الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

مي زيادة.. ريحانة الشرق

مي زيادة
مي زيادة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
- ولدت في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد.
- يحزنني الربيع.. يحزنني أن أرى مواكبه الجميلة تسير في الفضاء فلا يراها البشر إلا من كوى ضيقة نقبت في الجدران الحديدية.
- إني أخاف من الحب كثيرا، ولكن القليل من الحب لا يرضيني.
- أتمنى أن يأتي بعد موتي من ينصفني، ويستخرج من كتاباتي الصغيرة المتواضعة ما فيها من روح الإخلاص والصدق والحمية والتحمس لكل شيء حسن وصالح وجميل، لأنه كذلك، لا عن رغبة في الانتفاع به.
كانت هذه أشهر الكلمات التي عبرت بها عن نفسها، الكاتبة الأشهر في عالم الشعر والأدب مي زيادة؛ وهو اسم مستعار لـ"ماري بنت إلياس" ..
فقد كانت فتاة غير عادية، عشقت الكتابة منذ الصغر، فأقبلت على التعليم وتفرغت للأدب، ولذلك ولدت شخصية ريادية أدبيًا واجتماعيًا، في بداية القرن العشرين، الزمن الذي لم يكن يعني كثيرًا بالمرأة العربية، ولم يشجعها حتى على الخروج من المنزل وحدها، إلا أن "مي زيادة" لم تعبأ به كثيرًا، وواصلت طريقها.
وبتشجيع من والدها فتحت مي بيتها في قاهرة المعز، لرجال الأدب، تحاورهم وتستمع إلى إبداعاتهم في صالونها الأسبوعي، جمعت به صفوة كتاب العصر وشعرائه، مثل: أحمد لطفي السيد، عباس العقاد، طه حسين، خليل مطران، وغيرهم، وقد أحبها أغلبهم حبًا روحيًا، ألهم بعضهم روائع من كتاباته، ولكن مي لم يدق قلبها إلا لواحد فقط لم يكن معهم أبدًا، كان "جبران خليل جبران" حبها الأبدي، الذي يسكن الولايات المتحدة الأمريكية، فتعذر اللقاء بينهما طوال حياتهما، ولكن الرؤية لم تكن لتمنعهم من انجراف عواطفهم وتبادل أحاديث الهوى عبر الرسائل البريدية، التي كانت بمقاييس عصرهم تأخذ وقتًا طويلًا.
ولدت مي زيادة في الحادي عشر من شهر شباط العام 1886 من أب لبناني هو الياس زخور زيادة، من قرية "شحتول" الكسروانية، وأم فلسطينية هي نزهة خليل معمر، في بلدة الناصرة، التي هاجر إليها الياس وعمل مدرسًا في مدرسة الأرض المقدسة.

سنوات الدراسة الأولى
تلقت مي مبادئ القراءة والكتابة في الناصرة، ثم في مدرسة عينطورة "مدرسة الراهبات" وكانت في الثالثة عشرة من عمرها، في القسم الداخلي، بين عامي 1900 و1903، وفي هذه المدرسة نشأت في ظل التعاليم الدينية، وعندما تسلطت روح الاستبداد والقهر، والاضطهاد العثماني في لبنان، كانت في المقابل الحريات سائدة في مصر التي هاجر إليها إلياس زيادة مع عائلته في العام 1908.
توافقت هجرة مي إلى القاهرة مع اكتمال أنوثتها، فأصبحت امرأة ناضجة آسرة الجمال، وقد راقت الحياة الجديدة لها، رغم المصاعب التي واجهت أسرتها في بداية حياتها في القاهرة.
دخلت الجامعة ودرست تاريخ الفلسفة العامة وتاريخ الفلسفة العربية، وعلم الأخلاق على المستشرق الإسباني "الكونت دو جلارزا" وتاريخ الآداب العربية على الشيخ محمد المهدي وتاريخ الدول الإسلامية على الشيخ محمد الخضري.
نوعت الفنون والآداب التي عالجتها مي على اختلاف موضوعاتها، ولم تكتف بفن أدبي واحد، وتميّزت بالشعر والترجمة والخطابة والمقالة والنقد، ويرجع ذلك الى مواهبها المتعددة وملكاتها المنفردة، وهي تعتبر ظاهرة فذّة في عصرها، اتّسم أدبها بسمات كثيرة.
نبغت مي في عصر النيوكلاسيكية، أي في عصر جرى فيه بحث الأسلوب العربي الأصيل، وروعي فيه مقدار من التجديد البعيد عن التطرّف والتكلّف، وكان حرص النقّاد آنذاك على سلامة اللغة وأصالتها حرصًا شديدًا جعلهم ينتقدون تجديد شوقي ويحاسبونه على هفوات لا نحسب لها اليوم حسابًا.

