السبت 08 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

نحن والمذهبية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حين استمعت لتعبير “,”الروافض“,” يتردد للمرة الأولى في خطاب لرئيس جمهورية مصر العربية، وهو تعبير يستخدمه المتعصبون في الإشارة إلى الشيعة؛ باعتبارهم يرفضون -فيما يرفضون- إمامةَ وَخِلافةَ الخلفاء الراشدين، من سيدنا أبي بكر إلى سيدنا عثمان، وفي مقابل ذلك التعبير يقوم تعبير “,”النواصب“,”؛ للإشارة إلى أهل السنة ممن ناصبوا عليًّا و شيعته العداء.
تساءلت آنذاك: ترى كم منا نحن المصريون يعرف دلالة هذه التعبيرات؟ واستعدت مناقشاتي مع مجموعات من طلاب الدراسات العليا، خلال تناول موضوع الوعي بالهوية، حين كنت أتطرق إلى سؤالهم: “,”إلى أي مذهب ديني تنتمون؟“,” لم تكن ثمة مشكلة لدى أبنائي المسيحيين؛ أما بالنسبة لأبنائي من المسلمين فقد كانوا يكتفون في البداية بتعريف أنفسهم باعتبارهم مسلمين، فإذا مضيت في الاستفسار أجابوا بعد تردد أنهم سنة، فإذا ما مضيت في إلحاحي مذكرًا إياهم بالمذاهب السنية الأربعة، تبينت عدم اهتمامهم بالموضوع أصلاً. وربما تمتم بعضهم: “,”إننا غالبًا نتبع المذهب الحنفي الذي نسمع المأذون بشير إليه خلال عقد القران“,”. وتوالت الذكريات:
في أواخر السبعينيات كنت مستشارًا لمنظمة دولية في واحدة من الدول العربية، يتمايز فيها أبناء السنة عن أبناء الشيعة تمايزًا واضحًا، ولبيت دعوة عدد من الأصدقاء المثقفين أبناء ذلك البلد لقضاء أمسية معهم؛ وقام واحد منهم مرحبًا بي باعتباري قادمًا من بلد “,”أبو خالد“,”، يعني عبد الناصر، وأردف قائلاً: “,”يكفي أبا خالد فخرًا أنه كسب قلبي أنا الشيعي رغم أنه سني“,”. وبدا عليَّ الاندهاش؛ فقد كانت المرة الأولى التي أسمع فيها اسم الزعيم ناصر معرفًا بأنه “,”سني“,”، فقد كانت صفة السني تطلق في بلادنا على من يطلق لحيته.
وحدث أيضًا -في نفس السياق- أن بعثت مع أحد العاملين معي بحزمة من الخطابات موجهة إلى مجموعة من الأصدقاء بالقاهرة لوضعها في صندوق البريد؛ فإذا به يعود بعد فترة وبيده واحد من تلك الخطابات، واستفسرت منه عن عدم إرساله فقدمه لي مترددًا، طالبًا مراجعة اسم المرسل إليه، وحين نظرت إلى اسم الصديق الراحل “,”علي عمر“,” عدت إلى الرجل مستفسرًا مندهشًا “,”أين الخطأ؟“,” وبدا عليه الحرج وتأسف معتذرًا.
وعلمت بعد ذلك أن ما استوقف انتباهه هو الاسم الذي بدا له غريبًا: شخص يحمل اسم الإمام علي بينما يحمل أباه اسم الخليفة عمر بن الخطاب. قد يكون ذلك أمرًا مألوفًا لنا نحن المصريين، ولكنه بدا أمرًا غريبًا على مسامع ذلك الشاب الشيعي البسيط: اسم رمز إسلامي شيعي مقدس يلتصق باسم رمز سني بارز.
كان لي منذ سنوات طوال صديق مهندس شاب سافر إلى العراق بحثًا عن الرزق، وكان أول ما اهتم به كالعادة البحث عن مسكن رخيص نسبيًّا يمكنه من الادخار، ودله زملاؤه على منزل مناسب في أحد أحياء بغداد، وكان حيًّا شيعيًّا. وروى لي صديقي عندما التقينا في القاهرة بعد عودته أنه كان يصلي مع جيرانه، دون أن يستوقفه اختلاف صيغة الأذان لدى الشيعة عن الصيغة التي ألفها في القاهرة، حيث يتضمن الأذان الشيعي عبارة “,”حي على حسن العمل“,” وهي إضافة أثارت، وما زالت تثير، كثيرًا من الجدل في أوساط المهتمين بالتمايز المذهبي.
فسر لي صديقي الأمر تفسيرًا مصريًّا بالغ البساطة: “,”وما البأس في أن يدعونا المؤذن لحسن العمل“,”؟ وبعد مرور فترة عرف أن جيرانه في سبيلهم لزيارة مراقد أهل البيت فصاحبهم في الزيارة، وشاركهم بكاءهم، ولعله فاقهم في البكاء: “,”فضلاً عن تأثري بذكر معاناة الحسين وتفاصيل مصرعه وقطع رأسه، فقد تذكرت غربتي عن أسرتي بمصر“,”. واقترب منه واحد من الشيوخ المسئولين عن المرقد مربتًا عليه: “,”من أين يا أخي؟“,”، “,”من مصر“,”، “,”مرحبًا بك، تراك تعرف لمن هذا المقام“,”؟ وحين أخبره صديقي بالاسم سأله: “,”أتعرف ظروف مصرعه“,”؟ أجابه: “,”بالتأكيد. كان يقاتل في جيش سيدنا الحسين رضي الله عنه ولقي مصرعه على أيدي جيش سيدنا معاوية رضي الله عنه“,”.
وروى لي صديقي: كيف أنه فوجئ بعلامات الاندهاش الشديد تغطي ملامح الشيخ: “,”هل تترضى على القاتل والقتيل يا بني؟“,” وكانت إجابة صديقي التي زادت من اندهاش الشيخ: “,”أليسوا جميعًا من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام“,”؟
وعدت بذاكرتي بعيدًا إلى سنوات الطفولة والمراهقة، حين بدأت خطواتي الأولى للصلاة في زاوية صغيرة قريبة من منزلنا. وأذكر أنني في خضم تمرد المراهقة قمت بمحاولة التعالم على والدي وتصويب أدائه للصلاة؛ حيث لاحظت أنه يرسل يديه، في حين أن شيخي في الزاوية كان يصلي بنا ضامًّا يديه إلى صدره. واندهش والدي قائلاً: “,”إنني يا بني لا أعرف السبب في هذا الاختلاف، ولكن هكذا وجدت صلاة أبي وجدي“,”، وآثرت الصمت ربما خوفًا من إغضاب والدي. ومضت سنوات طويلة لأكتشف أن صلاة والدي كانت على مذهب المالكية، الذي ينفرد بتلك الإباحة، والذي ينتشر في الصعيد حيث أصل أسرتي.
هكذا نحن المصريون البسطاء لم نعرف التمذهب، ونسأل الله ألا نعرفه، وأن تظل صدورنا مفتوحة لتقبل الجميع.