السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

سياسة

الإسلام وحرية الرأى والتعبير

الإسلام وحرية الرأى
الإسلام وحرية الرأى والتعبير
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فى الرد على دعاة الدولة الدينية (الحلقة الخامسة(

هل قاتل الرسول الكفار بسبب كفرهم؟

- النبى محمد لم يقاتل قريشًا بقصد الاعتداء وإنما دفاعًا عن النفس وانتقامًا من الظالم وردًا للظلم

- الله فرض القتال على المسلمين فى بدر وهو كره لهم ردًا لاعتداء الكافرين.. وحذرهم من عرض الدنيا

- رفض الرسول اتباع سياسة الإبعاد أو المصادرة أو الخصام مع يهود المدينة.. وقبل وجودهم عن طيب خاطر   


بعد هجرة الرسول- عليه الصلاة والسلام- من مكة إلى المدينة،‏ واجه عدة أنماط من الأعداء:

النمط الأول‏:‏ حاربوا الرسول وأظهروا له العداوة،‏ ويتجسد هذا النمط فى قريش‏.‏

النمط الثانى‏:‏ وادعهم النبى شريطة ألا يحاربوه ولا يؤلبوا عليه عدوه، ‏وأن ينصروه عند مداهمته‏،‏ ويتمثل هذا النمط فى يهود المدينة‏.‏

النمط الثالث‏:‏ انتظروا ما تؤول إليه الأمور‏؛‏ فإن انتصر الرسول تبعوه‏،‏ وإن انتصرت قريش كانوا معها‏،‏ وإلى هذا النمط ينتمى باقى العرب‏.‏

النمط الأخير: ليس تيارا واحدا متسقا، منهم من كان يميل إلى النبى ويتعاطف معه‏،‏ كبنى خزاعة‏،‏ ولهذا دخلوا عهده فى صلح الحديبية‏،‏ ومنهم من كان ينحاز إلى قريش ويؤيدها‏،‏ كبنى بكر‏،‏ وقد دخلوا فى عهد قريش عند الصلح السابق‏.‏

كانت الأغلبية من العرب تميل إلى قريش‏،‏ لكن النبى- عليه الصلاة والسلام- لم يقاتلهم‏،‏ ذلك لأن الإسلام يؤمن بالدعوة السلمية‏،‏ ولا يبادر بالاعتداء‏،‏ ولا يفتش فى قلوب الناس ولا يحاسب أحدا على النوايا‏.‏

وفى هذه الدراسة نناقش ثلاث صور لتعامل النبى مع أعدائه‏،‏ والهدف هو توضيح موقفه العملى من قضية حرية الرأى والتعبير‏،‏ الصورة الأولى‏،‏ عن قريش‏،‏ والثانية‏،‏ خاصة باليهود‏،‏ والثالثة‏،‏ تتعلق بالمنافقين داخل المدينة‏،‏ وهم الأقرب إلى مفهوم المعارضة السياسية بلغة العصر الحديث‏.‏


أولًا‏:‏ قريش‏:‏

مكث النبى- صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة، ثلاث عشرة سنة يقابل عداء قريش بالصفح‏،‏ وتهكمهم عليه وعلى أصحابه بالصبر‏.‏

ولما هاجر إلى المدينة تبعته قريش ورجالها بالعداء‏،‏ فبعثوا إلى أهل المدينة يهددونهم بالحرب إن لم يطردوه من ديارهم‏،‏ وأرسلوا إلى زعيمهم آنذاك عبدالله بن أُبى بن سلول رسالة جاء فيها‏:‏

ـ لقد آويتم صاحبنا‏،‏ وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بأجمعنا‏،‏ حتى نقتل مقاتلتكم‏،‏ ونسبى نساءكم ـ د‏.‏ عبد المتعال الصعيدى‏:‏ السياسة الإسلامية فى عصر النبوة ص‏71‏‏.‏

وعندما لم يستطع عبد الله بن أبي أن ينفذ ما طلبته منه قريش‏،‏ لالتفاف الأنصار من قبيلتى الأوس والخزرج حول النبى وأصحابه‏،‏ أخذت تشدد الأذى على من قعد به الضعف عن الهجرة من المسلمين‏،‏ وأعلنت العداء لأهل المدينة ومحاولة الاعتداء على من جاء منهم حاجا‏.‏

قابل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عداء قريش بمثله‏،‏ وأذن الله له فى قتالها‏،‏ قال تعالى‏:‏ "إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور ـ‏38‏ـ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ـ‏39‏ـ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره أن الله لقوى عزيز" من سورة الحج‏.‏

