الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

نجيب محفوظ في الذكرى الثامنة لرحيله .. لا يزيده الغياب إلا حضورا !

نجيب محفوظ في الذكرى
نجيب محفوظ في الذكرى الثامنة لرحيله
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نجيب محفوظ الذي قضي يوم الثلاثين من أغسطس عام 2006 هو النموذج المكتمل للمثقف الوطني المصري بلا ادعاءات او مزايدات وهو على وجه اليقين اكبر وأكثر من مجرد أديب كبير فاز بجائزة نوبل على أهمية الجائزة التي يتقاتل الكثير من مشاهير الكتابة في العالم لاقتناصها.
ولعل نجيب محفوظ يقدم الإجابة لكل من يريد أن يعيش مرفوع الرأس وبكبرياء الثقة في الذات والتواضع معا دون اصطناع او افتعال وانما بسلاسة القدرة المصرية الفذة على "التعاشق" والجمع مابين الشاعرية والواقعية في سبيكة إنسانية ثرية بكل ما ينفع الناس ويمكث في الأرض الطيبة.
ومن هنا فإنه وقبل ساعات معدودة من حلول الذكرى الثامنة لوفاته فان الاحتفال لابد وان يكون بالحضور وليس بالغياب..فهذا "النجيب المحفوظ" بحجمه وقيمته وقامته ومنجزه الابداعي الشاهق لا يزيده الموت إلا توهجا في الذاكرة الثقافية المصرية ولن يزيده الغياب سوى المزيد من الحضور في وعي أجيال تلو أجيال من المصريين وضمير بلاده ووجدان أمته.
من الذي خط ملامح الشخصية المصرية في الرواية ورسم تفاصيلها المدهشة وظلالها الدالة بكل عبقرية الكاتب وحساسية المبدع وطاقته المذهلة على المغامرة البناءة والتجاوز والتخطي غير قلم نجيب محفوظ ؟!.من يجلس حتى الآن في صدر موكب المبدعين من المحيط الى الخليج غير نجيب محفوظ؟!..ومن حمل بين أضلاعه حبا وتعاطفا مع الإنسان في كل مكان اكثر من نجيب محفوظ؟!.
وهو صاحب اللغة المشغولة بهموم الأرض والإنسان والمعجونة بطمي النيل وتراب الوطن الذي كان لا يطيق فراقه وكاتب الكلمة التي هي ثمرة طرحتها شجرة الأرض المصرية الطيبة ومراتع الطفولة والصبا وأطايب وقطوف الذاكرة فيما يبقى مفهومه للزمن موضع دراسات عميقة لكتاب ونقاد كبار مثل الدكتورة لطيفة الزيات .
ثم انه عكف بصبر على مساءلة الذات المصرية من اجل البناء لا الهدم ومن أجل الغد لا الأمس ومن منطلق انحيازه الأكبر للصابرين في ارض الكنانة وتنديده بأعداء العدالة الاجتماعية والتي تعبر عنها سخريته المريرة :"ما أجمل أن ينصحنا الأغنياء بالفقر"!.
وفي احتدامات الجدل التي تندلع من حين لآخر حول الهوية المصرية او يشعلها البعض لأغراض ومآرب سياسية وأطماع سلطوية يمكن للباحث عن الحقيقة أن يجد الإجابة عند نجيب محفوظ وفي رواياته وقصصه التي تقول ببساطة وعمق معا ان هوية مصر هي "مصر" ذاتها اقدم دولة في تاريخ الإنسانية وهي طبقات حضارية بعضها فوق بعض في تفاعل خلاق ومن ثم فان أي محاولة لتفكيك الهوية المصرية أو اختزالها في مستوى او لون واحد محكوم عليها بالفشل.
وإذا كانت مراكز الأبحاث في الغرب تسعى دوما "لفك شفرة الجينات الحضارية المصرية" واستكشاف وفهم ما يمكن وصفه "بالمياه الجوفية وآبار الغضب" لهذا الثورى المجهول الذى يعبر فى الواقع عن هوية السواد الأعظم من شعب مصر والذى أخذ بثورته في موجتي 25 يناير-30 يونيو الكثير من المنتمين للنخب على غرة فان تلك المراكز تعلم بحق ان الأدب خير معبر عن الهوية.
ومن هنا أيضا يعود بعض الباحثين فى الغرب الى عيون الأدب المصرى والأقلام المعبرة عن وجدان مصر وضمير شعبها الذي يدرك الفارق بين التسامح والتفريط وخاصة الأديب الراحل نجيب محفوظ صاحب المقولة الاستشرافية في أصداء السيرة الذاتية التى اكد فيها على لسان "الشيخ عبد ربه التائه" ان الأحوال تنصلح عندما يؤمن الناس بأن "عاقبة الجبن اوخم من عاقبة السلامة".
فنجيب محفوظ بقدر ما يعبر في كتاباته الابداعية عن هوية مصر بقدر ما يجسد مقولة ان هوية المجتمع هي خلاصة عبقريته وذكائه الجمعي المستقى من سماته النفسية وتاريخه وقيمه وعقيدته وتصوراته وتجربته الحياتية بكل ما تنطوي عليه من قدرة على الاستيعاب والاستبعاد وإمكانية في التواصل مع التجارب الأخري والتفاعل معها بمختلف الصور والأشكال.
