الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ليس كل حديث حوارًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا يقتصر الأمر على حاجة المجتمع أو عدم حاجته لتطوير فكرة معينة؛ فقد يكون المجتمع في حاجة بالفعل لتطوير وتطبيق فكرة بعينها، ولكن مرحلة التطور التي يجتازها تفرض نوعا من الحظر على الترويج لأفكار بعينها، محبذة الترويج لأفكار قد يحكم عليها التاريخ فيما بعد أنها أفكار ليست خاطئة فحسب، بل ضارة مدمرة أيضا، وتختلف درجة صرامة الحظر كما يتباين حجم التحبيذ من مجتمع لآخر ومن مرحلة تاريخية لأخرى. 
ولا يقتصر ذلك الموقف الاجتماعي المحافظ على الأفكار السياسية أو الفلسفية؛ فالأفكار والمكتشفات العلمية قد عانت وتعاني الكثير من العنت؛ حين تمثل تهديداً للبناء الفكري السائد في المرحلة المعينة. 
على سبيل المثال؛ دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس، حقيقة لا جدال فيها، وهي ليست بالحقيقة الجديدة، فدوران الأرض لصيق بوجودها، ومنذ أن وجد الإنسان فوق تلك الأرض وهو محاط بالعديد من الظواهر التي تدل بشكل قاطع على دورانها، ورغم أن تلك الظواهر لم تتغير منذ أن وجدت الأرض حتى الآن، ورغم أنها كانت تحت سمع وبصر الإنسان منذ وجوده، ورغم أن تفسيرها علميا فتح آفاقا لا حد لها لتحسين حياة البشر؛ فقد ظل المجتمع البشري لحقب طويلة يرفض بضراوة القبول بذلك التفسير الموضوعي العلمي؛ بل لقي أصحاب الدعوة لذلك التفسير عنتا واضطهادا لا يتسع المقام لتفصيله؛ ودوران الأرض مجرد مثال وغيره من الأمثلة ما يفوق الحصر. 
وتتباين المجتمعات البشرية من حيث مواقفها من توسيع مساحات الحوار أو تضييقها؛ وتشير وقائع التاريخ إلى أن تقدم المجتمعات والدول يرتبط باتساع تلك المساحات؛ بل إن نتائج دراسات العلوم الإنسانية تكاد تجمع على انطباق تلك القاعدة على تنشئة الأبناء؛ فكلما أزيلت العوائق أمام تساؤلات الطفل، وكلما تشجع الطفل على المحاولة والخطأ، ازدادت احتمالات أن يصبح فيما بعد قويا ناضجا واثقا. 
الحوار وسيلة لتفاعل الآراء والأفكار بين طرفين أو أكثر، وبصرف النظر عن نتيجته، فإن إفصاح كل طرف عن آرائه يعد شرطا لازما لبداية حوار حقيقي، ونظرا لأن تعبير "الحوار" قد اكتسب سمعة إيجابية تجعله لصيقا بمفاهيم المرونة والانفتاح الفكري والحرية والديمقراطية، بحيث يصبح رفضه أو الانسحاب منه رذيلة منفرة؛ فقد أصبحت ممارسة "الحوار" مغرية حتى لمن لا يطيقون مرونة أو انفتاحا، ولمن لا يعرف عنهم ميلا لحرية أو تحرر، وحيث أنه مع عصر انفجار المعلومات وعالم الإنترنت لم يعد مكان للإعاقة المادية للحوار وتبقى العوائق النفسية الاجتماعية إلى جانب افتعال أنماط من الحوار الزائف.
كثيرا ما نلجأ إلى اصطناع مواقف تتخذ شكل الحوار دون أن تتوافر لها أبسط شروطه، كثيرا ما شهدنا في حياتنا اليومية العديد من "الأحاديث المطولة" بين أب متسلط وأبنائه؛ أو بين مسئول ديكتاتور ومعاونيه أو مرءوسيه، أو بين رموز الاحتلال وممثلي الشعب، وقد تبدو تلك الأحاديث كما لو كانت حوارا حقيقيا حيث الأطراف جميعا تتبادل الكلام والصمت والإنصات ولكنها في حقيقة الأمر لا تتحاور بالفعل؛ بل يقوم الطرف الأقوى بإملاء "أوامره" على الطرف الأضعف، و لا تكون "الأحاديث" في هذه الحالة إلا نوعا من محاولة إكساب ذلك الإملاء الكريه نكهة الحوار المقبولة والمحببة؛ مع الحرص دائما على تذكير الطرف الأضعف بمحدودية قدراته وبأن مجرد القبول بالحديث معه يعد مكسبا ينبغي الحفاظ عليه. 
وشهدنا نوعا آخر من تلك الحوارات الزائفة؛ يتم فيها استبدال الإصغاء بالحوار بحيث يبدو مجرد الإنصات كما لو كان حوارا حقيقيا، يغلب على تلك "الأحاديث" أن الطرف المتلقي أو المستمع أو المنصت، والذي غالبا ما يكون من ممثلي السلطة الأبوية أو السياسية أو غيرها، لا يبدي رأيا سوى الترحيب بالاستماع و السعي إلى الاستزادة، دون تورط في وعود أو حتى ردود؛ ويكون أشبه بمن يستمع إلي مطرب أو خطيب حيث تكفي هزة رأس تشجع على الاستمرار دون أن تعني بالضرورة موافقة على ما يقال، أو إيماءة متجهمة توحي بامتعاض دون أن تتحول إلي رفض صريح. و لا تخلو مثل تلك "الأحاديث" من فائدة لمن يشارك فيها؛ فمن يتحدث دون أن يعترضه أحد قد يتوهم أنه مشارك في حوار حقيقي، فينخفض توتره ويشعر كما لو كانت لكلماته قيمة، ومن ناحية أخرى فقد يتوهم المستمع أنه يمارس ديمقراطية غير مسبوقة تثبت بالفعل سعة صدره وتقبله للنقد وانفتاحه على مختلف الآراء؛ ويمضي كل واهم مستمتع بأوهامه.