ومن ذلك أيضا قوله تعالى‏:‏ "فليقاتل فى سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل فى سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ـ‏74‏ ـ وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا" من سورة النساء‏.‏


فهذه الآيات تتضمن الأسباب التى من أجلها أذن الله للمسلمين بالقتال، وهى‏:‏

‏1‏ـ أن المسلمين قوتلوا من قريش‏،‏ ومن حق من قوتل أن يدافع عن نفسه بالمثل‏.‏

‏2‏ـ أن قريشا ظلمت المسلمين أثناء إقامتهم بمكة‏،‏ ومن حق المظلوم أن ينتقم من الظالم عند قدرته عليه‏.‏

‏3‏ـ أن قريشا أخرجتهم من ديارهم بغير حق‏؛‏ لأنه لا ذنب لهم إلا أنهم آمنوا بالله ودعوا إلى الإيمان به‏،‏ وهو حق أراد الله تقريره لكل إنسان ـ أن يدين بما يشاء‏،‏ وأن يدعو إلى ما يراه حقاـ‏،‏ وقد أقرت ذلك الحق جميع الشرائع العادلة‏.‏

‏4‏ـ أن الدفاع عن النفس بالقتال حق مقرر لا يمكن النزاع فيه‏،‏ ولولا تسليط الله المؤمنين على الكافرين بالجهاد لاستولوا عليهم‏،‏ وهدموا أمكنة عبادتهم‏،‏ فلم يتركوا للنصارى بيعا‏،‏ ولا لرهبانهم صوامع‏،‏ ولا لليهود صلوات‏،‏ ولا للمسلمين مساجد‏،‏ وليس بعد هذا إلا أن تزول دولة الإيمان‏،‏ وتستقر عبادة الأوثان والأصنام‏.‏

‏5‏ـ أن قريشا لم تقلع عن ظلمها بعد إخراجها المسلمين من ديارهم‏،‏ بل استمرت فى ظلمها لمن قعد به الضعف فى مكة‏،‏ من الرجال والنساء والولدان‏،‏ فمنعتهم من الهجرة إلى إخوانهم بالمدينة‏،‏ وعذبتهم بالسجن وغيره من صنوف العذاب فمن حق الأحرار من المسلمين أن يحاربوا فى سبيل خلاص أولئك المظلومين‏،‏ ليمنعوا الظلم والبغى عنهم‏،‏ ويمكنوهم من الهجرة إليهم‏.‏

‏6‏ـ أن قريشا استولت على أموال المسلمين بمكة بعد أن أخرجوهم منها‏،‏ ولم يمكنوا أحدا منهم أن يأخذ معه شيئا من ماله‏،‏ فبدأ المسلمون حرب قريش بالتعرض لقوافلها التى تمر على المدينة بتجارتها إلى الشام‏،‏ ليستولوا على أموالهم كما استولت على أموالهم‏.‏

والحرب فى الإسلام بهذه الشروط مشروعة طالما لم يقصد منها الاعتداء على النفس أو المال‏،‏ وإنما يقصد منها الدفاع عنهما‏،‏ لأن الإسلام إنما أذن فى قتال من قاتلنا‏،‏ وحرم الاعتداء على من لم يقاتلنا‏،‏ كما قال تعالى‏:‏ "وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" البقرة ـ ‏190‏.


غزوات الرسول الكبرى:‏

كانت الغزوات فى عهد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكبر دليل على انحياز المسلمين الثابت لهذه القواعد التى حددها القرآن الكريم للقتال‏،‏ ونتعرض هنا لموقف الرسول والمسلمين من ثلاث غزوات كبرى‏:‏ بدر‏،‏ الأحزاب‏،‏ ذات العسرة‏.‏

كانت غزوة بدر هى الأولى والأشهر‏،‏ وكى نفهم أسبابها الحقيقية‏،‏ علينا أن نعرف معنى ـ الإيلاف ـ فى قريش الذى أشارت إليه سورة قريش‏:‏ "لإيلاف قريش‏ إيلافهم رحلة الشتاء والصيف‏".‏

