السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

النبى الكاذب سيد قطب قراءة فى الأفكار والمسيرة (1)

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 -بدأ سيد قطب حياته ناقدًا وشاعرًا وكاتبًا اجتماعيًا.. لكن الدين لم يكن موضع اهتمام خاص فى إنتاجه

-عاش قطب تجربة الإلحاد الكامل لفترة تزيد على عشر سنوات!

- التوجه الدينى لسيد قطب أزاح قشرة القدرة على استيعاب الآخرين وقبولهم!

- هو الأشهر والأعظم تأثيراً فى مجال التبشير بالأفكار التكفيرية المتطرفة التى تطول المجتمع وأفراده

 -قارئ الخطاب القطبى لا يملك إلا أن يسجل حضور أغلب مفردات النسق المفهومى كما أورده المودودى 

 -يرى قطب أن الأمة كفرت بالإسلام.. وانقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعًا 

 -لم يكن سيد قطب من العلماء الراسخين المتخصصين فى الفقه وليس أدل على ذلك من أن التشكيك فى قدراته يصدر عن عالم سلفى فى وزن الدكتور يوسف القرضاوى

 -قد يكون صحيحًا أن سيد قطب ليس فقهيًا متخصصًا.. لكنه قدم مجموعة خطيرة من الأفكار التى ألهمت شباب الإخوان خلال مرحلة تاريخية سابقة

 -لا مشروعية– عند سيد قطب– للعمل بالقانون الوضعى.. فهو ينسف المؤسسات القانونية العصرية من جذورها

 -قطب: إن أولى الخطوات فى طريقنا هى أن نستعلى على هذا المجتمع الجاهلى وقيمه وتصوراته 

 -قطب: الهدف من الحرب هو استعادة الإسلام المهدد بالضياع.. والأعداء ليسوا هم غير المسلمين لكنهم من "يتصورون" أنهم مسلمون


لا شك أن سيد قطب هو المفكر الأكبر والأشهر، والأكثر نفوذاً وتأثيراً، فى تاريخ جماعة الإخوان المسلمين. وإذا كان الإخوان، لأسباب سياسية عملية تتعلق بالمواءمة مع المتغيرات، يجمعون فى ازدواجية لافتة بين الإيمان الكامن بأفكاره والتنكر العلنى لها، فإن الجماعات الإسلامية الراديكالية، كما يتجلى عند أبرز قادتها ومفكريها ورموزها، يجاهرون باتباع أستاذهم سيد قطب، ويعلون من شأنه، ويرون فيه المثل العلى والحجة التى يقهرون بها خصومهم والمختلفين معهم والمتحفظين على مجمل أفكارهم من ناحية، وعلى السلوك الإرهابى العنيف المترتب على هذه الأفكار من ناحية أخرى.

بدأ سيد قطب حياته ناقدًا وشاعرًا وكاتبًا اجتماعيًا، وقد تخرج فى دار العلوم مثل حسن البنا، لكن الدين لم يكن موضع اهتمام خاص فى إنتاجه، بل إن الكاتب الكبير سليمان فياض، فى مقالٍ له بمجلة "الهلال"، يؤكد أنه عاش تجربة الإلحاد الكامل لفترة تزيد على عشر سنوات!

لن نتوقف طويلا أمام الجانب الإبداعى والنقدى فى حياة سيد قطب، فقد انغمس بعد ذلك فى الصراع السياسى من منطلق رؤية دينية متشددة متشنجة، لكن الآراء اختلفت فى تقييم عطائه الأدبى، بين من يرون أنه كان موهوبًا مبشرًا بالمزيد من النضج، ومن يتهمونه بالضحالة والسطحية والتقليد والعجز عن تقديم جديد!


