الجمعة 07 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

الحوار حاجة إنسانية وضرورة اجتماعية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كثيرا ما نستخدم في تفاعلاتنا السياسية تعبير "معوقات الحوار" ويصنف الأكاديميون الحوار ضمن علوم الاتصال communication، أما "المعوقات" فهي تعبير لا يستخدم إلا إذا كنا نتحدث عن أمر ما يحول دون استمرار مسار طبيعي مرغوب. نتحدث مثلا عن معوقات التنمية وعن معوقات تدفق الدم وعن معوقات الكلام وعن معوقات الحركة إلي آخره؛ ولا نتحدث عن معوقات الجريمة أو القتل أو الفقر. الأصل إذن هو الحوار.. ونقيض الحوار قد يكون صمتا وانكفاء علي الذات أو عنفا وتدميرا للآخر. 
الحوار حاجة إنسانية قبل أن يكون ضرورة اجتماعية.. وتؤكد تجارب علم النفس، فضلا عن الخبرة الإنسانية العامة، أن إغلاق منافذ الحوار يؤدى بالفرد إلى معاناة نفسية - بل وبدنية – قاسية.. وتؤدى تلك الحالة إذا ما استمرت إلى انهيار نفسي كامل يتحول معه الإنسان إلى كائن رخو فاقد تماما لجهاز مناعته النفسية إذا ما صح ذلك التعبير.. ولو تركنا علماء النفس وتجاربهم جانبا، ونظرنا في أنفسنا، وإلى البشر من حولنا، لوجدنا الصورة أكثر وضوحا.. فالمرء مهما كانت انطوائيته، ومهما كان عزوفه عن البشر، لابد أن يضيق بوحدته بعد فترة تطول أو تقصر.. ولابد وأن يبحث لنفسه عن ”آخر” يأنس إليه ويأتنس به، ويتفاعل معه، ولا بأس بعد ذلك من عودته إلى قوقعته من جديد.
وحتى في بعض حالات المرض العقلي المتطرفة – وأنتم الأعلم بها- حين يتعذر على “المريض" ممارسة حوار متكافئ مع الآخرين، فإنه يصطنع لنفسه عالما وهميا منهم، يحادثهم ويستمع وحده إلي حديثهم، ويقيم معهم من الحوارات ما يبدو لنا غريبا شاذا. 
خلاصة القول إذن أن الحاجة إلى الحوار حاجة إنسانية، شأنها شأن الحاجة إلى الطعام والشراب والنوم وما إلى ذلك من حاجات أساسية.
ترى متى بدأ الإنسان حواره مع الآخر؟ لعلنا لا نجاوز الحقيقة إذا ما سلمنا بأن الإنسان يمارس الحوار منذ بداية الوجود البشرى.. ولعلنا لا نجاوز الحقيقة كذلك إذا ما سلمنا بأن ممارسة الحوار كانت سابقة على توصل الإنسان لأبجديات اللغة كما نعرفها اليوم.
لقد كانت أولى أشكال الحوار البدائي تتمثل في استخدام الإنسان للتعبيرات الجسمية كوسيلة لنقل انفعالاته وأحاسيسه إلى الآخر.. وقد شملت تلك اللغة أجزاء الجسد جميعا: العيون، الأنف، الشفتين، الذراعين، اليدين، الأصابع، الكتفين، حركة الجسد ككل ... إلى آخره.. وما زالت لغتنا اليومية المنطوقة بل والمكتوبة أيضا تحمل آثارا من تلك اللغة القديمة، لغة التعبيرات الجسمية.. ويكفى أن نتأمل تعبيرات مثل : “أوليته ظهري”.. “فتح له ذراعيه”.. “شمخ بأنفه”.. “ربت عليه”.. “قلب شفتيه”.. “تمايل طربا”.. “هز كتفيه”... إلى آخره.
ولو تركنا جانبا لغتنا المنطوقة والمكتوبة، لوجدنا دليلا آخر على عمق جذور تلك اللغة القديمة.. الأطفال يحاوروننا منذ البداية باستخدام تلقائي لتعبيرات الجسد. والطريف أن الكبار - وخاصة الأمهات - يستعيدون فورا قدرتهم المرهفة القديمة على “ قراءة” تلك التعبيرات الجسمية الصادرة عن أطفالهم، وترجمتها، والرد عليها. الأم “ تقرأ” نظرات طفلها، وهمهمته، وحركات رأسه.. بل إنها كثيرا ما تستطيع أن تميز بدقة بالغة بين بكاء العتاب، وبكاء الخوف، وبكاء الجوع، وبكاء الرغبة في النوم، أو الحاجة إلي تغيير الملابس، أو الرغبة في أن تحمله على ذراعيها ... إلي آخره.. ولكن ما أن يبدأ الطفل في النمو واكتساب اللغة، حتى يعزف شيئا فشيئا عن الاعتماد بشكل أساسي على تلك اللغة القديمة.. وعادة ما يشجعه الكبار على ذلك سواء بالتعبير له عن فرحتهم به وهو ينطق كلماته الأولى، أو بتوجيهه مباشرة إلى ضرورة استخدام اللغة المنطوقة وإلا كفوا عن استقبال رسائله: “قل ما تريد... تكلم.. عبر بالكلمات.. كف عن استخدام الإشارات“.
ولو حاولنا أن نصنف تلك اللغة القديمة وفقا للتصنيفات التي تعرفها علوم الاتصال الحديثة، لوجدنا أنها نوع من أنواع الاتصال الشخصي، أو بعبارة أخرى أكثر أصالة “الاتصال وجها لوجه “.. ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشير إلى تعبيرنا العامي الدارج “عيني في عينك “ بمعنى واجهني مباشرة لأعرف مدى صدق ما تقول.
الحوار إذن اتصال متبادل بين طرفين أو عدة أطراف، أفكار يتبادلها أطراف الحوار.. ويبدأ الحوار بفكرة تنشأ في وعي الفرد؛ ولكي تصل تلك الفكرة إلي ساحة الحوار تتخذ مسارا طويلا يحكمه ما نطلق عليه قوانين حياة الأفكار.. وتحدد تلك القوانين مسارا للفكرة من العقل حتى ينطق بها اللسان.. يبدأ الفرد بامتحان فكرته داخل نفسه قبل الإفصاح عنها؛ فإذا ما وجد لسبب أو لآخر أن فكرته سخيفة أو غير منطقية أو صادمة أو تافهة أو متهورة؛ آثر الالتفات عنها، ومن ثم يموت الحوار قبل أن يبدأ.. ذلك هو العائق النفسي الأول للحوار.. ألا يبدأ قط، وأن تظل الفكرة أسيرة الذات لا تتحول إلي كلمة.