الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

محمود صلاح يكتب: اليوم الأخير في حياة جمال عبد الناصر!(1) أول أزمة قلبية هاجمت الزعيم قالوا "أنفلونزا"! وسأل قرينته قبل رقوده على فراش الموت: هل تغديتِ؟! وقال لهيكل: سأضع قدمي في ماء وملح.. وأستريح!

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الفصل الأول
اليوم الأخير 
في حياة جمال عبد الناصر!

× أول أزمة قلبية تهاجم عبد الناصر.. قالوا إنها أنفلونزا! 
× قال لهيكل: أضع قدمي في ماء وملح.. وأستريح!
× عبد الناصر يسأل قرينته وهو يتجه إلى فراش الموت: هل تغديت؟ 

مساء يوم 28 سبتمبر 1970.. خرج صوت أنور السادات عبر الإذاعة المصرية، ينعى إلى مصر والعالم العربي والعالم أجمع الرئيس جمال عبد الناصر، الذي رحل عن الدنيا في الساعة السادسة والربع من مساء نفس اليوم.

كان صوت أنور السادات متهدجًا رغم عمقه، مجروحًا رغم صلابته.

وقال السادات:
فقدت الجمهورية العربية المتحدة، وفقدت الأمة العربية، وفقدت الإنسانية كلها، رجلًا من أغلى الرجال وأشجع الرجال وأخلص الرجال، هو الرئيس جمال عبد الناصر، الذي جاد بأنفاسه الأخيرة، في الساعة السادسة والربع من مساء اليوم 27 رجب 1390 الموافق 28 سبتمبر 1970، بينما هو واقف في ساحة النضال، يكافح من أجل وحدة الأمة العربية ومن أجل يوم انتصارها.. لقد تعرض البطل الذي سيبقى ذكره خالدًا إلى الأبد، في وجدان الأمة والإنسانية، لندبة قلبية، بدت أعراضها عليه في الساعة الثالثة والربع بعد الظهر.

وكان قد عاد إلى بيته، بعد انتهائه من آخر مراسم اجتماع مؤتمر الملوك والرؤساء العرب الذي انتهى أمس في القاهرة، والذي كرس له القائد والبطل كل جهده وأعصابه، ليحول دون مأساة مروعة دهمت الأمة العربية.

إن اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي ومجلس الوزراء، قد عقدا جلسة مشتركة طارئة على إثر نفاذ قضاء الله وقدره ـ لا يجدان الكلمات التي يمكن لها تصوير الحزن العميق الذي ألم بالجمهورية العربية المتحدة، وبالوطن العربي وبالإنسانية، إزاء ما أراد الله امتحانها به، في وقت من أخطر الأوقات.

إن جمال عبد الناصر كان أكبر من الكلمات.. وهو أبقى في كل الكلمات.. ولا يستطيع أن يقول عنه، غير سجله في خدمة شعبه وأمته والإنسانية مجاهدًا عن الحرية مناضلًا من أجل الحق والعدل، مكافحًا من أجل الشرف، حتى آخر لحظة في العمر.

ليس هناك كلمات تكفي عزاءً في جمال عبد الناصر..

إن الشيء الوحيد الذي يفي بحقه وبقدره، هو أن تقف الأمة العربية الآن كلها وقفة صابرة صامدة شجاعة، قادرة، حتى تحقق النصر الذي عاش واستشهد من أجله، ابن مصر العظيم، وبطل هذه الأمة ورجلها وقائدها.
{ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي }.

* * *
كانت الساعات الأخيرة في حياة جمال عبد الناصر ساعات مثيرة درامية، وهي تعهد جمال عبد الناصر لحظة الرحيل الأخير، لحظة انتهاء حياة رجل عظيم، ونهاية حياة بطل مصري حتى النخاع.

كانت القاهرة – عاصمة الأمة العربية – قد شهدت خلال الأيام السابقة. الأحداث الساخنة لوقائع مؤتمر الملوك والرؤساء العرب، بعد أحداث مروعة دموية في الأرواح انطلقت فيها رصاصات عربية ضد صدور عربية، وسال الدم العربي على الأرض العربية.
وانتهى مؤتمر الملوك والرؤساء العرب بعد أحداث مثيرة، وبدأ الرئيس جمال عبد الناصر، يودعهم في مطار القاهرة واحدًا بعد الآخر.
وعلى أرض المطار.. وبعد أن انتهى جمال عبد الناصر من توديع أمير الكويت، وبينما هو واقف في انتظار تحرك طائرة الأمير، أحس بألم في صدره، وشعر بالعرق يتصبب منه بغزارة.. والتفت عبد الناصر إلى نائبه..
وطلب أن تجيء سيارته إلى حيث يقف، لأنه يشعر بتعب مفاجئ، ولا يستطيع أن يسير بنفسه إلى السيارة كما كان يفعل عادة..

وأسرعت السيارة إلى مكان وقوف الرئيس جمال عبد الناصر.. وركب الرئيس السيارة متوجهًا إلى بيته، حيث دخل مباشرة إلى حجرته، وخلال دقيقة كان طبيبه المقيم الدكتور الصاوي حبيب يدخل الغرفة خلف الرئيس.

كانت الساعة قد بلغت الرابعة إلا ثلثًا.. وكان الدكتور الصاوي قد أجرى فحصًا مبدئيًا على الرئيس، وعندما وجد أن الأمر خطير، طلب استدعاء الدكتور فايز منصور، الذي كان يشرف على علاج الرئيس عبد الناصر، وفي نفس الوقت طلب أيضًا الدكتور زكي على والدكتور طه عبد العزيز، الذين لحق بهم الدكتور رفاعي محمد كامل، واجتمع الأطباء حول عبد الناصر في فراشه.

وكان تشخيصهم الفوري أن هناك جلطة شديدة، أحدثت أزمة قلبية حادة، وأن هناك عدم انتظام في دقات قلب الرئيس! 

وفي الحال..
بدأ الأطباء محاولاتهم لإنقاذ حياة جمال عبد الناصر..

وبدءوا الإسعافات الأولىة السريعة، واستخدموا جهاز الأوكسجين، وأجهزة الصدمة الكهربائية لتنشيط القلب، وكل ما في وسعهم من علاجات معروفة، تستخدم في هذه اللحظات الحرجة في حياة مريض القلب.

ومن ناحية أخرى..
وبينما شبح الكارثة يحوم حول حجرة نوم عبد الناصر..

كان البيت قد امتلأ بمعاوني الرئيس..

