمل في القسم العربي بإذاعة بودابست، وواجه هناك الغيرة والحقد من جانب الشيوعيين السوريين الذين كانوا في معظمهم غير مؤهلين لمجاراة نجيب في قدراته وإبداعاته فناصبوه العداء.
فعاودت نجيب سرور أزمته التي لم يفلح تغيير المكان في إطفاء جذوتها، وكان يتصل بزوجته طالبة الآداب الروسية ساشا كورساكوفا وصديقه أبي بكر يوسف من هناك، مؤكدًا لهما على معاداة الشيوعيين السوريين له وسعيهم لإبعاده والتخلص منه، علاوة على تأكيده على استفحال النفوذ الصهيوني لا في القسم العربي في إذاعة بودابست فحسب بل وفى معظم أوجه الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في المجر.
وذات مرة اتصل نجيب بصديقه أبي بكر يوسف من بودابست، وكان ذلك في ربيع عام 1964، وطلب من عاملة البدالة أن تكون المكالمة على حسابه، فوافق صديقه مستغربًا، وعندما تم الاتصال أخبره نجيب أنه طلب ذلك لأنه لا يملك ثمن المكالمة، وقال بصوت متهدج أفجعت نبرته المتهالكة أبا بكر يوسف إنه جائع ولم يأكل منذ أيام، وسيذهب اليوم التالي إلى السفارة المصرية "ليسلم نفسه" (كما قال) لأنه لم يعد يحتمل الزيف المحيط به، ويريد أن يعود إلى مصر ليموت فيها، مثل سنوحي!
رجاه صديقه أن يهدأ وألا يتسرع على أمل تدبير الأمر، ولكن نجيب أصر قائلا إنه لم يعد ثمة معنى للاستمرار في لعبة الخداع، فالعالم كله لصوص ومخدوعون، وما المذاهب إلا أساليب يلجأ إليها اللصوص لتغطية سرقاتهم. وبهذه المناسبة فقد كتب نجيب سرور في بودابست قصيدته الشهيرة "المسيح واللصوص" حيث "اتهم" فيها المسيح بأنه السبب في ظهور اللصوص الذين أخذوا يتاجرون باسمه، وباسمه يحكمون!
وحين يحاول "مسيح نجيب سرور" أن يرد على الشاعر بأنه سيعود ليصحح الأوضاع يجادله الشاعر:
ـ هل تصدق ما تقول؟
ـ الآب قال بأنني حتما أعود
ملكا على أرض البشر
لتسود في الناس المسرة والسلام!
ـ لو عدت.. من ذا يعرف؟
ـ سأقول: جئت أنا المسيح!
ـ سيطالبونك بالدليل
ـ ستكون في جيبي البطاقة والجواز
ـ هذا قليل..
ما أسهل التزوير للأوراق في عصر
اللصوص
ولديهم (الخبراء) سوف يؤكدون
إن الهوية زائفة!
ـ لكن عليها الختم.. ختم الآب!!
ـ يا بئس الدليل!
سيؤكد الخبراء أن الختم برهان على
زيف الهوية!
ـ سأريهم هذى الثقوب..
في جبهتي ـ أنظر ـ وفى الكفين،
في الرجلين..
جئت أنا المسيح!
سيقول لوقا: قال مرقص
إن متى قال، يوحنا يقول:
"في البدء كان الأمر "اصلب
والآن صار الصلب أوجب!"
حتما ستصلب من جديد
هم في انتظارك ـ كل أتباعك، قطعان
اللصوص ـ
هم في انتظارك بالصليب..
ماذا؟ أتبكي؟ كل شيء مضحك حتى
الدموع!
ألعصر يضحك من دموعك، من
دموعي، عصرنا
عصر اللصوص،
بل أنت.. حتى أنت لص!
لو لم تكن ما كان في الأرض
اللصوص!
حتى أنا لص.. ألم أخدع طويلا
باللصوص؟!