نجح سيد قطب فى تحقيق قطيعة كاملة مع ماضيه الأدبى، وانتقل من جنات الشعر والنثر إلى جحيم العراك السياسى، وانقلب من العصرية والاهتمام بالقضايا الاجتماعية إلى أقصى درجات التطرف والتكفير! وقد يكون مفيدًا هنا أن نشير إلى العلاقة الوثيقة التى جمعت بين سيد قطب وعباس محمود العقاد، قبل أن تتحول بدورها إلى جفاء وعداء، وقد كان العقاد كاتبًا فرديًا معتزًا بذاته إلى درجة النرجسية والغرور، كما كان بمثابة النموذج والمثال الذى يحتذيه قطب ويقتدى به، لكن المأساة تولدت من اختلاف المجال، ذلك أن خصومات العقاد الحادة كانت فكرية ثقافية فى المقام الأول، وسلاحها الكلمة دون تفكير فى الفعل، كما أن معاركه السياسية "التقليدية" لم تجنح به إلى المدى الذى وصل إليه التلميذ المتمرد. ليبرالية العقاد كانت كامنة فيه مهما تشتد قسوته، أما التوجه الدينى لسيد قطب فقد أزاح قشرة القدرة على استيعاب الآخرين وقبولهم!

توثقت علاقة سيد قطب مع الإخوان المسلمين بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1950، لكنه لم ينخرط تنظيميًا فى صفوفهم إلا منتصف سنة 1953. وبعد المحاولة الإخوانية لاغتيال عبدالناصر فى المنشية، 26 أكتوبر 1954، اعتقل سيد قطب وقدم إلى المحاكمة، وصدر ضده حكم بالسجن لمدة خمسة عشر عاما. فى مصلحة سجن طرة، بدأت رحلة جديدة لتطوير الأفكار، وهى الرحلة التى انتهت باتهام جديد قاده إلى الإعدام.


قد يكون سيد قطب هو الأشهر والعظم تأثيراً فى مجال التبشير بالأفكار التكفيرية المتطرفة، التى تطول المجتمع وأفراده، لكنه– موضوعياً– يمثل امتداداً وتطويراً لمفكرين آخرين سابقين له زمنياً، وفى مقدمتهم أبو الأعلى المودودى: "إن قارئ الخطاب القطبى لا يملك إلا أن يسجل حضور أغلب مفردات النسق المفهومى كما أورده المودودى، بنوع من إعادة الإنتاج الذى يحكمه الموقف الفكرى الراهن لهذا الخطاب، لتقوم بدور جديد فى البنية الأيديولوجية التى اتخذها".

ويضيف الدكتور دياب: "ويلفت النظر إلى أن المودودى– فى حديثه عن الحاكمية والتكفير والجاهلية– قد وقف عند ارتداد المجتمع دون الأمة، أما قطب فيرى أن الأمة قد كفرت بالإسلام، فالأمة الإسلامية قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعًا، لأنها قد أخذت كل مقومات حياتها من الطواغيت، وهو ما يحمل شبهة أن الخطاب القطبى يزكى– وربما من حيث لا يدرى– الأوهام الأيديولوجية نفسها التى تروجها الصهيونية عن أمة يهودية تقوم على حجج دينية"!


وإلى نتيجة مماثلة، يصل الباحث شريف يونس فى كتابه "سيد قطب والأصولية الإسلامية"، فهو يقول: "وفكر المودودى على استقامته، وأضاف إليه، ونفخ فيه من نزعته الرومانتيكية النخبوية، ومن روحه الاستشهادية المعذبة، التى عكست غربته الشاملة الأصلية".


لم يكن سيد قطب- على الرغم من الهالات الدعائية التى يحيطه بها تلاميذه ودراويشه- من العلماء الراسخين المتخصصين فى الفقه، وليس أدل على ذلك من أن التشكيك فى قدراته يصدر عن عالم سلفى فى وزن الدكتور يوسف القرضاوى، الذى يقول ما نصه: "لو أتيح له دراسة الفقه الإسلامى والعيش فى كتبه ومراجعه زمنًا، لغير رأيه، ولكن تخصصه ولون ثقافته لم يتح له هذه الفرصة، وبخاصة أن مراجع الفقه بطريقتها وأسلوبها لا تلائم ذوقه الفنى الرفيع".

قد يكون صحيحًا أن سيد قطب ليس فقهيًا متخصصًا، لكنه قدم مجموعة خطيرة من الأفكار التى ألهمت شباب الإخوان خلال مرحلة تاريخية سابقة، وأسهمت فى صياغة وصناعة اتجاهات جديدة أكثر تطرفًا وعنفًا. ولا جدال فى أن كل محاولة لفهم وإدراك خطورة الأفكار القطبية، لابد أن تبدأ باستعراض وتحليل المرتكزات الجوهرية لهذه الأفكار، ومن خلال كتب سيد قطب نفسه.