لقد بنت قريش اقتصادها على رحلتين تجاريتين، الأولى فى الصيف وتتوجه فيها إلى اليمن، والأخرى فى الشتاء وتتوجه فيها إلى الشام‏،‏ والإيلاف يحمل لدى القرشيين معنيين‏،‏ الأول خارجى يشير إلى تأمين طريق القوافل القرشية بين مكة واليمن وبين مكة والشام‏،‏ والثانى داخلى يشير إلى اشتراك القرشيين جميعا فى تمويل قافلتى الشتاء والصيف‏،‏ وذلك بتقسيم رأس المال على أسهم‏،‏ وفى نهاية كل عام تحسب أرباح الأسهم ويأخذ كل مساهم حصته على قدر أسهمه‏.‏

وبإيذاء المسلمين وطردهم من مكة إلى المدينة استولى المشركون على بيوتهم فى مكة ورؤوس أموالهم فى قافلتى الشتاء والصيف‏،‏ ولم يكن المسلمون ليجرؤوا على استرداد أموالهم طالما كانوا يتحملون ضربات عدوهم‏.‏ فلما نزل تشريع الإذن بالقتال كان طبيعيا أن يحصلوا على حقهم من الإيلاف القرشى‏،‏ بالإغارة على القافلة التى تتاجر بأموالهم الضائعة ليحصلوا منها على بعض ما ضاع من حقوقهم‏،‏ وعندما نجت القافلة بمكر ودهاء أبى سفيان، جاءت جيوش قريش لتنتقم من المسلمين الذين حاولوا الإغارة على قوافلها التجارية فى محاولة لتأديبهم حتى لا يعودوا لمثل ما فعلوا مرة أخرى‏،‏ وهنا فرض على المسلمين القتال وهو كره لهم، كما تنص على ذلك آيات القرآن المتعددة‏.‏ وحدث ما حدث فى بدر وانتصر المسلمون لكنهم ارتكبوا خطأ جسيما راح المولى عز وجل يؤدبهم من أجله فى آيات عظيمة جاءت بها سورة الأنفال‏،‏ يقول الله تعالى منذرا من يقاتل من أجل المال‏:‏ "ما كان لنبى أن يكون له أسرى حتى يثخن فى الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ـ‏67‏ ـ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ـ‏68‏" ‏من سورة الأنفال‏.‏


وكان المسلمون قد تعمدوا ـ أثناء سير المعركة ـ أسر المشركين‏،‏ طمعا فى الفداء ـ كما كانت تسير العادة فى كل الحروب التى سبقت الإسلام ـ وفى هذا التصرف ما يشتت الجيوش ويجعل كل فارس يسعى إلى هدف شخصى وهو المال مما يؤدى إلى خسارة الجيش فى مجمله للمعركة‏.‏ وقد جاء فى سنن أبى داود ـ أن من حارب لغنائم لا أجر له‏،‏ وإنما كان المسلمون يأخذون الغنائم بعد الحرب‏،‏ ليعوضوا بها ما ضاع منهم فيها‏،‏ وكان أكثرها ينفق فى مصالحهم العامة‏،‏ ولا يأخذ منها الأفراد إلا بقواعد محدودة‏،‏ وأحكام تسرى عليهم جميعا ـ د‏.‏ أحمد صبحى منصور‏:‏ حول العلاقة مع الآخر ـ مجلة الإنسان والتطور عدد‏60‏ ص‏18‏.

وفى غزوة الأحزاب حاصر المشركون المدينة فبلغ الخوف من المؤمنين غايته القصوى، ويكفى أن نتدبر قوله تعالى يصف المؤمنين وقتها‏:‏ "إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ـ‏10‏ ـ هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ـ‏11" من سورة الأحزاب‏.‏

وأدى الخوف ببعضهم إلى الهروب وتعويق المقاتلين ونشر الإشاعات‏:‏ "ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ـ‏22‏ـ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ـ‏23‏ " من سورة الأحزاب‏.‏

وقد ظل المسلمون حتى آخر غزوات الرسول ـ غزوة ذات العسرة ـ غير متحمسين للقتال ورد اعتداء المشركين عليهم‏،‏ مما جعل آيات القرآن تنزل أكثر تأنيبا لهم "ألا تقاتلون قوما نكثوا إيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ـ‏13‏ ـ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ـ‏14‏ ـ ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم ـ‏15‏ ـ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون ـ‏16‏ " التوبة‏ ـ ومنها قوله تعالي لهم‏:‏ "يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا فى الآخرة إلا قليل" التوبة‏38‏.