عودة سرور
في هذه الأثناء كتب الناقد المصري رجاء النقاش في جريدة الجمهورية مقالا بعنوان "مأساة فنان مصري في بودابست"، تحدث فيه عن معاناة نجيب وتعرضه لمخاطر جمة وشبهه بأنه "قط فوق سطح من الصفيح الساخن" على حد تعبير تنسي وليامز، وهذا السطح ـ طبقا للنقاش ـ هو القلق الذي لا يرحم، ولا يتيح لأصحابه عمرا هادئا، أو حياة بلا تقلبات عنيفة مرة! وبدا واضحا حرص الناقد المصري على استمالة النظام الحاكم آنذاك للسماح لنجيب بالعودة إلى مصر، حتى أنه قرر صراحة في نهاية مقاله: "إن حنين هذا الفنان ـ يقصد نجيب ـ إلى وطنه ليس جريمة، وتفكيره في بلاده عندما تأزمت به الأمور وانسدت في وجهه الطرق هو نوع من التوبة الصادقة ينبغي أن نقبله منه ونساعده عليه"!
وبالفعل عاد نجيب سرور عام 1964 لأرض الوطن يحمل صك الغفران الذي نجح رجاء النقاش في استمالة النظام المصري الحاكم آنذاك ليمنحه للفنان التائب -على حد تعبير رجاء النقاش في مقالته الشهيرة -نجيب سرور!! كان واضحا أن نجيب يحمل مخزونا كبيرا من المعرفة والخبرة الدراسية والحياتية، والمشاريع والأفكار، مع تقلص واضح في الفجوة ما بين أقواله وأفعاله.
دخل نجيب رأسا في قلب الأحداث، وبشكل عاصف، ومتدفق، ومتعدد المجالات: في الإخراج المسرحي، والتمثيل، وكتابة الأغاني، وكتابة الشعر الحديث الذي يتميز بتركيبه الدرامي ـ
على الأخص في ديوانه الشيق "لزوم ما يلزم"، وكتابة المسرح الشعري، وهو مجال نشاطه الإبداعي الأساسي في هذه المرحلة.
فقد جاء نجيب سرور حاملا للمسرح الشعري نقلة إلى مرحلة جديدة، مختلفة، وكان عمله التمهيدي لهذه النقلة الرائعة هو ملحمته الشعرية الشعبية (ياسين وبهية)، وكان قد وضعها وهو في موسكو ثم بودابست.
هذه الملحمة استطاع المخرج كرم مطاوع أن يمسرحها بمهارة وإبداع، فكانت حدثا مهما يكشف قدرات الإخراج على مسرحة الشعر عندما يتضمن الشعر عناصر الدراما.
وفي المعهد العالي للفنون المسرحية، حيث كان يدرس، كان نجيب سرور يقول ما يريد كما يريد، ويلقي دروسه في المسرح وتاريخه من وجهة نظره العلمية الثورية.
لهذا طُرد نجيب من المعهد الذي كان يقوم فيه بتدريس مادتي التمثيل والإخراج، وكان يلقى فيه المحاضرات بكل صراحة وشجاعة عن أزمة المسرح في مصر.
وعن محنته تلك يقول نجيب سرور في استغاثته إلى محرر مجلة الكواكب عام 1968 ما نصه: "..في تقرير للخبير الفرنسي السيد توشار شهادة لي بأنني أحسن أستاذ بالمعهد العالي للفنون المسرحية، عرفت هذا من السيد الوزير نفسه ومن الدكتور مصطفى سويف.
 ومع ذلك وبعد عامين من التدريس في المعهد، وبعد هذا التقرير، فوجئت باستبعادي من المعهد! كيف؟ ولماذا؟ وهكذا.. لا معهد.. ولا عمل بالمؤسسة.. ولا تعيين.. ولا دخل منتظم..ولا راتب ثابت..ولا اطمئنان إلى اليوم والغد وما بعد الغد!..ولا يمكن طبعا الاعتماد على فرص العمل المتباعدة وغير المنتظمة في الإذاعة والتليفزيون. وأنت تعلم لماذا؟"!