* الجاهلية والقانون الوضعي*

يشير الدكتور رفعت السعيد، فى كتابه "الإرهاب المتأسلم"، إلى أن الأفكار التكفيرية المتطرفة لسيد قطب، لا تقتصر على ما ورد فى كتابه الشهير: "معالم فى الطريق"، ذلك أن بدايات الفكر متناثرة فى كتاباته الأخرى السابقة.


ويؤكد يوسف القرضاوي المعنى نفسه بقوله: "من قرأ ظلال القرآن لسيد قطب فى طبعته الأولى لم يجد فيه شيئًا يدل على هذه الفكرة: تكفير المسلمين الذى يعيشون فى العالم الإسلامى اليوم، ولكن من قرأ الأجزاء الأخيرة منه التى كتبها وهو فى السجن بعد تغير اتجاهه الفكرى، وكذلك الأجزاء الأولى التى عدلها، وظهر ذلك فى طبعته الثانية وما بعدها، يجد فى هذه الفكرة المحورية تسرى فى الكتاب فى عشرات المواضع، بل فى مئاتها، يذكرها ويؤكدها كلما جاءت مناسبة".


من ذلك، على سبيل المثال، ما نجده فى كتاب "فى ظلال القرآن"؛ حيث يؤكد سيد قطب أن "الجاهلية ليست اسما لمرحلة تاريخية سابقة على الإسلام، بل إنها تنطبق انطباقًا حرفيًا على كل وضع بصرف النظر عن اعتبارات الزمان والمكان، إذا كان الوضع مشابها لتلك المرحلة التاريخية السابقة على الإسلام".

ويقول أيضا: "إن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده، ولو لم يصحبه شرك فى الاعتقاد بألوهيته، ولو قدمت الشعائر التعبدية له وحده".


الإشارات السابقة، وغيرها كثير، لا تنفى أن كتاب "معالم فى الطريق" هو الأكثر قدرة فى التعبير عن المنظومة الفكرية التكفيرية المتكاملة لسيد قطب، ولعل فى التوقف أمام بعض ما ورد فيه، ما يقدم البرهان الساطع والدليل القاطع على طبيعة الأفكار، التى تتكئ على فكرة "الحاكمية" وتنطلق منها، وصولا إلى تكفير المجتمع وأفراده.

يقول سيد قطب: "إن العالم يعيش اليوم فى جاهلية من ناحية الأصل الذى تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها، جاهلية لا تخفف منها هذه التيسيرات الهائلة وهذا الإبداع المادى الفائق. هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله على الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية، وهى الحاكمية. إنها تسند الحاكمية إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أربابًا. لا فى الصورة البدائية الساذجة التى عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن فى صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن الله به، فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله، اعتداء على عباده".

صياغة سيد قطب بالغة الدقة والوضوح، فالتأكيد على جاهلية العالم المعاصر مرتبط عنده بمبدأ الاعتداء على حق إلهى أصيل، وإسناد الحاكمية إلى البشر. ليس من حق الإنسان أن يشرع لنفسه أو يضع القوانين التى تنظم حياته، ولابد من اتباع "منهج الله" دون تدخل.

الحوار مع الفكرة السابقة لابد أن يبدأ بسؤال مشروع عن طبيعة وحدود "منهج الله"، وعن طبيعة القائمين على تنفيذه، ومدى اليقين بأن هؤلاء، فى فهمهم لهذا المنهج، لا يحيدون عنه ولا يسيئون فهمه. ومن ناحية أخرى؛ فإن المفكر الإخوانى لا يميز بين المبدأ والتفاصيل، فالحياة فى سريانها تطرح عديدًا من القضايا والإشكالات الجزئية، وإخضاعها لمنهج الله سيكون اجتهاديًا بالضرورة، يحتمل الاختلاف، فمن الذى يملك الحسم؟!


فى السياق الذى يبشر به سيد قطب، لا يصح الخضوع لغير القوانين الإلهية، ومن هنا تشتد حملاته العنيفة ضد القوانين الوضعية والقائمين على تنفيذها. ولعل من تابعوا مناصرة الإخوان لمطالب القضاة، يحق لهم أن يفكروا فى مصداقية هذا الحماس الصادر عن جماعة، يقول مفكرهم الأكبر: "إن القانون الوضعى لا يستحق السيادة والسمو به، فهذه المنزلة حققها الله بقانونه الذى يجب على الناس اتباعه. إن مدلول الشريعة لا ينحصر فى التشريعات القانونية أو فى أصول الحكم ونظامه، فالشريعة تعنى كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية، وهذا يتمثل فى أصول الاعتقاد وأصول الحكم والأخلاق والسلوك والمعرفة، ويتمثل فى الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية".