مي العاشقة
الحب حسب رأي مي، هو الذي يجعل العالم هيكلًا تخشع فيه النفوس، فتجثو للعبادة والصلاة والاتحاد الروحي مع جميع قوى الكون، هو هذا الذي نعنيه عند ما نتكلم في الحب ونعظّم عواطف الحب، حيث أن الجانب العاطفي - العشقي - الوجداني في حياة مي زيادة هو أكبر الجوانب التي احتلت حيّزًا واسعًا من اهتمامات الباحثين والكتاب، ولكن رغم كل ذلك فقد بقي هذا الجانب غامضًا ومبهمًا، وطرح الكثير من علامات الاستفهام، ولا ريب أن هذا الجانب ترك آثارًا واضحة على مسار حياتها، وترك أيضًا بصماته على نتاجها ونتاج المفكرين والمحبين لها.
وحفلت حياة مي بالعشاق والمحبين كما كانت حياة جبران خليل جبران الذي أحبها وأحبته عبر الأثير والرسائل المتبادلة، وجبران واحد من عشّاق مي الكثيرين، وهي واحدة من عشيقاته الكثيرات، وثمة تشابه في التوترات النفسية وعقدها بين الاثنين.

مي وجبران
كانت شهرة جبران قد اجتازت المحيطات وبلغت الأراضي العربية ومن ضمنها مصر، وقرأت مي كتبه، فشعرت أن كتاباته تنم عن عاطفة إنسانية عالية ونادرة، وأخذت تتبع أخباره وما ينشره باهتمام كبير، وأحست بجاذب خفي يشدّها نحوه، رغم بعد المسافات. وبعد تردد كتبت له رسالة عام 1912، تعرّفه فيها بنفسها وبنشاطها الأدبي، ظنًا منها بأنه سيهمل هذه الرسالة. وبعد فترة، تلقّت مي رسالة جوابية منه، فكانت فاتحة باب العلاقة بين الاثنين. بدأت هذه العلاقة مبنية على أساس إعجاب مي بمؤلفات جبران رغم أنها في كثير من النواحي كانت تخالفه الرأي.
أعجبت به إعجاب المناقضة، ومع مرور الزمن تحوّل الإعجاب الى صداقة، فإلى حب، علاقة روحية عشقية متبادلة، وكل ذلك عبر الرسائل المتبادلة.
لقد أحبت مي في جبران ميثاليتها هي، وميثالية جبران في مؤلفاته ورسائله، ومع ذلك قاومت، وأرادت أن تحكّم عقلها في علاقتها بجبران، ولكن عاطفتها غلبت العقل والتعقّل.
وفي حياة مي أكثر من رجل، سهرت الليالي من أجله، تدبّج له خطابات طافحة بالعشق، وتظهر له عاطفة نيران العشق والشوق، ومن هؤلاء: عباس محمود العقاد، وإسماعيل صبري، وأحمد لطفي السيد، والرافعي وانطون الجميّل وأمين الريحاني، وشبلي الشميّل ويعقوب صرّوف وولي الدين يكن.
واجتازت شهرتها حدود مصر والعالم العربي، وبلغت حدود الهند، فبعد أن راسلها الشاعر العراقي كاظم الدجيلي، أهداها شاعر الهند الأكبر طاغور إحدى قصائده الإنكليزية التي تحمل عنوان "طائر الصباح".
وكانت مي تصبو إلى العيش في صميم الحياة ولا ترضى مطلقًا بأن تحيا على الهامش، وترغب في أن تترك أثرًا منها حيثما حلت، وأن تطبع كل ما تمسه بطابع خاص. وكل هذا بغية تحطيم القوانين التي وضعها الرجل، والتي أعطته السيادة على المرأة، ووضعت المرأة في خانة الدونية. ولكن هذه الشخصية المتمردة ما كانت تستقر على حال، كانت أبدًا في غليان مستمر، وفي حيرة دائمة. تمقـت الــيوم ما اشتهته بالأمس، كانت عذبة وضارية في وقت واحد. وكل هذا انعكس سلبًا على حياتها العاطفية.