كان جمال عبد الناصر يرقد في حجرة النوم، والأطباء حوله يصارعون الخطر، ويحاولون السيطرة على الأزمة القلبية.. وفي هذه اللحظات العصيبة.. كانت السيدة تحية قرينة الرئيس جمال عبد الناصر تقف على قرب خارج حجرة النوم.

وكان الأطباء هم الذين أمروا بذلك!

وكانت دموع زوجة الزعيم تتدفق في صمت.. والتف حولها بقية أفراد أسرتها، ودموعهم في عيونهم!

كان القلق واضحًا في كل الوجوه.. وكانت أعصاب الجميع ترتجف.

وفي داخل حجرة النوم.. بدأت الدقائق الأخيرة في حياة جمال عبد الناصر تحمل للأطباء النذير المروع! 
كانت حالة جمال عبد الناصر تتدهور بشكل سريع!

وعلى الناحية الأخرى من الفراش وفي أركان الحجرة.. كان يقف الفريق محمد فوزي وشعراوي جمعة وسامي شرف، ومحمد أحمد والكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، وبعد برهة انضم إليهم حسين الشافعي وعلى صبري وأنور السادات.

* * *
في اللحظات الأخيرة في حياة جمال عبد الناصر.. كان الأطباء حوله يبذلون المستحيل وكل ما تعلموه وخبروه من وسائل العلم والطب.. وكبار رجال الدولة في أركان الغرفة.. وعيونهم على الفراش الذي يرقد عليه زميل النضال وزعيم الثورة.. بعضهم كان يبكي في صمت.. وبعضهم كان يصلي.. وبعضهم كان في ذهول تام!

وكان الدكتور الصاوي حبيب مستمرًا في تدليك قلب عبد الناصر، وكان يضغط على صدره عشرات المرات.. لكن في الساعة السادسة والربع تمامًا.. أدرك الأطباء الحقيقة المحزنة، أن الأصل قد ضاع، وأن روح عبد الناصر قد فارقت جثمانه المسجى على الفراش؛ لكن الأطباء رغم ذلك بدوا وكأنهم لا يصدقون.. ما هم متأكدون منه.. وبدا أنه لا أحد آخر في الغرفة قادر على التصديق!

لكن الأطباء بدءوا في الابتعاد عن فراش جمال عبد الناصر.. وعلى باب غرفة النوم، انفجر الدكتور منصور فايز في البكاء! 

وكانت دموعه هي التي فجرت دموع كل الواقفين في الغرفة!

في لحظة الموت هذه.. اندفعت السيدة قرينة عبد الناصر إلى حجرة النوم.. وأسرعت إلى فراشه.. وأمسكت بيد رفيق العمر الذي رحل، وأخذت تقبلها وتغمرها بدموعها التي تمزق القلوب!


وأسرعت هدى عبد الناصر إلى الغرفة ومعها شقيقتها منى.. ومن خلفهما دخل خالد وعبد الحكيم.

الوحيد الذي لم يكن موجودًا هو عبد الحميد.. الذي كان ضابطًا بالكلية البحرية، وكان مقر عمله في الإسكندرية؛ ولكنهم استدعوه للعودة بالطائرة إلى القاهرة.

وبدأ الموجودون يغادرون الغرفة في ذهول ليتركوا الأسرة في لحظات الوداع الأخير.

وذهبوا إلى غرفة المكتب المجاورة مباشرة لغرفة نوم عبد الناصر، يحاولون استيعاب الموقف، وأصوات أسرة عبد الناصر تصل إلى آذانهم.

وطلب منهم أنور السادات أن يعقدوا في الحال اجتماعًا في صالون البيت.

وفي الصالون اجتمعوا: أنور السادات وحسين الشافعي وعلى صبري وشعراوي جمعة، والفريق محمد فوزي وسامي شرف وهيكل.

وانتهى الاجتماع بالاتفاق على دعوة اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي العربي ومجلس الوزراء، إلى جلسة عاجلة لإعلان الخبر المروع، وبحث الإجراءات المفروض اتخاذها، وذلك بعد أن اتفقوا على إعلان حالة الطوارئ القصوى في الجبهة تحسبًا لأية أحداث طارئة.

واتفق الجميع على نقل جثمان الرئيس جمال عبد الناصر، وأن يكون تشييع الجنازة في العاشرة من صباح يوم الخميس، لإتاحة الفرصة أمام ملوك ورؤساء العالم، من أصدقاء عبد الناصر للاشتراك في وداعه الأخير.


وجاءت قرينة الرئيس عبد الناصر لتطلب من حسنين هيكل.. ومن خلفها وقف خالد عبدالناصر وعبد الحكيم عبدالناصر وحاتم صادق، يحاولون قدر إمكانهم التخفيف عنها..
وكانت لحظات حزينة..

وقالت قرينة الرئيس عبد الناصر لهيكل:
لا أريد شيئًا.. لم أرد في حياتي غيره.. لم يكن بالنسبة لي رئيسًا للجمهورية.. كان زوجي.. وليس لي من أمل في الدنيا غير أن أدفن إلى جانبه!

ولم يكن أحد من الحاضرين يستطيع تحمل هذا المشهد، أو هذه الكلمات.

كانت الدموع تغرق كل العيون..

وفي صمت حزين جاءت سيارة الإسعاف الخاصة بالرئيس ليركبها لأول مرة في حياته، جثمانًا بلا حياة!

وقام رفاق السلاح بالمهمة الأخيرة للصديق البطل.. فرفعوا جثمانه من على فراشه، حيث سجي على نقالة الإسعاف.. وهبطوا درجات سلم البيت الداخلي، وهم يحملونه عليها حتى سيارة الإسعاف!

وانطلقت السيارة إلى القصر الجمهوري بالقبة.. وهناك وضع الجثمان في عيادة القصر.. وتقرر أن يجري غسل الجثمان ثم الصلاة عليه في مسجد القصر.

بعدها أعيد النعش إلى العيادة.. انتظارًا لموعد تشييع الجنازة.

وكانت ليلة حزينة في القصر الجمهوري.. الذي امتلأ بكبار رجال الدولة ورجال الثورة والوزراء الذين كان عدد منهم في ذلك اليوم في زيادة خاصة للجبهة وتم استدعاؤهم على عجل بالطائرة.

وتحدث أنور السادات.. وقال في حزن: إنه كان يتمنى ألا يعيش هذا اليوم، وأن ينعاه جمال عبد الناصر، ولا يقوم هو بنعي جمال عبد الناصر!