لا مشروعية– عند سيد قطب– للعمل بالقانون الوضعى، فهو ينسف المؤسسات القانونية العصرية من جذورها، ويحيل الأمر كله إلى الله، ثم يزيد فى ذلك فيجعل التشريع الإلهى، وفهمه وتنفيذه مردود بالضرورة إلى البشر، هو الأداة الوحيدة لتنظيم الحياة، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.

البشر فى غنى عن قوانين البشر، وليس من سبيل لتحقيق العدالة إلا من خلال الاحتكام إلى القانون الإلهى. المغالطة هنا تكمن فى أن التسليم بعدالة القوانين الإلهية لا يعنى تسليمًا مماثلاً بنزاهة ومثالية من يقومون بفهمها واستلهامها، تمهيدًا لتنفيذها. القانون، إلهيًا كان أم وضعيًا يخضع للأهواء وتحكم المصالح، وغاية ما يسعى إليه الإنسان هو الاقتراب من الكمال. تصدير فكرة القانون الإلهى، مهما تحسن النوايا، يقود إلى قهر لا مهرب منه ولا مفر، فالتمرد على من يسيئون إلى القانون، نظريًا وعمليًا، يتم تفسيره على أنه ضد الله وشرائعه وقوانينه، وهنا تكمن كارثة الدولة الدينية!


* صدام لا وفاق *

الامتداد المنطقى للأفكار السابقة يقود إلى حتمية الصدام واستحالة التعايش، فالمسلم الحقيقى– من المنظور القطبى– لا يملك الحق فى التصالح مع المجتمع الجاهلى والولاء لقيمه. وبنص كلمات سيد قطب: "ليست مهمتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهلى ولا أن ندين له بالولاء، فهو بهذه الصفة الجاهلية غير قابل لأن نصطلح معه. إن أولى الخطوات فى طريقنا هى أن نستعلى على هذا المجتمع الجاهلى وقيمه وتصوراته، وألا نعدل من قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيرًا لنلتقى معه فى منتصف الطريق. كلا، إننا وإياه على مفرق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله، ونفقد الطريق".

لا يترك سيد قطب فرصة للتملص، فالتعايش ليس واردًا أو مطروحًا، والتصالح مستبعد تمامًا ومستحيل. لابد من "الاستعلاء" والتمسك بالقيم المثالية النقية الصحيحة، التى يمثل أى وكل خروج عنها انحرافًا وضلالاً وبداية للضياع. خطوة واحدة من التنازل تقود إلى الهاوية، وبمثل هذه الحدة يتحول الصدام إلى قدر لا فكاك منه، ولا شك أن هذا الصدام ليس نظريًا فحسب، فمن البدهى والمنطقى أن يتحول إلى فعل عنيف للإطاحة بالمجتمع الجاهلى وتغييره!

لونان لا ثالث لهما ولا توسط بينهما عند سيد قطب: الأبيض والأسود، وبغياب المناطق الرمادية، التى يستقر فيها السواد الأعظم من البشر، يندفع المفكر الإخوانى إلى أتون المعركة رافعًا راية الاستشهاد فداء للعقيدة، فى تطرف لا يخلو من الرومانسية، وتشنج يجمع بين السذاجة والحماقة. إنه يضيق الدائرة على نفسه، ويطرح سؤالاً لا ينتظر عليه إلا إجابة واحدة: هل أنت مسلم أم لست مسلمًا؟!

يلح سيد قطب فى التأكيد على أن الاختيار محصور بين "الإسلام" و"الكفر"، فإما أن تكون مسلمًا رافضًا لمجمل الأوضاع الجاهلية السائدة، وإما أن تخضع للمجتمع الجاهلى وقيمه الكافرة: "إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية، لا من ناحية التصور ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة عن هذا التصور، فإما إسلام وإما جاهلية"!