تشريد وتجويع سرور
وتتكاثر الحوادث المؤلمة ويتشرد نجيب سرور ويجوع، ويحاولون استيعابه بإغرائه بأن يقدم للتليفزيون أعمالا ترفيهية لا تقول شيئا ولا تتعرض لشيء مقابل آلاف الجنيهات.
فيتعفف نجيب سرور وهو الجائع المشرد، ويقول لعارض الصفقة هذه: "قل لوزيرك إن هذه اللعبة القذرة يجيدها غيري، وهم أكثر من الهم على القلب.
أما أنا فلن أقبل هذه الرشوة المقنعة"!.. ويعود نجيب إلى الجوع والتسكع، بل والاستجداء! ويتهمونه بالجنون، ويرسلونه إلى مستشفيات المجانين!
ولندع الرجل يصف لنا واحدة من تجاربه المخيفة والمرعبة في تلك المستشفيات التي يقرر، في رسالة استغاثة أرسلها إلى يوسف إدريس، أن مجموع المدد التي قضاها فيها بلغ أربع سنوات ونصف السنة!! المهم يقول نجيب عن تجربته المريرة واللاإنسانية في مستشفى الأمراض العقلية الشهيرة بـ (العباسية): " لقد تلقفوني فور عودتي من دمشق وأرسلوني.. لكن مهلا، ليس في معتقل من المعتقلات الحكومية المعروفة والمزدحمة بالنزلاء، وإنما في مستشفيات المجانين، مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية!!...المهم أنني خرجت من مستشفى الأمراض العقلية بمعجزة حطاما أو كالحطام! خرجت إلى الشارع.. إلى الجوع والعري والتشرد والبطالة والضياع وإلى الضرب في جميع أقسام البوليس المخلص في تنفيذ أغراض الأعداء والمحسوب علينا من المصريين أو نحن العرب! خرجت أدور وأدور كالكلب المطارد بلا مأوى، بلا طفلي وزوجتي.. وظللت مجمدا محاصرا موقوفا.
 وبعيدا عن مجالات نشاطي كمؤلف مسرحي ومخرج وممثل، وبعيدا عن ميادين النشر كشاعر وناقد وزجال ومؤلف أغان"!!
ويموت نجيب سرور جائعا مشردا، في غيبة زوجته وولديه، فقد اضطرت زوجته للذهاب إلى موسكو مع ولديها شهدي وفريد لإرسال الأول إلى المدرسة الثانوية الداخلية بموسكو لعدم وجود مرحلة ثانوية بالمدرسة الروسية بالقاهرة آنذاك، وعدم إتقانه للغة العربية اللازمة لالتحاقه بمدرسة ثانوية مصرية، ورغم أنها أوصت الكثيرين على زوجها إلا أن غيبوبة السكر نالت من الرجل، وكان قد غادر شقته بالهرم إلى بيت أخيه ثروت في مدينة دمنهور. رحل نجيب سرور عن دنيانا باكيا حزينا عاتبا على مجتمع لا يجد الشجاعة حتى الآن لرثائه.
 وذهب الجثمان إلى قرية إخطاب، تلك التي لطالما تغنى بها نجيب في مسرحياته وأشعاره، واتشحت القرية بالسواد، وكُتب على قبره بالبنط العريض.
قد آن يا كيخوت للقلب الجريح أن يستريح
فاحفر هنا قبرا ونم
وانقش على الصخر الأصم
يا نابشا قبري حنانك
هاهنا قلب ينام
لا فرق من عام ينام وألف عام
هذي العظام حصاد أيامي
فرفقا بالعظام !..
بريخت مصر
أما على مستوى المؤثرات الفنية في مسرح نجيب سرور، فقد خضع مسرح "نجيب سرور" كما يقول الباحث أحمد صقر في القراءة النقدية التحليلية للمؤثرات الذاتية والفنية، التي قدمها في جامعة الإسكندرية، لمجموعة من المؤثرات التي شكلته وجعلت له طبيعة مميزة، وتتجلى في المؤثرات الملحمية والمؤثرات الأرسطية والمؤثرات الميلودرامية، هذا إلى جانب بعض المؤثرات الأخرى التي ظهرت بشكل محدود في مسرحه.