نكبات مي
ما بين عام 1929 وعام 1932، تراكمــت النكبات على مي زيادة، بموت والدهــا الياس زيادة عام 1929، بعد موت إسماعــيل صبري 1923، وولي الديـن يكن 1921، ثم جبـران عام 1931 ووالدتها عام 1932، وهـذا، فجّر لديها بركان الخوف والقلق، وزاد من اضطرابها النفسي، خاصة بعــد أن أفاقت من خدر آلامها، فداهمها الواقع الضاري بكل ما انطوى عليه من أسى منغّص ويأس ناهش، فوجدت نفسها مستوحدة، لا حنان يهدهد أعماقها الصارخة، ولا عزاء يضمّد الكبد العليلة، ولا شيء يعيد إليها سحر الشباب ونضارته وإشراقته، وقد وصف الدكتور حالتها بقوله: "أخذ ميلها الى العزلة يظهر بعد أن فقدت والديها، وبعد أن غمر الحزن قلبها ونفسها ولكنها لم تقطع صلتها بالناس فجأة، وإنما قلّلت لقاءهم.
بعد عام 1932 أترعت كأس الألم، وأخذت تفتش عن الأحياء فلا تجد حولها إلا ظلامًا يتراءى خلاله شبح تنعق فوقه الغربان، حسب رأي الدكتور جميل جبر، وما زاد من هواجسها وتشاؤمها استغلال أقاربها لوحدتها، ليظهروا أطماعهم بثروتها وممتلكاتها وأخذوا يتحينون الفرص للانقضاض عليها.
رحلاتها الى أوروبـا، لم تخفف من مشكـلتها، بل تفاقــم شعـور الاضطهاد لديها، حتى أخذت تهلوس وتصـرخ: "لا.. لن تأخذ مالي"، وهي في تلك الحالة بعثت رسالة إلى قريبها يوسف زيادة، تشرح له فيها حالتها وآلامها. ذهب الدكتور زيـادة إلى مصر، وعاد برفقتها، وإذ رأى أن أعصابها لم تهدأ نقـلها الى العصفورية "مركز للأمراض النفسية"، وتم الحجر عليها وعلى أملاكها بحجة أنها مجنونة، الأمر الذي حدا بالصحافة للاحتجاج على هذه الفعلة السيئة تجاه ريحانة الشرق. وإثر الضغوط الرافضة لهذا العمل تم نقلها الى مستشفى ربيز، حيث زارها المفكر أمين الريحاني، فأضربت عن الطعام استنكارًا لسوء معاملتها.
بعد خروجها من المستشفى سكنت قرب الجامعة الأميركية، ودُعيت في عام 1938 الى إلقاء محاضرة حول "رسالة الأديب الى الحياة العربية" في الجامعة الأميركية، فسمع الحضور أعذب صوت وشاهدوا أجمل وجه، واتزانها العقلي دحض كل المزاعم المغرضة عن جنونها. وبعد ذلك انتقلت مع الريحاني الى الفريكة، ومنها عادت إلى مصر، بعد أن فُك الحجر على ممتلكاتها، وقد قالت: "الحرية الشخصية هي التي هاجمني فيها جرّدني منها أولئك الأقارب الذين رموني بالجنون، ونشروا عني الإشاعات المتنوعة في الشرق والغرب طمعًا بالمال وفي المتاع الفاني".
في الثامن عشر من أكتوبر لعام 1941 ماتت ريحانة الشرق مي زيادة قهرًا ويأسًا. وعندما أسلمت الروح لم تجد حولها لا صديقًا ولا نسيبًا ولا رفيقًا، بل رأت سقفًا مظلمًا تدلت منه خيوط العنكبوت، وكانت جنازتها مثالًا في البساطة، "نعش قاتم سار وراءه لطفي السيد، انطوان الجميل، خليل مطران، إيمي خير نفر وقليل من الأصدقاء.
وكان القبـر الذي وارى جسدها يتحدث بلسانها: "هذا قبر فتاة لم ير الناس منها غير اللطف والبسمات، وفي لبها الآلام والغصّات... قد عاشت وأحبت وتعذبت وجاهدت ثم قضت".
كانت مي زيادة الأديبة والناقدة والشاعرة شاهدة عصرها، وعكست أمانيه، في صفحات إن أعوزها أحيانًا ول النفس، ورصف البناء، فلم يعوزها لا الشعور العميق، ولا حرارة التعبير ولا صدق التجربة. والشعب الذي ضحّت من أجله الكثير لم ينصفها لا في حياتها ولا في مماتها.