بالرفض القاطع لفكرة أنصاف الحلول، يتم الإعلان رسميًا عن قيام حرب لا هوادة فيها، ويتم الإعلاء من شأن الجهاد الدائم ضد الأوضاع الجاهلية وما ينبثق عنها. صحيح أن توقيت خوض الحرب رهين بعديد من الأوضاع المعقدة المتشابكة، الخاضعة لموازين القوى المادية، لكن المبدأ نفسه محسوم، ولا تراجع عنه، ولا تفكير فى عواقبه على المستويين الفردى والجمعى!

الهدف من الحرب هو استعادة الإسلام المهدد بالضياع، والأعداء ليسوا هم غير المسلمين، لكنهم من "يتصورون" أنهم مسلمون على الرغم من انغماسهم فى إيقاع الحياة الجاهلية، ومن "يعتقدون" أن التعايش ممكن.


يشن سيد قطب هجومًا جارفًا ضد هؤلاء المذبذبين المتخاذلين المترددين: "والمسألة فى حقيقتها هى مسألة كفر وإيمان، مسألة شرك وتوحيد، مسألة جاهلية وإسلام، وهذا ما ينبغى أن يكون واضحًا. إن الناس ليسوا مسلمين كما يدعون وهم يحيون حياة الجاهلية، وإذا كان فيهم من يحب أن يخدع نفسه أو يخدع الآخرين، فيعتقد أن الإسلام يمكن أن يستقيم مع هذه الجاهلية، فله ذلك، ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئا. فليس هذا إسلاما، وليس هؤلاء مسلمين. والدعوة اليوم إنما ترد هؤلاء الجاهلين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد".

الثنائيات التى يطرحها سيد قطب بمثابة المصادرة النهائية لكل مبادرة تسعى إلى منع اندلاع الحرب، فلابد من المواجهة بين معسكرين لا أمل فى التوافق بينهما: الكفر والشرك والجاهلية فى جانب والإيمان والتوحيد والإسلام فى الجانب الآخر! ولأن اللوحة مغلقة، فإن النتيجة المتوقعة هى سلب المسلمين العاديين إسلامهم، وهؤلاء العاديون هم من يوقنون أن الحياة الإنسانية مزيج من الخير والشر، وأن وجود الشرك والكفر لا يعنى بالضرورة تهديد إيمانهم وإسلامهم. بفطرتهم يصلون إلى المعادلة الصحيحة، وبتشنجه المتشكل من عناصر ذاتية وعوامل موضوعية، يحاصرهم سيد قطب بمنطق زائف متهافت. هؤلاء "المتوهمون" بأنهم مسلمون، من منظور سيد قطب، هم الأغلبية الساحقة التى يخشاها المفكر الإخوانى، ويتراوح موقفه تجاههم بين الطموح فى تجنيدهم لخوض الحرب معه، واليأس منهم فيشن الحرب عليهم! هم وقود الحرب وضحايا الصراع الحتمى، بلا أمل فى النجاة، وهم المأمورون بالمنطق القطبى أن يشهروا إسلامهم من جديد!


 

* حزبان متعارضان *

الكفر ملة واحدة، وكل الخارجين عن المدرسة القطبية هم، مع تعدد أحزابهم وتوجهاتهم ودوافعهم، يمثلون حزبا واحدا يقوده الشيطان، ويعمل فى خدمة الطاغوت! وبالمنطق نفسه، ينقسم العالم إلى دارين: دار إسلام وسلام حيث تحكم الشريعة ويسود القانون الإلهى، ودار حرب تضم ما عدا ذلك. لا انسجام أو تعايش بين هاتين الدارين، وغاية ما يمكن الوصول إليه هو الهدنة المؤقتة فى انتظار اندلاع الحرب!

يقول سيد قطب: "إن هناك حزبًا واحدًا لله لا يتعدد، وأحزابًا أخرى كلها للشيطان والطاغوت. هناك دار واحدة هى دار الإسلام التى تقوم فيها الدولة المسلمة فتهيمن عليها شريعة الله وتقام فيها حدوده، ويتولى فيها المسلمون بعضهم بعضا. وما عداها دار الحرب، علاقة المسلم بها إما القتال أو المهادنة على عهد أمان، ولكنها ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين".

الحياة إذن بمثابة حرب دائمة لا تنتهى، والإسلام عند سيد قطب هو دين الجهاد بلا توقف، ذلك أن النهاية الوحيدة فى تحول العالم كله إلى دار الإسلام!