حيث اقترب سرورا، باعتباره كاتبا مسرحيا، من المسرح الملحمي الذي يتفق مع اتجاهه الذي يسعى من خلال مسرحياته إلى طرح بعض القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ودراسة العلاقة بين الأفراد والمجتمع، ويتحقق الاتفاق بين بريخت وسرور في توحد آرائهما حول واجب المسرح، إذ يرى "بريخت" (أن واجب المسرح يتمثل في كونه أداة ثورية تسهم في عملية التحول الاجتماعى لصالح الطبقات المقهورة) و"سرور" هنا لا يتأثر بـ"بريخت" تأثيرا يجعله يفقد القدرة على اختيار ما يتناسب وطبيعة مسرحه، بل إننا نجد "سرورا" يأخذ بعضا من عناصر المسرح الملحمي التي تتلاءم مع البيئة المصرية.
إلى جانب ذلك يتضح أوجه الاتفاق بين كل من "بريخت" و"سرور"، في هدف الدراما عندهما، فنجد "أنها قادرة على أن ترد على أسئلة يطرحها العقل البشرى بعيدا عن مسرح الإيهام الأرسطي العاطفي الذي يهدف إلى اندماج المتفرج مع البطل حتى ينسى نفسه تماما.
 مع أننى لا أقول إن المسرح الملحمي يلغي وجود العاطفة، بل إننى إذا قلت بذلك كأنني أسعى إلى أن أجرد العلم من الإحساس، وفى هذا الصدد يقول "بريخت" إن ما هو جوهري بالنسبة للمسرح الملحمي يتلخص كما يبدو لي، ليس في مخاطبته للمشاعر قدر مخاطبته لعقل المشاهد، فالمشاهد يجب ألا يتعاطف بل يجب أن يجادل، وفى مثل هذه الحالة فليس من الصحيح قطعًا أن نجرد هذا المسرح من الإحساس، إن النتائج التي يمكن أن تترتب على ذلك السلوك هي نفسها فيما لو قمنا اليوم بتجريد العلم، مثلا من الإحساس".
ثلاثية تعالج التحولات الكبرى
كما يتضح جانب آخر من جوانب تفضيل "سرور" لأسلوب "بريخت" المسرحي سواء من حيث المضمون أو من حيث الشكل الذي يتخذ كإطار لهذا المضمون وكيفية إخراجه على المسرح، إذ يقول "سرور" في هذا الصدد "إن من يريد الجمع بين الاختصاصين (يعنى اختصاص الدراما والإخراج)، أن يملك عبقرية "بيراندللو" أو "بريخت".
وهنا ندرك أن تأثر "سرور" بـ"بريخت" لا يقتصر على النص المسرحي فحسب بل نجد تفضيل "سرور" لأسلوب "بريخت" في الإخراج المسرحي (والذي يريد لنجومه أن يذوبوا في العرض المسرحي لحساب وحدته الفنية لا أن يضعوا أنفسهم أمام العرض- كإعلانات النيون- على حساب وحدته الفنية).
وإذا تناولنا الشكل الذي اتخذته هذه الأعمال والمتأثرة بالشكل الملحمي وتتجلى لنا في الأعمال التالية:
1- الثلاثية "ياسين وبهية" و"آه ياليل يا قمر" و"قولوا لعين الشمس".
2- "يا بهية وخبرينى".
3- "الحكم قبل المداولة".
4- "منين أجيب ناس".
5- ملك الشحاتين".
فإن الثلاثية تشغل مساحة زمنية من تاريخ مصر الحديث تمتد من بداية القرن العشرين وحتى النصف الثاني منه، ويعالج "سرور" من خلال هذه الثلاثية التحولات الكبرى التي حدثت في تاريخ مصر حيث "تبدأ الثلاثية بالسخرية وتنتهى بالتمرد".