ولم يتحمل الدكتور عزيز صدقي الكلمات وأجهش بالبكاء..

وغادر السيد مرعي القاعة والدموع في عينيه.. بينما كان الفريق محمد فوزي يمسح دموعه التي سقطت في صمت حزين.

ودُعي الأطباء لكتابة تقريرهم الطبي عن الوفاة وسببها.. وتم الاتفاق على أن يذيع أنور السادات نائب رئيس الجمهورية البيان عن الفاجعة.

وقطعت الإذاعة والتليفزيون برامجهما العادية.. وبدآ في إذاعة تلاوة القرآن الكريم.

لم تكن تلك هي النوبة القلبية الأولى التي تصيب جمال عبد الناصر! حيث كان قد تعرض لنوبة قلبية في شهر سبتمبر من العام السابق أيضًا؛ لكن يومها وحرصًا على الاكتفاء بأشياء كثيرة، تم الاتفاق على الإعلان عنها بأنها نوبة أنفلونزا.

وإثر تلك النوبة الأولى قضى جمال عبد الناصر ستة أسابيع في الفراش، ونصحه الأطباء بعدم إجهاد نفسه؛
لكن جمال عبد الناصر كان شخصية عنيدة مقاتلة، فما إن نهض من فراشه، بعد انتهاء الأسابيع الستة، حتى أغرق نفسه في العمل الشاق.

ولم يمكن لعبد الناصر أن يتغافل الظروف السياسية والعسكرية التي كانت مصر تعيشها وأيضًا العالم العربي.

وسافر جمال عبد الناصر إلى الاتحاد السوفيتي.. وهناك فحصه طبيب القلب الروسي الشهير "شازوف"..
وقال له "شازوف": سيدي الرئيس.. إنني أتابع من بعيد برامج عملك.. وأعرف أنك كنت أخيرًا في ليبيا وفي السودان.. وأعرف أنك تعمل أكثر من أربعة عشر ساعة في اليوم.. واسمح لي سيدي الرئيس أن أقول إن هذا خطر عليك.. وإنني أحذرك من استمرار هذا الوضع!

لكن عبد الناصر لم يكن يهتم بصحته كثيرًا.. وكان في ذهنه أشياء تشغله عن الاهتمام بنفسه.

الوضع المصري بعد 67.. والوضع العربي الذي كان يتدهور باستمرار.

لكنه بعد إلحاح طويل من الأطباء الروس.. وافق على أن يدخل مصحة "بريني" لأسبوعين من العلاج المنظم، على أن يلتزم بعد ذلك بمواعيد عمل ثابتة ومحدودة.

لكن عبد الناصر لم يلتزم بنصائح وتحذيرات الأطباء!

وما إن عاد إلى القاهرة حتى انغمس في العمل الشاق المستمر.. واللقاءات والاجتماعات التي لا تنتهي!

ولم يرض كل من حول عبد الناصر ويعرفون حقيقة مرضه وصحته بذلك.. فألحوا عليه كثيرًا.. حتى وافق أخيرًا على أن يذهب في إجازة إلى مرسي مطروح!

وسافر عبد الناصر بالفعل إلى مطروح.. لكن الإجازة انتهت في نفس يوم وصوله إليها!
فقد انفجرت في نفس اليوم أزمة الأردن والمقاومة الفلسطينية.. وطار إليه من ليبيا في نفس اليوم معمر القذافي.

وقطع عبد الناصر في صباح اليوم التالي إجازته التي لم ينعم بها وعاد إلى القاهرة.. من أجل مؤتمر الملوك والرؤساء العرب.

وكان عبد الناصر في حالة نفسية سيئة بسبب نزيف الدم العربي في الأردن، وبذل جهدًا كبيرًا في مؤتمر الملوك والرؤساء العرب لوضع حد لهذه الكارثة، وعندما طلب منه بعض الأصدقاء أن يراعي الجهد الخرافي الذي يبذله في المؤتمر.

قال لهم: هناك رجال ونساء وأطفال يموتون.. نحن في سباق مع الموت! وطوال تسعة أيام ضغط عبد الناصر على جهده وأعصابه وفكره لوقف نزيف الدم في الأردن.. وإتاحة الفرصة للمقاومة الفلسطينية حتى تم توقيع اتفاق القاهرة.

وفي ليلة انتهاء المؤتمر..
غادر عبد الناصر فندق هيلتون – مقر المؤتمر – في نحو الساعة العاشرة مساءً بعد توقع الاتفاق.
وكان لحظتها يشعر بإجهاد شديد.. لكن في الليلة نفسها قام بتوديع معمر القذافي وقضى حتى الفجر يتابع عمل لجنة الرقابة، التي كانت قد سافرت إلى الأردن برئاسة السيد الباهي الأدهم، وكان حريصًا على توفير كل الضمانات لتحقيق الهدف.. ووضع الاعتمادات المالية اللازمة تحت تصرف اللجنة.. وتوفير معدات اتصالات لاسلكية لها مع القاهرة.. وانتهت الليلة العصيبة.
وبزغ نهار اليوم الأخير في حياة جمال عبد الناصر!
* * *

اليوم الأخير في حياته..
كان على عبد الناصر أن يودع الملوك والرؤساء الذين سوف يغادرون القاهرة.. وفي الساعة الثانية عشرة صباحًا اتصل بمحمد حسنين هيكل ليسأله عن آخر التطورات، بعد اجتماعه – هيكل – مع ياسر عرفات وزعماء المقاومة الفلسطينية..

وفي نهاية المكالمة..
قال له الرئيس جمال عبد الناصر: إنني أشعر بتعب شديد.. ولا أحس أنني قادر على الوقوف على قدمي!
وقال له هيكل: الوقت قد حان لإجازة.
ضحك جمال عبد الناصر..
وقال لهيكل: سوف أضع قدمي في ماء ساخن به ملح.. وسوف أشعر براحة بعدها!

رد عليه هيكل: الجهد كان كبيرًا. وما زلت سيادتكم في حاجة إلى إجازة وأقترح أن تقضي بضعة أيام في الإسكندرية.

قال له جمال عبد الناصر: بعد قليل سأذهب لوداع أمير الكويت وأعود بعدها لأنام!
وصمت عبد الناصر برهة، ثم استطرد قائلًا: أريد أن أنام نومًا طويلًا.. ولن أستطيع أن أستريح في الإسكندرية.. أريد يومًا أو يومين من النوم هنا.. وبعدها أفكر في الذهاب إلى الإسكندرية.
وانتهت مكالمة عبد الناصر مع هيكل..