هل من اختلاف بين ما يقوله سيد قطب، وما يقوله وينفذه أسامة بن لادن وأيمن الظواهرى؟! القطبيون والقاعديون يرفعون شعارات الجهاد، ويحاربون تحت راية الإسلام، وطموحهم المعلن هو تحرير العالم من عبودية الجاهلية!

يعتقد سيد قطب أنه الوحيد الذى يدرك أبعاد العقيدة الإسلامية، ولذلك يمنح نفسه حق الحديث باسم الإسلام والجزم بما يأمر به الدين وينهى عنه: "والذى يدرك طبيعة هذا الدين يدرك حتمية الانطلاق الحركى للإسلام فى صورة الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان".

أهى مصادفة أن يكون الجهاد بالسيف مقدمًا عن الجهاد بالكلمة؟! إذا لم يقتنع قارئو سيد قطب بالأفكار، فلابد من إجبارهم على الاقتناع!


الفكرة المحورية، التى ينطلق منها سيد قطب، تتمثل فى غياب "منهج الله" عن عالمنا المعاصر، ولهذا فإنه محكوم بقيم وأخلاق وقوانين الجاهلية، ومهيأ لاستقبال واستيعاب الدعوة الإسلامية الصحيحة النقية، التى تعيد تنظيم مفرداته، وتعود به إلى السبيل القديم. مثل هذه العودة المأمولة، لا تستقيم مع القوانين الوضعية التى سنها البشر، وانتزعوا من خلالها حقًا إلهيًا أصيلاً لا ينبغى لأحد أن ينازع فيها، ومن هنا رفضه الصارم لجميع الإطارات والمؤسسات العصرية الحديثة، التى تشكلت عبر تراكم الاجتهادات البشرية على مر العصور. الأمر عنده ليس خللا يمكن إصلاحه دون صدام، فالتباين من الحدة والوضوح بحيث ينسف كل جسور التعايش والحوار. الثورة على الأوضاع القائمة خيار وحيد، وعلى المسلم الحقيقى أن يعلن عن موقف لا يحتمل التردد: الانتماء إلى الإسلام الخاص، أو الرضا بالجاهلية الكاملة!

وفى هذا السياق، ينقسم العالم إلى حزبين: حزب الله وحزب الشيطان، والذين "يتوهمون" أنهم مسلمون، على الرغم من تفريطهم فى مبدأ حاكمية الله، ليسوا مسلمين عند سيد قطب، وهم فى حاجة إلى إشهار إسلامهم من جديد، والتسليم بالحق الإلهى المطلق دون منازعة أو مشاركة بشرية. وبهذا التوجه وحده يمكن أن يكونوا من حزب الله، وإن لم يرضخوا فهم من حزب الشيطان وأنصار الطاغوت!

الأمر عند سيد قطب ليس صراعا فكريا وسجالا نظريا، فلابد من إعلان الحرب والتغيير بالقوة!

القطبيون وحدهم من يفهمون الإسلام على وجهه الصحيح، ومن هذا المنطلق فإنهم مطالبون بنشر دعوتهم وتصحيح عقيدة "الجاهلين" من المسلمين الشكليين. الجماعة المسلمة، التى يدعو إليها سيد قطب، هى الطليعة والقدوة، ومهمتها ليست نظرية دعوية وعظية، فالانتصار لله وشريعته وتعاليمه، فى مواجهة الشيطان وضلالاته، لابد أن يتسلح بكل ما يتاح من وسائل القوة. التنظيم هو البداية، ومهام التنظيم يحددها قطب فى قوله: "إن الانطلاق بالمذهب الإلهى تقوم فى وجهه عقبات مادية من سلطات الدولة ونظام المجتمع وأوضاع البيئة. وحين توجد هذه العقبات والمؤثرات المادية، فلابد من إزالتها أولا بالقوة"!

الدولة العصرية التى لا تحكم بما أنزل الله، من خلال مؤسساتها وأجهزتها المختلفة، عائق لابد من "إزالته"، والمجتمع الإنسانى الخاضع لسلطة الدولة، بقيمه وأخلاقه الجاهلية، عائق آخر لا مهرب من تغييره وإجباره على الرضوخ للأفكار القطبية، على اعتبار أنها الفهم الوحيد الصحيح لمبادئ وتعاليم الإسلام.