وقد استنبط "سرور" مادة الثلاثية من التراث الشعبي، حيث اعتمد على الحكاية الشعبية، وهى مادة من مواد المسرح الملحمي والتي يعتمد عليها بشكل أساسي حيث "إن الحكاية الشعبية تعيد الجمهور إلى علاقته بواقعه".
وقد اتخذ "سرور" الشكل الملحمي كأساس لعمله هذا ليعكس من خلاله آرائه، ففي الجزء الأول من الثلاثية اتضحت عناصر المسرح الملحمي من اعتماد "سرور" على الراوي ليؤكد الطبيعة الملحمية للموضوع حيث يقوم الراوي بسرد الأحداث، إذ أن الأبطال ليسوا حاضرين وبالتالي فنحن لا نرى الأحداث بل نسمعها من الراوي الذي يتولى سردها.
كما يتضح الأثر الملحمي في طبيعة الشخصيات حيث إن "ياسين وبهية" شخصيتان متفردتان في عواطفهما وقصة حبهما، وإن هذه القصة تبلور الناحية الفردية في الشخصيات وعواطفها وأفكارها وانفعالاتها، ولكن إعلاء شأن العاطفة هنا لا يهدف إلى تعميق الإحساس لدينا بالواقع الموضوعي ونحن نرى هذه العاطفة ترتطم بالظروف الاجتماعية والاقتصادية.
كما أن المسرحية تعكس بعض الملامح الملحمية الأخرى حيث إنها لا تنبنى حول مركز، ولا تتوالى فيها الأزمات حتى تصل لنقطة الالتحام الرئيسية، وهذا ما يحدث في المسرح الملحمي، حيث يقول "فخري قسطندي" في هذا الصدد:
"إن الحبكة توحي لنا بنسيج محكم النسيج، متماسك الأطراف، كبنيان مرصوص يشد بعضه بعضًا، ليس له ذوائب أو خيوط مدلاه".
 فالمسرحية تبدأ بالحدث من أوله معتمدة على الراوي يقدم لنا الأحداث والشخصيات فتتلاحق الأحداث الواحدة تلو الأخرى وتصور تدرج التطور في الأحداث والشخصيات والصراع، والتطور هنا في الشخصيات والأحداث امتدادا مترابطا يصوران تطور الصراع في الملحمة، وقد سجل سرور قصته في إحدى عشر لوحة ليس بينها أي ترابط حيث إن كلا من هذه اللوحات تعتبر فصلا مستقلا عن الآخر، ولذا نجد أن البناء الدرامي بالمفهوم الأرسطي في هذا العمل مفكك وهى صفة تغلب في أعمال "سرور" وهى صفة أساسية في المسرح الملحمي.
ويقول "أمين العيوطي" "إنه نتيجة لإنشغال المسرح الملحمي بحياة الكادحين وتصويره لقطاع شعبي كبير، أن خلف هذا التصوير أثرا على التصوير الدرامي فاختلطت عناصر الملحمة بعناصر الدراما واكتسبت الحبكة الدرامية المركزة فيما سبقه من الأعمال خاصية الشكل الملحمى الأقل تركيزا في أعماله هو، وهذا هو المنهج الذي جرت عليه التجربة الجديدة "ياسين وبهية"، حيث اتخذ الصراع في هذا العمل طابعا ملحميًا، حيث إنه يبدأ صراعًا شخصيًا ثم سرعان ما يتحول إلى صراع جماعي.


ملحمة الثلاثية
إن قصة "ياسين وبهية" وحبهما لبعضهما ومشاكلهما الاقتصادية وعجزهما عن الزواج، وموت والد "ياسين" في المنفى بعد أن سلب "الباشا" أرضه، كل هذا يفجر المشكلة الفردية لتصل إلى المشكلة الجماعية، حيث الناس تزرع والغير يحصد، وهم لا يحصلون على شئ، ثم هناك عامل آخر يفجر المشكلة وهو رغبة "الباشا" في سلب "بهية" شرفها، هذا عامل كأمن يشتغل ثم يخمد ثم يكرر "الباشا" طلبه مما يعجل باندلاع الثورة الجماعية.