* * *

لم يسترح عبد الناصر بعدها طويلًا، فما لبث أنه غادر البيت في الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرًا إلى مطار القاهرة.
وهناك شعر بالتعب عقب وداعه أمير الكويت. وطلب أن تحضر إليه سيارته حيث يقف على أرض المطار..
وكان وصل إلى البيت.. وهو في طريقه إلى حجرة نومه.. حتى سأل عن السيدة قرينته..

وسألها: هل تغديتي؟

قالت له: كنت في انتظارك!

قال لها: أشعر أنني لا أستطيع أن أضع في فمي شيئًا!

ظلت معه حتى خلع ملابسه واستلقى على الفراش..

وشاهدته يدق الجرس ويطلب الدكتور الصاوي حبيب طبيبه المقيم.

وغادرت قرينة الرئيس الغرفة فور حضور الدكتور الصاوي.
وكانت النهاية..

نهاية حياة مصري عظيم!


الفصل الثاني

رسم لقلب.. سيادة الرئيس!

× صفيحة الجبنة البيضاء.. دائمًا في طائرة رئيس الجمهورية!
× عبد الناصر: كيف أذهب للعلاج في موسكو.. وأولادي يموتون هنا؟!
× الآلام المبرحة.. وراء تفكير جمال عبد الناصر في الاعتزال!


كان الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل من أقرب الناس إلى الرئيس جمال عبد الناصر، حيث عاش مع الزعيم الراحل منذ بداية الثورة وحتى رحيله صديقًا مخلصًا ورفيقًا ملهمًا.. في كل وقت.. وطوال الوقت.

ولا بد أن هيكل قد بذل جهدًا كبيرًا لكي يستطيع أن يكتب عن "نهاية عبد الناصر"! لكنه في النهاية كتب القصة الحزينة.. بعد شهر من الرحيل.

وقال هيكل فيها:
"لقد كان شعوري غريبًا خلال ساعات الرحيل الحزينة.. كيف رحل.. ولم ارحل معه؟ هذه هي السفرة الأولى التي يذهب فيها ولا أكون في رفقته! ولم أستطع لفترة طويلة أن أعزي نفسي، بأن ذلك لم يكن اختيارًا أراده هو.. وإنما المقادير هي التي فرضته عليه وعليّ. وظللت أيامًا أقنع قلبي كالأطفال عندما يغيب أحبابهم "أنه سافر" خصوصًا تلك الأيام الثلاثة.. التي انقضت بين لحظة الرحيل.. وبين اللحظة التي هجع فيها على مثواه الأخير، كفنًا أبيض طاهرًا، فوق فرشه من الرمال، في قبر أقيم على عجل، خلف مسجد بناه بنفسه.. محبة في الله.. وحبًا للمؤمنين.

لماذا أنكرت الحقيقة بالقلب كالأطفال عندما يغيب أحبابهم؟ وكان يجب أن أكون أول مستسلم أمامها؛ لأني عشتها معه من البداية إلى النهاية؟".

* * *
ومضى هيكل، أقرب الناس إلى عبد الناصر، يروي القصة ويكتب عن نهاية ناصر قائلًا:

لقد كنت أعرف ما به.. وكنت شاهدًا على ملحمته الرائعة في الصراع مع الأيام.. وأظن أنه صراع مع الألم سوف يبقى أنبل معاركه، لأنه ذروة المأساة في قصة البطل!

ولقد كنت قريبًا منه. أسمع تلميحاته عن النهاية، ولا أعرف كيف ضاع مني الفهم الصحيح لمعانيها؟
لقد كنت بجوار فراشه لحظة الرحيل.. وأحسست بذلك المزيد المخيف من الحزن والهزيمة معًا.. الحزن لرحيله وحده.. والهزيمة لأن الموت انتصر علينا جميعًا.. بينما بعضنا يحاول بالعلم.. وبعضنا يحاول بالصلاة.. وبعضنا يحاول بالدموع!

إحساس لم أجربه من قبل.. إلا خلال تلك الأيام السوداء من يونيو 1967 ويومها كنا معًا في ذلك الإحساس.. لكن هذه المرة لم يكن معنا بقدرته الخارقة على التشجيع والإلهام.

إن ملحمة صراعه مع الألم بدأت سنة 1958، بعد حرب السويس.. وبعد المؤامرة على سوريا.. وبعد الوحدة وبعد ثورة العراق وسقوط حلف بغداد.

اكتشف الأطباء أن لديه مرض السكر.. وكتب الأطباء تقريرًا عن حالته يقولون فيه:
إن المرض يمكن السيطرة عليه.. ولا بد من السيطرة عليه.، وذلك يقتضي ضبط ثلاثة عناصر رئيسية في طريقة حياته.
• ضبط الطعام.
• ضبط المجهود.
• ضبط الانفعالات.

وقرأ التقرير..
ووضع علامة الموافقة على البند الأول مما يطلبون ضبطه، وهو الطعام وترك البندين الباقيين بدون إشارة إلى رأيه فيهما!
وطلب أطباؤه موعدًا معه لمناقشته...وجلس معهم كأنه يبحث أي مشكلة مما يواجهه كل يوم يقرر فيها الممكن والمستحيل. ويحاول بإرادته التوفيق بينهما.

وقال للأطباء وهو يمسك بالتقرير: بالنسبة لضبط الطعام ممكن بشرط واحد.. هو ألا يمتد المنع إلى الجبنة البيضاء.. وكانت الجبنة البيضاء أكلته المفضلة.. ولم يخرج من مصر في رحلة إلا وكانت في الطائرة صفيحة من الجبنة البيضاء.. وكانت مآدب العشاء الفاخرة تقام له في قصور الدولة حيث يذهب.. وكان يتظاهر بأكل بعض ما هو موضوع أمامه.. أما عشاءه الحقيقي.. كان حين يعود بعد الرسميات إلى جناحه.. ثم يطلب الجبنة البيضاء والخبز الجاف!

ورضي حين قال له الأطباء إن الجبنة البيضاء لن تكون ضمن المحظورات، فتمت الموافقة على بند ضبط الطعام.

وانتقلت المناقشة إلى البندين الأخيرين في التقرير.. ضبط المجهود وضبط الانفعالات.
وقال لهم الرئيس عبد الناصر في بساطة: كيف لي أن أسيطر على المجهود والانفعالات.. هذه حياتي كلها!.
ثم وعدهم في النهاية بـ"أن يحاول"؛ لكنهم كانوا يرون بعيونهم أنه لا يحاول!

