الجمعة 07 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الفكرة من العقل إلى اللسان إلى المجتمع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا ما وجد المرء لسبب أو لآخر أن فكرته سخيفة أو غير منطقية أو صادمة أو تافهة أو متهورة؛ آثر الالتفات عنها، و من ثم يموت الحوار قبل أن يبدأ. ذلك هو العائق النفسي الأول للحوار. ألا يبدأ قط، و أن تظل الفكرة أسيرة الذات لا تتحول إلى كلمة.
أما إذا ما اجتازت الفكرة ذلك العائق، واقتنع الفرد بفكرته، وبأهمية الإفصاح عنها؛ تلفت حوله متأملا: ترى هل الوقت مناسب للإفصاح؟ هل الوقت مناسب لتنتقل الفكرة إلى اللسان فتتجسد كلمة؟ هل سيتقبل المحيطون كلمتي؟. ترى هل يساوي الإفصاح ما قد أواجهه من رفض وعنت؟ وماذا لو توقع المرء نفورا من خلصائه، ووجد أن مؤشرات الرفض عالية تفوق القدرة علي الاحتمال - وهي قدرة تتفاوت من شخص لآخر- فقد يؤثر المرء السلامة و يلتزم الصمت رغم اقتناعه بفكرته. إنه العائق النفسي الثاني من معوقات الحوار: إنه الخوف من تبعات الإفصاح ورفض الآخرين؛ وقد يصل الأمر بالفرد أحيانا إلى الرعب من مجرد التفكير في أمور تلح على خاطره، ومن ثم يندفع ليغرق نفسه فيما يصرفه عن هم التفكير لينسي الدنيا ويريح باله. لعل كثيرا منا استمع أو لعله تغنى مع محمد عبد الوهاب "إنسى الدنيا وريح بالك واوعي تفكر في اللي جري لك". إننا كثيرا ما نعادل في لغتنا اليومية بين "الفكر" و"الحزن". "فلان عند شوية فكر".
ولكن قد تبقى الرغبة في الإفصاح قوية ملحة تبحث لنفسها عن منفذ؛ فتدفع بالفكرة من حين لآخر لتطل برأسها ثانية: لعل المحيط قد تغير، أو لعل ميزان قوى الرفض قد تعدل؛ وحين تنتصر الرغبة في الإفصاح يقدم الفرد آنذاك على اختبار فكرته بين معارفه وأصدقائه فإذا لم يجد لديهم صدى إيجابيا، فقد يعاوده خوفه القديم فيتخلى عن فكرته مؤثرا السلامة، أو يختزنها محاولا مراجعتها وإعادة صياغتها، منتظرا أن تلوح أمامه فرصة جديدة. إنه العائق الثالث في طريق الحوار. وهو عائق نفسي اجتماعي.
وقد يكون المرء محظوظا فتجد فكرته صدى لدى من طرح فكرته عليهم، وعندها تبدأ مسيرة الحوار، وتنتقل ملكية الفكرة من صاحبها الأصلي لتصبح مشاعا بين أفراد الجماعة التي تبنتها. تتولى الدفاع عنها وتطويرها وتحديثها وتفسيرها وتعديلها وتأويلها بما تراه مناسبا، و قد تختلف الجماعة حول تلك التحديثات والتفسيرات والتعديلات والتأويلات اختلافا يصل إلى حد الانشقاق واستقلال كل جماعة فرعية بتأويلها الذي تراه الأقرب للصواب.
الكلمة إذن هي البداية الظاهرة للتحولات الكبرى في تاريخ البشرية وفي تواريخ الأفراد على حد سواء. هكذا بدأت رسالات الأنبياء؛ ودعوات الإصلاح. كلمات يهمس بها صاحب الدعوة لخلصائه ثم تنتشر الدعوة لتغير الواقع الاجتماعي. هكذا تبدأ أيضا علاقات الحب والزواج والهجر والخصام.
إن تلك الرحلة الطويلة للفكرة من عقل صاحبها إلي لسانه إلى أن تتحول إلي حوار فكري ممتد ومتشعب، لا تمضي منعزلة عن الظروف الاجتماعية التاريخية المصاحبة لنشأتها وتطورها. فاستمرار الحوار وازدهاره، أو ذبوله وانحساره، يخضع لاحتياجات المجتمع في مرحلة تاريخية معينة؛ كما يخضع من ناحية أخرى لطبيعة البناء الفكري السائد الذي قد يشجع الحوار حول أفكار بعينها ويحظر مجرد الاقتراب من أفكار أخرى.
وعلي سبيل المثال فقد شهد القرن التاسع الميلادي عالما فيلسوفا طبيبا صيدلانيا هو أبو القاسم عباس بن فرناس الذي عاش في قرطبة في عصر الخليفة الأموي الحكم بن هشام. وقام عباس بن فرناس بتجربته الشهيرة في مجال الطيران بعد أبحاث وتجارب عدة، وقام بشرح تلك الأبحاث أمام جمع من الناس دعاهم ليريهم مغامرته القائمة على الأسس العلمية؛ ولكن الفكرة لم تحظ بانتشار آنذاك لأن المجتمع العربي الأندلسي لم يكن في حاجة لوسيلة سريعة للانتقال من مكان لآخر؛ ومن ثم لم يهتم ذلك المجتمع بتطوير الفكرة، فذبلت وانزوت.
ولكن فكرة الطيران عاودت الظهور في مطلع القرن العشرين، أي بعد مضي ما يقرب من ألف عام علي يدي الشقيقين الأمريكيين رايت اللذين ينسب إليهما معظم المؤرخون القيام بأول تجربة طيران ناجحة في 17 ديسمبر 1903، وبعد سنوات قليلة تنبهت الحكومة الأمريكية إلى أهمية الطيران وإمكاناته الواسعة وحاجتها إلي تطويره. لقد اتسعت المعمورة وترامت أطرافها وأصبح التواصل في حاجة للطيران.
الفكرة إذن قد تموت؛ إذا ما سبقت عصرها ولم يكن المجتمع في حاجة لتطويرها.