هذا ما كان عليه مسلمو دولة الرسول الأوائل ضد مشركى قريش‏،‏ فماذا كانوا مع اليهود الذين شاركوهم الدولة والمنافقين الذين ظلوا معهم فيها حتى رحيل الرسول عنها وعن الدنيا؟‏!‏


ثانيًا‏:‏ اليهود‏:‏

عندما جاء النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة وجد بها يهودا توطنوا‏،‏ ومشركين مستقرين‏،‏ فلم يتجه فكره إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والخصام‏،‏ بل قبل ـ عن طيب خاطر ـ وجودهم‏،‏ وعرض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدة الند للند‏،‏ على أن لهم دينهم وله دينه‏‏ ـ محمد الغزالى‏:‏ فقه السيرة ص‏141‏.

هذه الوثيقة هى أول دستور فى هذا الزمان ينص على حرية العبادة والتعاون الخالص بين جميع مواطنى المدينة من مسلمين ويهود ومشركين‏،‏ لنشر السكينة فى ربوع البلدة‏،‏ والضرب على أيدى العادين ومدبرى الفتن أيا كان دينهم‏.‏

وقد نصت ـ بوضوح ـ على أن حرية الدين مكفولة‏.‏

فليس هناك أدنى تفكير فى محاربة طائفة أو إكراه مستضعف‏،‏ بل تكاتفت العبارات فى هذه المعاهدة على نصرة المظلوم‏،‏ وحماية الجار‏،‏ ورعاية الحقوق الخاصة والعامة‏،‏ واستنزل تأييد الله على أبرز ما فيها واتقاه‏،‏ كما استنزل غضبه على من يخون ويغش‏.‏

واتفق المسلمون واليهود على الدفاع عن يثرب إذا هاجمها عدو‏.‏ وأقروا بحرية الخروج من المدينة لمن يبتغى تركها‏،‏ وحرية المكوث فيها لمن يحفظ حرمتها‏.‏

لقد أعلت الوثيقة من شأن فكرة ـ المواطنة ـ ذلك أن الخطر الخارجى الذى يهدد الوطن ـ المدينة ـ يتجاوز اتباع دين بعينه‏،‏ ومن ثم فإن المقاومة هنا يجب أن تكون ـ وطنية ـ وليست دينية‏،‏ والدفاع حق وواجب على جميع المواطنين مع اختلاف الانتماء الدينى والتباين العقائدى‏.‏


جدل حر‏:‏

ولم يكتف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذا الدستور‏،‏ وإنما قدم مثلا رائعا فى سماحة النفس وأدب الحوار حتى وإن خالف اليهود فما أكثر الحوارات التى دارت بينه وبين من يعارضونه ويرفضون نبوته ورسالته‏،‏ وما أكثر الأسئلة التى طرحوها عليه وأجاب عنها‏.‏ ليبرهن وبشكل عملى على أن الاختلاف فى الرأى مسموح به‏،‏ والحوار متاح بلا قيود‏،‏ والإكراه ليس واردا‏.‏

لقد جادلهم الرسول بالحسنى‏،‏ على الرغم من علمه بأن أسئلتهم لا تهدف إلى الوصول إلى الحق أو الحقيقة‏،‏ وإنما هى وسيلة للاستفزاز والتشكيك وإثارة البلبلة فى أوساط المسلمين‏.‏ ولكن الرسول كان مصرا على التمسك بالمنهج الذى يأمر به‏،‏ القرآن الكريم ـ وجادلهم بالتى هى أحسن ـ‏..‏

سأله اليهود عن الساعة‏،‏ وهو سؤال مغلوط ملىء بالألغام‏،‏ لأنهم يعرفون أن الأمر ليس من علم البشر‏،‏ فهو مما اختص الله تعالى به نفسه‏:‏ "يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربى" الأعراف187‏.

وسألوه عن الروح‏،‏ وهى سر من أسرار الوجود‏،‏ يختص بها العلم الإلهى وحده‏:‏ "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" الإسراء ‏85‏.‏

وسألوه عن ذى القرنين‏:‏ "ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا" الكهف83‏.