وجاءت انتكاسة الثورة في العراق..
ثم مشاكل الوحدة.. ثم ثورة الاشتراكية، ثم ضربة الانفصال.. التي وقعت أيضًا في 28 سبتمبر نفس يوم رحيله قبل تسع سنوات.. ثم مواجهة آثار الانفصال في مصر وفي العالم العربي. ثم حرب اليمن.. ثم خطط التنمية المتلاحقة ومنجزاتها ومشاكلها.

ثم هموم الانحرافات.. وكانت قد بدأت تضايقه بشدة سنة 1965 و1966.. ثم جاءت مؤامرة العدوان سنة 1967.. ثم الهزيمة في معارك الأيام الستة ثم يومي 9 و10 يونيو بانفعالتهما المضنية.

وخلال ذلك كله كانت مضاعفات السكر – بغير أي محاولة لضبط المجهود أو ضبط الانفعالات – تزداد، وحين أجري عليه كشف عام يوم 1 يوليو سنة 1967. فإن الأطباء. وأولهم طبيبه الخاص الصاوي حبيب.. أحسوا بالخطر! وكانت مضاعفات السكر قد أحدثت تأثيرها في شريان القدم اليمنى، وكانت هناك في أعصاب الساقين مسببة لآلام شديدة، ولكنه لم يكن مستعدًا لأن يسمع من أحد! فقد كان عمله كله في عملية إعادة بناء القوات المسلحة.. وفي عملية ترتيب الجبهة الداخلية والجبهة العربية.
كان يمشي في طريقه.. وكان يدوس على كل الآلام!
* * *
ويكمل هيكل بقية قصة صراع عبد الناصر مع المرض فيقول:
وفي يوليو سنة 1968.. وكان على موعد للسفر إلى موسكو.. واقترح عليه الأطباء بأن تكون تلك فرصة.. يدرس معهم الأطباء السوفيت فيها حالته.

وفوجئت بشدة آلامه وأنا جالس أمامه في الطائرة المسافرة إلى موسكو.. كانت تطورات الحوادث في مصر في بداية سنة 1968 قد شغلتنا جميعًا عن حالته الصحية؛ لكني روعت حين وجدته في الطائرة لا يستطيع الجلوس في مقعده من شدة الألم! وفرش له الأطباء سريرًا في الجزء المخصص له في مقدمة الطائرة..
وكنت أحاول أن أخفي الانزعاج.. ولكنه لمح آثاره..
فقال برقة لم يكن يستطيعها غيره: سوف أنام بعض الوقت.. وحين أستيقظ سوف يكون الألم أخف!

وجلسنا بجواره.. أنور السادات وأنا.. على كرسيين متواجهين في الطائرة.. وكنا ساكتين لنعطيه فرصة للنوم.. ولكن نظرات عيوننا لم تكن ساكتة!
واستيقظ.. وكانت الطائرة فوق بولندا..
وعاد إلى كرسيه معنا لكننا لم نشعر أن آلامه قد خفت حدتها.
وحاول هو تغيير الموضوع..
فقال لي: اطلب ياسر عرفات ليجيء فيجلس معنا هنا بعض الوقت.. حتى لا يشعر بالغربة مع بقية أعضاء الوفد من ركاب الطائرة.

وكان ياسر عرفات معنا على الطائرة ذاهبًا إلى موسكو.. ولم يكن يعرف بوجوده على الطائرة أحد.. ولا كان أحد في العالم قد سمع باسمه بعد؛ ولكن جمال عبد الناصر أراد أن يأخذه معه إلى موسكو.. ليفتح للمقاومة الفلسطينية بابًا يكون لها مصدر سلاح.

وحين جاء ياسر عرفات وجلس بجواره.. كان هو قد سيطر تمامًا بإرادته القوية على آثار الألم ومظاهره على ملامحه.
* * *
ويكمل هيكل تفاصيل رحلة موسكو قائلًا:
وشهدته في مراسم الاستقبال الرسمي في مطار "نينوكفو". وأنا أعلم كم يكلفه الوقوف والمشي.. وظلت سيطرته كاملة على آلامه.. حتى وصل إلى قصر الضيافة.. وأجرى اجتماعًا تمهيديًا مع الزعماء السوفيت.. وتمشى معهم في حديث ودي في حديقة قصر الضيافة الواقع على ربو تلال لينني.

وكان برجنين يريه لأول مرة أشجار الكريز.

ثم صعد إلى غرفة نومه وخلع ملابسه وتمدد على السرير.. رافعًا قبضة إرادته القوية عن آلامه الشديدة الصلبة.

وكنا معه في الغرفة ثلاثة..
أنور السادات والشهيد عبد المنعم رياض وأنا..
وجاء طبيبه الخاص وتركناه معه قليلًا.. وخرجنا إلى غرفة المكتب الملاصقة لغرفة النوم في جناحه.
وعبد المنعم رياض يقول لي: كيف تركناه حتى تصل به الآلام إلى هذه الدرجة.. إنه واحد في الدنيا كلها لا أطيق أن أراه يتألم.

وذهب إلى مستشفى بربيني..
وأجري له كشف كامل.. وعاد من المستشفى ومعه أنور السادات..
الذي بادرني قائلًا: المسألة بسيطة..
قاطعه الرئيس عبد الناصر: أنور.. سوف نقول الحقيقة.. يجب أن يعرف هو الآخر!.

ثم مضى يقول: لقد وجدوا أن هناك تصلبًا في شرايين الساق.. من أثر مضاعفات السكر.
ثم استطرد ضاحكًا: ليس هذا أسوأ شيء.. أسوأ شيء أنهم طلبوا مني الامتناع عن التدخين إلى الأبد.. لقد أطفأت آخر سيجارة أمام الطبيب.. ووعدته ألا أشعل غيرها بعد ذلك.

واستطرد يقول باسمًا: وكأنني عندما أطفأت آخر سيجارة.. ودعت صديقًا عزيزًا على.. كانت السجائر هي الترف الوحيد الذي أستمتع به.. والآن منعت هي الأخرى!

وسألت عن العلاج..
فقال: طلبوا مني أن أعود في ظرف أسبوعين للعلاج بالمياه الطبيعية في بلد اسمه "تسخا لطوبو" في جورجيا.. ثم أدوية جديدة، وأخيرًا النصائح التقليدية عن ساعات العمل المحدودة والإجازات المتكررة.