كما استعان "سرور" في مسرحيته هذه بوسيلتين من الوسائل الفنية ساعدتاه على تحقيق التوازن في عمله هذا، فوجدنا الحلم وسيلة للتنبؤ بالمستقبل، حيث حلم "ياسين" وهو يركب "الباشا" وما يعبر عنه من رغبة في إذلال "الباشا"، ثم أسلوب الاسترجاع الذي استخدمه "سرور" لاستحضار الماضى (شبح والد "ياسين").
إن استخدام "سرور" للوسيلتين معا قصد به ربط الماضي بالحاضر والتطلع نحو المستقبل مثلما فعل باستخدامه بعض النصوص القديمة، والحكم لكى يقول لنا "سرور" إن ما حدث بالأمس يحدث اليوم وإن اختلفت تفاصيله.
كما اتضح بهذه المسرحية وسيلة أخرى من وسائل المسرح الملحمي لإحداث الاغتراب، "فبينما يستخدم بريخت الخمور وسيلة من وسائل الانتماء والاغتراب، والانتماء في حالة الصحور والإيقاظ والاغتراب في حالة السكر".
يفعل "سرور" الشيء نفسه عندما استخدم المخدرات وسيلة من وسائل الاغتراب عند شخصياته من أجل إطلاع المشاهد على الأوضاع السائدة في المجتمع.
وقد تحققت الملحمية في الجزء الثاني من الثلاثية في مسرحية "آه ياليل يا قمر" والتي ابتدأها بالراوي الذي أعطى القدرة على تعميم وتداخل الأحداث لكى يوضح لنا استمرارية الحياة وتوالدها داخل الشخصيات، ولم يعرض لنا "سرور" داخل مسرحيته هذه قصة لها بداية ونهاية، وإنما عرض حوادث ولوحات متجاورة وليست مترابطة بعضها ببعض، إلا من حيث النتيجة الختامية لهذا العمل، كما أن الصراع في هذه المسرحية لا يتطور إلى ذروة يتبعها حل، وإنما أحداث متسلسلة، ورغم أن الراوى يظهر في المقدمة فقط، إلا أن أغلب المسرحية بعد ذلك تروى ولا تجسد على المسرح، حيث نجد الكورس يحل محل الراوى ويساعده في ذلك كل من "أمين" و"بهية" حيث يسردان الفصل الأول من المسرحية، ثم في الفصل الثانى تروى "بهية" للكورس حياتها وما حدث لها من تطور عندما قررت الرحيل عن "بهوت" إلى "بورسعيد" ويشاركها في سرد الأحداث "أمين"، إلى أن يصل إلى الفصل الأخير من المسرحية حيث تسرد "بهية" والكورس كل أحداث هذا الفصل.
إن اعتماد "سرور" على السرد جعل الجمهور ينفصل عن الأحداث ولا يندمج معها عاطفيا، بل يشاهد هذه الأحداث ويحكم عليها، وهذه خاصية من خصائص المسرح الملحمي وظفها "سرور" في مسرحيته هذه وحقق بها مقصده.
كما أن لغة السرد والتي اعتمد عليها "سرور" في عمله الأول قد تغيرت من الفصحى إلى العامية وأصبح الحوار هنا حوارا مسرحيا ولم يعد مجرد حوار يقترب من الحوار القصصي، كذلك لم يهتم "سرور" في هذا العمل بالتعرض للشخصيات ولظروفها الخاصة بقدر ما ركز على حياتها كجزء من كل يشكل كيان المجتمع، ولعل هذا جعله يعرض لنا المجتمع ككل وهذه الشخصيات كجزء منه، لذا وجدنا كلا من "ياسين" و"أمين" و"عطية" في الثلاثية شخصيات لها صفة المصير الجماعي، وإن كانت هذه الشخصيات تتعرض لقوى أكبر منها تعترضها، إلا أنها لا تنسحب من هذه المواجهة، وإن حدث فيكون هذا هروبا مؤقتا مع عودة واعية كما حدث لـ"أمين" في الجزء الثانى من الثلاثية والذي انفصل لفترة وأغرق نفسه بالخمور ثم تيقظ بعد ذلك وشارك في الكفاح.