لم تكن تلك الأسئلة تستهدف العلم‏،‏ بل كان جل هدفها هو الإحراج والكيد‏!‏

ومع أن الرسول كان يعى كل أهدافهم الحقيقية‏،‏ لكنه لا يصادر على الحق الذى يسيئون استخدامه ـ حرية الرأى ـ‏،‏ ويستمر فى إعمال القانون الإلهي‏،‏ الثابت المشترك فى الآيات جميعا هو‏:‏ يسألونك‏.....‏ قل لكل سؤال إجابة‏،‏ وللسائل حرية أن يطرح ما يشاء دون تفتيش فى النوايا‏.‏ لا مصادرة على حق اليهود أو غيرهم فى طرح الأسئلة‏،‏ أما النوايا الكامنة فلا يجب أن تمثل عائقا ولا يجب أن تقود إلى قمع أو قهر‏!‏

بنو قينقاع

انقضت فترة طويلة واليهود يناوئون المسلمين‏،‏ والنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطاولهم لعلهم يرجعون عن غيهم‏.‏

فلما انتصر المسلمون فى غزوة بدر‏،‏ ذلك الانتصار العظيم‏،‏ أكل الغيظ قلوب اليهود‏،‏ وبلغ حسدهم للمسلمين ما بلغ‏،‏ وكان النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد بعث رجلين ليبشرا أهل المدينة بذلك النصر‏،‏ فكبر ذلك على اليهود‏،‏ وقال كعب بن الأشراف‏:‏ أحق هذا؟ أترون أن محمدا قتل الذين يسمى هذان الرجلان‏،‏

والله لبطن الأرض خير من ظهرها‏.. ‏د‏.‏ عبد المتعال الصعيدى‏:‏ مصدر سابق ص‏85‏.

وكان كعب يقول الشعر ويجيده‏،‏ وقد ساد يهود الحجاز بكثرة ماله‏،‏ فلما تيقن الخبر ورأى الأسرى خرج إلى قريش يبكى قتلاهم‏،‏ ويحرض بأشعاره على قتال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم رجع إلى المدينة فأخذ يحرض الناس على المسلمين‏.‏

وكان يهود بنى قينقاع ينزلون بين المسلمين بالمدينة‏،‏ وكانوا أكثر اليهود مالا‏،‏ وأشدهم شجاعة وبغيا‏،‏ وكان بينهم وبين عبدالله بن أبى زعيم المنافقين فى المدينة حلف قبل الإسلام‏،‏ فزاد هذا فى بغيهم‏،‏ وظنوا أن عبدالله لا يفرط فى حلفهم‏،‏ فحاولوا الإغراء بامرأة من نساء المسلمين كاشفين عن عورتها فى جمع فى السوق‏.‏ وكان هذا الفعل فيما قبل الإسلام ـ عند العرب ـ تدوم الحرب من أجله سنوات طويلة تفنى فيها قبائل برمتها‏،‏ فلما صاحت المرأة مستغيثة وثب رجل من المسلمين على الفاعل فقتله‏،‏ فشد قومه من اليهود على المسلم فقتلوه‏.‏

رأى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يضع حدا لهذه الأعمال التى بدأت بالخيانة وتأليب الناس على المسلمين ثم انتهت بالإغراء بنسائهم ومحاولة تدنيس أعراضهم‏،‏ على مرأى ومسمع من الناس أجمعين‏،‏ فبدأ بيهود بنى قينقاع‏،‏ لأنهم كانوا يخالطون المسلمين بالمدينة‏،‏ وكانوا أكثر بغيا وخيانة من غيرهم‏،‏ لعل ما يحدث لهم يردع غيرهم‏،‏ ويحملهم على مراعاة عشرتهم للمسلمين‏،‏ وتقدير العهد الذى ما زال ساريا بينهم فأعلن الحرب عليهم‏،‏ وحاصرهم خمس عشرة ليلة فى حصونهم‏،‏ حتى نزلوا على حكمه‏،‏ ثم سألوه أن يخلى سبيلهم‏،‏ وأن يجلوا من المدينة‏،‏ وأن لهم النساء والذرية‏،‏ وله بقية الأموال من السلاح‏،‏ فأخلى سبيلهم على ذلك‏،‏ وخرجوا من المدينة إلى أذرعات بالشام فنزلوا بها‏.‏

لقد كان ما جرى لبنى قينقاع فى السنة الثانية من الهجرة‏،‏ وقد كان فيه ما يكفى لحمل من بقى من اليهود بجوار المدينة على التفكير فيما هم فيه من البغى على المسلمين‏،‏ وعدم الوفاء بعهودهم‏،‏ ولكن قوتهم وأموالهم أعمتهم عن مثل هذا التفكير‏،‏ فلم يفد ما جرى لبنى قينقاع شيئا فيهم‏،‏ بل مضوا هم والمنافقون فى تدبير المكايد للمسلمين‏،‏ وفى الاتصال بقريش فى السر للاتفاق معها على القضاء عليهم‏.

ونواصل فى العدد القادم:

هل أخرج الرسول- صلى الله عليه وسلم- اليهود من المدينة لأسباب سياسية أم دينية؟‏