يقول هيكل:
وعاد إلى القاهرة.. وحضر المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي.. ورتب نتائج محادثاته في موسكو.. ثم ذهب إلى "تنس الطوبر" لثلاثة أسابيع من العلاج الطبيعي.. ثم عاد إلى مصر لأسبوعين قضاهما في الإسكندرية.
ولم تكن الآلام قد زالت، بل إن بعضها اشتد، وكان ذلك ما توقعه الأطباء السوفيت.. كرد فعل للعلاج بالمياه الطبيعية المشعة.. وكمقدمة لابد أن يجيء بعدها التحسن التدريجي.

وأذكر يومًا في تلك الفترة.. وكنت قد ذهبت إلى زيارته في الإسكندرية وسألته في الآلام. فقال: لم يظهر التحسن بعد.. ولكن الأطباء يقولون إنه سيحدث.

وسكت قليلًا.. ونظره على أمواج البحر المترامي أمام شرفة استدامة المعمورة التي كنا نجلس فيها وحدنا.
ثم عادت نظراته إليّ وهو يقول: إنني أفكر جديًا في قرار أريد أن أناقشه معك.

وانتظرت ساكتًا ليكمل حديثه.

فاستطرد: إذا لم تذهب هذه الآلام فكيف أستطيع أن أواصل العمل في هذه الحالة سوف أعتزل.. هل تجد أمامي سبيلًا آخر؟!

حكمت بسذاجة ألون نفسي عليها الآن.. لو استطعنا فقط تنظيم عملك.. لتمكنت أن تريح نفسك ولو قليلا.

قال هو: إنني لا أتحدث عن نفسي.. ولكن أتحدث عن "البلد".. كيف أستطيع أن أقوم بكل ما يجب على القيام به.. وأنا متعب، هذا ليس ذلك عدلًا بالنسبة للقياس.

واستطرد: شيء واحد يمنعني.. أخشى أن يفسر ذلك في العالم العربي. أو هناك في العالم الخارجي. بأنني يائس من احتمالات النصر.. وذلك عكس اعتقادي – قلت له: أليس الأفضل أن ننتظر التحسن الذي يتوقعونه.. قبل التفكير في مثل هذا القرار؟
قال وهو يهز رأسه: ننتظر!

* * *
ويمضي هيكل في رواية رحلة عبد الناصر مع المرض والآلام فيقول:
في بداية سنة 1969، كانت الآلام قد خفت كثيرًا عن ذي قبل كما كان يتوقع الأطباء، وكان الرأي السائد بينهم. هو أن هذه الآلام سوف تختفي تمامًا. إذا عاد مرة ثانية في صيف 1969. وكان هو مقتنعًا تمامًا بالذهاب في الموعد المحدد أغسطس 1969.

وكان ربيع 1969.. وصيفها من أكثر الفترات عملًا وانشغالًا في حياته.. خصوصًا بالنسبة للقوات المسلحة.. وراودته أحلام الجبهة الشرقية في تلك الفترة وأعطى جهدا كبيرًا لها. وجاهد في مناقشات ميزانية تلك السنة لتعود التنمية غير متأثرة إلى أقصى حد ممكن بمطالب المجهود الحربي. وركز تركيزًا كبيرًا على ضرورة الانتهاء من السد العالي تمامًا في يوليو سنة 1970.

وفي ربيع وصيف سنة 1969 كانت معارك المدفعية قد بدأت، وبدأت عمليات العبور الجسورة.. وكان يتابعها ليلة بليلة.. ويعرف اسم كل مجموعة ويسأل قبل أن ينام عن عودتهم وعن الخسائر فيهم.

ثم أعلن بدء حرب الاستنزاف في يوليو سنة 1969 واشتدت المعارك على الجبهة المصرية، ثم تأثر بطريقة لا يمكن أن يتصورها أحد لحريق المسجد الأقصى.

وحين طرح أمامه في تلك الظروف موعد زيارته الثانية إلى تنس الطوبر لكي تنتهي الآلام، أشار بتأجيل الموعد إلى شهر سبتمبر، حتى تكون الظروف قد تكشفت، ومع أن الآلام بدأت تعود إليه حارة مرة أخرى بعد سنتين إثر العلاج الطبيعي.. فإنه لم يتعجل الذهاب للمرة الثانية.. لأنه – كما قال للدكتور منصور فايز – وللدكتور الصاوي حبيب:

ـ لا أستطيع أن أترك أولادنا هنا يموتون.. وأذهب أنا للعلاج في موسكو.

وكانت أزمة في بعض الأيام لا تحتمل.
كان الألم يستحكم إذا مشى أكثر من عشر دقائق.. وإذا جلس ثابتا في مكانه أكثر من ساعة.

وكان يمشي بدون حساب للدقائق.. وكان يجلس ثابتًا في مكانه بدون حساب للساعات!

ومع ذلك فإن أي عناء لم يستطع أن يحجب ابتسامته الدائمة للناس.. وسعادته الغامرة حينما يكون وسطهم!
ولم يستطع العناء أيضًا أن يقيد روحه المرحة.. وقدرته الدائمة على أن يرى الناحية المشرقة في كل الأشياء والأحداث!

* * *
ويكمل هيكل القصة الحزينة:
وجاء يوم 11 سبتمبر 1969.. وكان قد حدد موعدًا لسفره إلى تسخالطوبو بعد أيام.
وكان مقررًا أن يجري الدكتور الصاوي عليه كشفًا عامًا ليعد تقريرًا كاملًا قبل السفر..

وفي صباح ذلك اليوم.. كان يشعر بإرهاق شديد مصحوبًا بنوع من الدوار.. ولذلك فقد دعا الدكتور الصاوي ليكشف عليه.. قبل الموعد الذي كان محددًا للفحص الشامل بعدة ساعات.

وكان يقول دائمًا للدكتور الصاوي: إنك لا تستطيع التحكم في ملامحك يا دكتور.. وأنا أرى نتيجة الكشف على ملامحك قبل أن تخبرني بها.

ولأول مرة في ذلك اليوم.. فإن الدكتور الصاوي لم يرد.
لأن المفاجأة كانت كبيرة بالنسبة له.
لقد اكتشف فجأة والتمائم موجودة على صدر عبد الناصر.. أنه يسمع ما يسمونه في "طب القلب".. "الصوت الثالث"!.

هناك إذن طارق جديد ألم بالقلب! وتمالك الدكتور الصاوي نفسه.

وقال: سيادة الرئيس.. أرى أن تقوم بعمل رسم للقلب.. يكون معنا ونحن في موسكو!.
وأجري رسم القلب..
وخرج الدكتور الصاوي بالجهاز يقرأ نتيجة الرسم.. خارج غرفة نوم عبد الناصر.. وذهل لما رأى!

