الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حوار الصدى

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ثمة نوع الحوارات الزائفة يمكن أن نطلق عليها "حوارات الصدى"، حيث يفضل البعض الحوار مع من يعرفون مسبقًا أنهم أقرب للاتفاق معهم حول موضوع الحوار، فإذا ما أجبروا على الحوار مع غيرهم بدا الأمر كما لو كانوا يكتشفون فجأة أنهم ليسوا مؤهلين للدفاع عن تلك الأفكار التي يتبنونها والتي أصبحت جزءًا من هويتهم؛ وأصبح مجرد اهتزاز تلك الأفكار الثابتة مصدر فزع هائل؛ وآنذاك يتحول الحوار إلى صراخ قد يصل إلى حد الاعتداء البدني المباشر، أو حتى الدعوة إلى إفناء ذلك الآخر المزعج، أو على الأقل طرد ذلك المختلف من ساحة الحوار كما يحدث كثيرًا في شبكات التواصل الاجتماعي.
صحيح أن حوار المتفقين في الرأي حوار مريح يبعث على الرضا والسعادة؛ فكل طرف يخرج منه وقد تلقى تدعيمًا لوجهة نظره؛ وكلما استبعد الآخرين المختلفين من ساحته، وخلصت تلك الساحة للمتفقين معه، ازداد الجميع اطمئنانًا، غير أنها طمأنينة زائفة خلقها حوار زائف لا يؤدي إلى اختبار حقيقي للأفكار أو تقييم جاد لأنماط السلوك والممارسة أو حتى إلى زيادة في حجم المعرفة بالآخر، إنه أشبه بحوار الذات الذي سبق أن أشرنا إليه.
إن العديد من الجماعات تحذر أبناءها من الحوار مع من يتبنون آراءً مخالفة، وتدعوهم إلى تجنبهم، وتزودهم بصورة منفرة عن أفكارهم وسلوكياتهم، فضلًا عن أن من يدفعه الفضول لمحاولة التعرف على تفاصيل الفكر المختلف من مصادره الأصلية ينال احتقار وازدراء الجماعة التي يزداد انغلاقها على ذاتها المتضخمة، وتمضي راضية عن نفسها كل الرضا، متيقنة كل اليقين أن فكرها هو الفكر الصحيح الأوحد، ولكن ما أن تنكسر أسوار العزلة – وهي غالبًا ما تنكسر يومًا في ظل العولمة والانفجار الإعلامي- وحينها يجد المرء نفسه في مواجهة عواصف من الأفكار والحجج التي تهز بنيانه الفكري، مكتشفًا عجزه عن مناقشة تلك الحجج أو استخدام حجج منطقية مضادة، فلا يصبح أمامه آنذاك إلا الاستسلام للآخر موليًا ظهره لجماعته، أو محاولة تدمير ذلك الآخر الذي يعذبه، أو الانطلاق على غير هدي موليًا ظهره للجميع، أو التردي في هوة خلل نفسي قد يدفع به إلى الانتحار.
إن المبالغة في تصوير من يختلف عنا في صورة "الوحش الشرير المجنون" بهدف التنفير منه، يحمل مخاطرة انهيار تلك الصورة بكاملها وانقلابها إلى النقيض، إذا ما تهاوى جزء منها مهما كان ضئيلًا بفعل خبرة مباشرة تلقائية أو مقصودة تكشف جانبًا طيبًا إنسانيًا مهمًا كان ضئيلًا من ذلك الآخر يتناقض مع صورته الشيطانية المسبقة، أو تكشف اتساقًا داخليًا في فكره بما يتناقض مع تصويره كمختل مشتت.
إننا نعيش في عالم أصبحت فيه الأسوار الفكرية الحاكمة للحوار مجرد أوهام اكتسحها التاريخ، وأصبح فتح قنوات التفاعل والإفصاح، والتدريب على مهارات الحوار، وفنيات تخطي عقباته، هو السبيل الأوحد للتقدم الحضاري، وللحفاظ الحقيقي على هوية الجماعة وعلى انتماء الفرد للأسرة وللوطن، بل وللدين الصحيح أيضًا، ولا يمكن تحقيق شيء من ذلك سوى بأن تحرص الجماعة على عدة أمور متكاملة:
الأمر الأول:
تزويد أبنائها كبارًا وصغارًا بصورة "حقيقية واقعية" لأفكار الآخرين كما يؤمنون بها، دون مخافة اكتشاف نقاط التشابه والالتقاء سواء في الأهداف البعيدة الأقرب إلى النوايا، أو في الأهداف المباشرة الأقرب إلى ضوابط السلوك اليومي.
الأمر الثاني:
تزويد أعضاء الجماعة بنقاط الاختلاف الفكري مع أولئك الآخرين، وتدريبهم وفق ما تسمح به ظروفهم على مهارات الحوار مع الآخر: فيم نتناقش؟ ومتى نتناقش؟ ومتى ننسحب من النقاش؟ وكيف ينبغي أن يكون الانسحاب؟ وكيف نكفل مناخًا وديًا للحوار؟.
الأمر الثالث:
تأكيد فكرة أن التقدم الفكري لا يتحقق بمجرد أن تعلو أصواتنا على الآخرين، مدينين أفكارهم، محقرين لهم؛ بل إن التقدم الحقيقي يتمثل في القدرة على إدارة حوار مثمر.
الأمر الرابع:
تأكيد فكرة أنه لا توجد جماعة بشرية تخلو من الطيبين ذوي الخلق، كما أنه لا توجد جماعة بشرية كلها أشرار سفلة؛ بل إنه لا يوجد إنسان شرير أو خير بشكل مطلق.
الأمر الخامس:
تأكيد فكرة أن الحوار مع الآخر لا يعني بحال الاعتراف بصحة أفكاره النظرية أو مواقفه العملية، ولكنه يعني على الأقل مزيدًا من التعرف على تلك الأفكار لزيادة القدرة على تفنيدها.
الأمر السادس:
تأكيد حقيقة أنه لم توجد قط عبر التاريخ البشري جماعة أجمع أفرادها جميعًا على تبني فكرة مهما كانت صحيحة؛ ولا على رفض فكرة مهما كان شذوذها، وقدر البشر أن يتعايشوا مختلفين متحاورين.
الأمر السابع والأخير:
أن نشجع أبناءنا على فضيلة الإفصاح عن الأفكار دون خوف، وأن طرح فكرة خاطئة ليس بجريمة؛ كما أن الاعتذار عن الخطأ ليس سُبة؛ ولعل شاعرنا المبدع صلاح جاهين كان يقصد شيئًا من ذلك حين قال:
اتكلموا.. اتكلموا.. اتكلموا.. محلا الكلام، ما ألزمه.. ما أًعظمه.. فى البدء كانت كلمة الرب الإله، خلقت حياة،  والخلق منها اتعلموا.. فاتكلموا.