قيمة الحلم في التنبؤ بالمستقبل
وإلى جانب ما تقدم من عناصر ملحمية في هذا العمل، استعان "سرور" بالراوي والكورس اللذان لهما الصبغة الملحمية من حيث الأداء ووظيفتهما في هذا العمل، حيث نجحت هذه الوسيلة في هدم الحائط الرابع. وقد أكد "سرور" للجمهور أنه باستخدام هاتين الوسيلتين فإن ما يقدمه ليس واقعا بل مسرحية، وذلك يمنع الجمهور من التوحد مع الشخصيات أو الحوادث ويشجعه على التفكير والحكم، وهو ما يميز المسرح الملحمي.
كما لعب الخمر والحشيش دورا هاما في الثلاثية، حيث استخدم "سرور" الخمر والمخدرات بوصفها وسيلة لهرب الشخصيات من مواجهة هذا الواقع الأليم، ولهذا نجد "ياسين" يهرب من الظلم ومن طغيان "الباشا" في جلسات الحشيش مع أقرانه، ويفعل "أمين" الشيء نفسه حين يهرب من الواقع ويستخدم الخمر للاغتراب عن هذا العالم، ونجد في الجزء الثالث من الثلاثية "حمدي" الفنان الذي يفشل في إيجاد فرصة للحياة الكريمة يغترب عن الواقع الذي يحيطه وينتهى به الأمر إلى الانتحار.
إن استخدام "سرور" لهذه الوسيلة- ومن قبله "بريخت"- وإن حققت هدفها بالنسبة للشخصيات إلا أن هذا يحدث لوقت مؤقت، لأن هذه الشخصيات ينتهى بها الأمر إلى الحقيقة الواقعة، لذلك فهى وسيلة فاشلة لأن مرارة الواقع تتغلب دوما على كل المسكرات والمخدرات.
ويعود "سرور" في مسرحية "آه ياليل يا قمر" إلى استخدام الحلم باعتباره وسيلة من وسائل المسرح الملحمى، كما فعل في مسرحيته "ياسين وبهية"، وهنا نجد استخدام "سرور" للحلم الذي يشتمل على الرموز، فـ"بهية" في حلمها ترى "ياسين" و"أمين" في ثياب الجنة وعلى جبهتيهما ورود حمراء فتمد يدها لتمسك بالقمر الذي يقدمونه لها، ولكن الأرض تتفجر فيها البحور، وتشتعل النيران، وتنبت الأشواك، هذه جميعا رموز لها معان أعمق، رموز للمصاعب التي نقابلها في الطرق إلى الغد، وهنا ندرك ما للحلم من قيمة في التنبؤ بالمستقبل.
من أعمال نجيب سرور:
يس وبهية - كتبها في بودابست قبل عودته من منفاه إلى وطنه.
آه ياليل ياقمر - أخرجها جلال الشرقاوي.
قولوا لعين الشمس..
آلو يا مصر - حققها ونشرها د.عصام الدين أبو العلا بعد وفاة المؤلف.
ميرامار: التي اقتبسها من رواية نجيب محفوظ واخرجها بنفسه لفرقة المسرح الحر عام 1968 على مسرح الزمالك.
التراجيديا الإنسانية: مجموعة شعرية كتبها بين 1952 و1959. صدرت عن "الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر" عام 1967 بالقاهرة.
نشرت أعماله الكاملة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في ستة مجلدات،اثنان للمسرح واثنان للشعر واثنان للدراسات النقدية. بمراجعة وتحقيق وتقديم الدكتور عصام الدين أبو العلا.