دون أن يعلم غير عدد قليل للغاية من المحيطين به.. عاش الرئيس جمال عبد الناصر رحلة صراع مع الآلام والمرض.. كان ذلك عام 1969.. والذي كان عامًا مصيريًا.. شهدت مصر فيه حرب الاستنزاف.. ووقوف القوات المسلحة المصرية من جديد على الأقدام.

وكان الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل أحد هؤلاء الذين لمسوا وعاشوا عن قرب ملحمة صراع عبد الناصر مع الآلام.

كان قد أصيب بتصلب في شرايين الساق اليمني بسبب مرض السكر.. وكان يعاني آلامًا مبرحة إذا مشى قليلًا أو إذا جلس طويلا، "ورغم ذلك فإن عبد الناصر حافظ بإرادة صلبة على ابتسامته المعهودة وطبيعته المرحة.
وكان يبتسم.. وهو يمشي فوق الآلام"!

وقبل أن يسافر للعلاج مرة أخرى إلى "تسخالطوبو" بالاتحاد السوفيتي.. بعد أن اتضحت الآلام.. طلب طبيبه الصاوي حبيب.. الذي فحصه وأجرى له رسم قلب.. وذهل الطبيب عندما شاهد رسم القلب الذي أجراه للرئيس..
ويحكي هيكل ما حدث قائلًا:

ولم يصدق الدكتور الصاوي عينيه، لكن الدليل كان مرسومًا أمامه.. هناك صورة جلطة وانسداد في فرع الشريان الأمامي للقلب!

وحاول الدكتور الصاوي أن يخفي الحقيقة مؤقتًا.. وأن يتعلل بحاجته إلى استشارة مجموعة من الأطباء؛ لأنه يجد أمامه حالة أنفلونزا حادة وصامتة.. تقضي بقاء الرئيس في فراشه!

وجاء عدد من الأطباء..
الدكتور محمد صلاح الدين والدكتور منصور فايز والدكتور على المفتي.. ومعهم الدكتور الصاوي حبيب.
وأعيد رسم القلب في المساء.

الدكتور الصاوي ما زال يتظاهر بأن المسألة مسألة أنفلونزا، وأن إعادة رسم القلب، سببها أن بطارية جهازه قد نفدت، عندما كان يقوم بالرسم في الصباح.. فلم تكتمل الصورة!

وجاء الرسم الثاني للقلب تأكيدًا للرسم الأول!

وكان من رأي الدكتور صلاح الدين أن يعرف الرئيس الحقيقة؛ لأن تعاونه الكامل وبدقة أمر مطلوب مع جهد الأطباء.

وبدأ يقول له الحقيقة تدريجيًا.
ثم يطلب منه في النهاية أن يبقى في الفراش بغير حركة لمدة ثلاثة أسابيع. وبعدها يعاد بحث الأمر على ضوء التطورات الصحية!

* * *
ويكمل هيكل الحكاية:

وذهبت ليلتها أجلس مع الأطباء في غرفة الصالون في الدور الأول في بيته أسأل بالضبط عن تفاصيل الحالة.. وعرف هو أنني موجود في البيت.. فدعاني إلى غرفته.
وعندما دخلت.. كان جالسًا على مقعد.. على وشك أن يبدأ عشاءه.. قطعة من الخبز الجاف وكوب من اللبن الزبادي.. وسألني بسرعة لكي لا يترك لي وقتًا للتفكير:

كنت معهم؟
قلت: نعم
قال: هل صحيح ما يقولون.. أو هي محاولة لتخويفي.. حتى يفرضوا على الإجازة الإجبارية!

وقلت: إن الأمر يجب أن يؤخذ جدًا.

قال بهدوء: ليكن.. ولكن المهم ألا يعرف أحد.. حتى لا تفلت "البلد"!

ثم سألني..
كيف يمكن أن نفسر غيابي ثلاثة أسابيع!

قلت: قد نقول إنها أنفلونزا.. لا يهم ما نقوله.. ولكن المهم أن تستريح.
والمهم أنه ليلتها.. نفس الليلة.. لم يستطع أن يستريح!

ليلتها.. كانت هناك أزمة بين حكومة الأردن والمقاومة.. وبعث الملك حسين رئيس وزرائه السيد بهجت التلهوني إلى القاهرة.. برسالة منه إلى عبد الناصر.. وجاء التلهوني يطلب مقابلة الرئيس.. وقيل له: إن الرئيس تعرض لنوبة أنفلونزا وهو يرقد في فراشه.
وقال بهجت التلهوني إنه إذا جاء بغير مقابلة عبد الناصر، فسوف يقدم استقالة وزارته!
وتم التوصل إلى حل وسط اقترحه الرئيس..
وهو أن يجيء إليه التلهوني في غرفة نومه.
يراه.. ولكن لا يبحث معه شيئًا!
بحيث يستطيع أن يقول للملك إنه اجتمع بعبد الناصر.. لكنه بحث ما يريد مع السيد أنور السادات.
ولم يعرف أحد بما جرى في تلك الليلة..
حتى السيدة الجليلة قرينته.. أخفينا الحقيقة عنها.. وإن بدأت تساورها الشكوك بعدما وجدت المهندسين في البيت وعمالًا.. يشتغلون في تركيب مصعد!
ولاحظت نظرات الشك في عينيها..
وكنت واحدًا من الذين تجنبوا نظراتها المتسائلة الجياشة بقلب ملهوف!

* * *
ويكمل هيكل:
وجلسنا بعد ذلك مجموعة من أصدقائه ومعاونيه نتحدث، واتفق رأينا على أن نستعين بخبرة عالمية.. وكان تساؤلنا: لماذا لا نجيء بأكبر أطباء القلب السوفيت؟
وطارت رسالة سرية عاجلة إلى موسكو..
وجاء الدكتور شازون وزير الصحة في الاتحاد السوفيتي.. وهو نفسه أكبر خبراء القلب، ومعه مجموعة من صفوة الأطباء. وأجرى الكشف.
وكانت النتيجة نفس النتيجة! والعلاج نفس العلاج.. الذي اقترحه وطبقه الأطباء المصريون وقبل أن يعود شازوف إلى موسكو ذهب إلى زيارة عبد الناصر.. كان كل ما يطلبه منه هو الراحة.

وقال الرئيس لشازوف: كان مقررًا أن أجيء إلى تسخا لطوبو لأستكمل الصراع لآلام التهاب الشرايين.
قال شازوف: سيدي.. لم تعد تستطيع أن تجيء إلى تسخا لطوبو. لأن القلب لا يتحمل العلاج بالماء الطبيعي. إنما بعد مرور خمس سنوات على الأقل!

وسكت عبد الناصر لحظة..
عرف وقتها أن عليه أن يتحمل القلب وأن يتحمل آلام التهاب الشرايين في نفس الوقت!
وفي تلك الأيام..
راودته مرة أخرى فكرة الاعتزال.. ليس من أجل نفسه.. ولكن من أجل "البلد".. وأيضًا من أجل كل بلد عربي.. ولكنه كان لا يستطيع الوصول إلى القرار.

وسمعته أكثر من مرة يقول لي خلال تلك الفترة..
سوف يفسر ذلك. مهما يكن، بأنني يائس من نتيجة المعركة. وذلك سوف يؤثر تأثيرًا كبيرًا على القوات المسلحة.. وعلى جماهير الأمة العربية.

وكان حديثه عودة إلى هذا الموضوع مرة أخرى.. كنا جالسين في غرفة الحكم الملاصقة لغرفة نومه..
وقلت له: ألا تستطيع بتنظيم جديد.. أن تخفف عن نفسك بعض ما تحتمل؟!
قال: لا تحلم.. إن الواقع لا يسمح لي بذلك.. كل وفد يجيء يريد أن يتحدث معي، كل مناسبة عامة لابد أن أظهر فيها.. كل أمر متعلق بالمعركة وبالذات إستراتيجية المعركة لابد أن أبت فيه بنفسي.. صميم المسألة كما يلي: "طالما أنني موجود فلابد أن أباشر وإذا توقفت عن المباشرة، فلا يمكن أن أكون موجودًا".

وبدأ التحسن يظهر في رسم القلب.. لكن الدكتور صلاح الدين كان يشعر أن التحسن لا يسير بالسرعة الواجبة. ولم يكن معتدلًا أن يتحسن شيء بالسرعة الواجبة.. كان هناك عمل كثير لتدعيم خط المواجهة.. وكان هناك عمل كثير لتعزيز موقف الثورة الجديدة في ليبيا. كانت هناك دورة مجلس الأمة يتعين افتتاحها.. ولا يمكن تأجيلها بعد الموعد الدستوري المقرر لها.
ثم تلاحقت الحوادث.. وهو وحده.. يقودها وتقوده!
مؤتمر القمة في الرباط.. وكل ما جرى فيه وزيارته الأولى إلى ليبيا.. ثم زيارته إلى السودان.
وكان أطباؤه جميعًا في حالة يرثى لها! وخصوصًا في بنغازي.. يوم وقف أربع ساعات كاملة على سيارة جيب.. يخوض بحرًا من البشر يتلاطمون من حوله كالموج الهائج.

والغريب أن عبد الناصر نفسه كان ضمن المحافظين لحالة أطبائه!
وقال لي الدكتور منصور فايز ونحن يومها في بنغازي: إنه يسأل عنا.. كأنما هو الطبيب.. ونحن الذين نتألم!
وعاد إلى مصر بأنفلونزا حادة...
وكان قد اقتنع بضرورة أن يستريح بعض الوقت!
* * *

ويكمل هيكل بداية الأيام الأخيرة في حياة عبد الناصر قائلا:
التطورات لم تتركه يستريح! فقد بدأت غارات العمق ولا يمكن لأحد أن يصف شعوره عندما كانت تصله الخسائر بين المدنيين خصوصًا بين الأطفال.. الذين كانوا أحب شيء في الوجود إلى قلبه.. وقرر أن يسافر إلى موسكو..
وحينما عرف الدكتور الصاوي بقرار السفر.. دخل عليه والجد كله على وجهه..
وقال له: سيادة الرئيس.. هل صحيح خبر السفر إلى موسكو!
قال الرئيس عبد الناصر: نعم.
قال الدكتور الصاوي: إن هذا مستحيل.. لأن الأنفلونزا لم تتحسن.. ودرجة الحرارة في موسكو كما عرفت ست وثلاثون تحت الصفر!
قال الرئيس وهو يضحك: إننا لسنا ذاهبين للتزحلق على الثلج.. ولكن لعمل.. وقاعات الاجتماعات مدفأة.
وقال الدكتور الصاوي: إنني أرى أن الإجازة الآن ضرورية قبل أي شيء آخر.
وسكت عبد الناصر فترة.. الدكتور الصاوي واقف أمامه صامتًا ينتظر الرد.

وجاء الرد من عبد الناصر بقرار مفاجئ: يا دكتور.. من الذي يعطيني هذه الإجازة؟

واحتار الدكتور الصاوي: ووجد نفسه ينطلق قائلًا: الطب يا سيادة الرئيس!
هز الرئيس رأسه..
وقال: الطب لا يستطيع الوقوف أمام الموت.. هناك ناس يموتون كل يوم وبينهم أطفال.. ليس هناك طب يستطيع أن يعطيني إجازة في مثل هذه الظروف!

واستعان الدكتور الصاوي في اليوم التالي بالدكتور منصور فايز يحاول إقناع الرئيس.. وقام الدكتور فايز بشرح كامل للموقف.. واستمع إليه الرئيس في إفادة.

ثم قال في النهاية: إن معنى ما تقوله لي الآن هو أنه يجب أن أترك هذه المسئولية وأمشي.. وأنا لا أستطيع أن أفعل ذلك الآن!

وحزم الدكتور منصور فايز حقائبه..
ووضع نفسه على طائرة الرئيس إلى موسكو.. ومن الغريب أنه أحس بتعب هناك وسمع عبد الناصر فذهب إليه في غرفته بالدور الثاني في قصر الضيافة.. صاعدًا على السلم.. وكان صعود السلم من الممنوعات القطعية بالنسبة له!
وعاد عبد الناصر من موسكو إلى القاهرة..
ثم إلى أسوان لموعد مع الرئيس تيتو..
وحاول أن يقنع كل المحيطين به "فإنني بعد أن يسافر تيتو.. سأبقى بضعة أيام في أسوان ".
وسافر تيتو..
وبدأ الرئيس يستعد لأسبوع إجازة..
ولكن عم عبد الناصر توفي في اليوم الثاني في الإجازة المرتقبة!
وركب عبد الناصر قطارًا من أسوان إلى الإسكندرية لتشييع الجنازة وعاد بعد ذلك إلى القاهرة.
وكان تركيز إسرائيل قد بدأ على الجبهة المصرية بعنف حقود.