وفي هذا السياق يصح كذلك قول الشاعر احمد عبد المعطي حجازي بأن معرفة نجيب محفوظ شرط ضروري ضروري لابد منه لمن أراد أن يعرف القاهرة معرفة افضل مضيفا أن "المعرفة الأفضل" هنا "سر أو مزاج خاص ربما كان عصيا على التعريف" كالسؤال عن الروح.
ومن هنا لا عجب أن تحتل إبداعات نجيب محفوظ حتى اليوم رأس قائمة الروايات التي ترشحها الصحافة الغربية لقرائها عن مصر والمصريين وعاصمتهم الخالدة القاهرة فيما ظهرت مؤخرا ترجمة انجليزية لرواية محفوظ القصيرة "الباقي من الزمن ساعة" وقد انجز هذه الترجمة روجر آلان أستاذ الأدب العربي بجامعة بنسلفانيا الأمريكية والذي سبق وان ترجم "لنجيب الرواية المصرية" المرايا والكرنك والسمان والخريف وخان الخليلي.
أن تكون قاهريا كما كان نجيب محفوظ الذي ولد يوم الحادي عشر من ديسمبر عام 1911 في قلب قاهرة المعز بالقرب من قصر الشوق وبين القصرين "نسب لايعبر عن نفسه بإشارة او لهجة او زي او علامة خاصة وإنما يعبر عن نفسه بالشخصية كلها, باللمحة والقافية والبديهة السريعة واللفتة الذكية والضحكة الطروب التي ينفعل بها الجسد فكأنما يرقص على إيقاع نراه وان كنا لا نسمعه أو نسمعه بأبصارنا" كما يقول بعض النقاد.
ولعل معنى الانفتاح الثقافي لجيل نجيب محفوظ يتبدى في قوله :"نحن في جيلنا نشأنا وقرأنا في كل الآداب سواء بالعربية او بالانجليزية..قرأنا كل الألوان والأشكال التي لا تخطر ببال..قرأنا في محاولة لايجاد صيغة جديدة تستوعب الأفكار التي تسيطر على العالم كله".
ويوضح محفوظ المعنى الحقيقي والإيجابي للعولمة قبل سنوات من ظهور وانتشار هذا المصطلح بظلاله السياسية غير البريئة فيقول :"العالم كله وحدة واحدة والظروف تتشابه الى حد كبير..غيرنا عثروا على شكل او أشكال تعبر عن قضايا العصر وقد تأثرنا بهم لأن أفكارنا مستمدة من نفس هذا العصر مع اختلاف محدود".
ورأت الكاتبة والناقدة الدكتورة لطيفة الزيات ان للفيلسوف الألماني الشهير هيجل بأفكاره ومنظوره تأثيره الواضح كمصدر فلسفي تأثر به نجيب محفوظ في رؤيته لوحدة الكون ولمنظور الشخصية الروائية في عالمه الروائي و القصصي الرحيب.
ويتجلى معنى إلهامه للأجيال اللاحقة من الروائيين فيما قاله الكاتب الراحل صالح مرسي والشهير بإبداعاته في دنيا البحر والصيادين وعالم الجاسوسية وخاصة رائعته "الصعود الى الهاوية" ان رواية "بداية ونهاية" لنجيب محفوظ كانت وراء تركه العمل بالبحر واشتغاله بالكتابة.
ويقول الأديب سليمان فياض مسترجعا بدايات تجربته المديدة في عالم القصة :"ماكان يشغلني هو تعلم الأدب القصصي الواقعي والذي وقفت على ضروبه من اساتذتي نجيب محفوظ ويحيي حقي ويوسف ادريس وقد حرصت على قراءة أعمالهم كاملة على مدار عشر سنوات وتلك المدة هي التي اهلتني لكتابة أول رواية على الطريق الجديد للأدب الواقعي وهي رواية امرأة وحيدة".
وعن الكتابة واجتهاداته في النقد الأدبي يقول الدكتور يحيي الرخاوي :"احب ان اسميها القراءة بالقلم وقد بدأتها حين لفت نظري نجيب محفوظ وهو يكتب في الأهرام رائعته الشحاذ" موضحا انه انبهر من دقة وصف محفوظ لمرض الاكتئاب النفسي حتى خشى ان يكون قد الم به طائف من الاكتئاب "اذ تراءى لي انه لا يستطيع ان يصل الى عمق هذا الوصف ودقته إلا من عاش هذه الخبرة حتى النخاع".
ولئن كانت الطبقة الوسطى قد مثلت معينا لا ينضب لإبداعات الأديب النوبلي المصري نجيب محفوظ وصاحب "القاهرة 30" فان هرم الرواية المصرية والعربية لم يتردد يوما في الانحياز لقضايا حرية الوطن والمواطن والسخرية والتنديد عبر إبداعاته بسارقي أحلام المصريين وأشواقهم الأبدية للعدل والحرية.
وفي كتابه "تبادل الأقنعة..دراسة في سيكولوجية النقد" يتوقف الدكتور يحيي الرخاوي ليتأمل مليا تناول نجيب محفوظ في ملحمته "الحرافيش" لقضية الخلود وكان هذا الكاتب الذي يعد من مشاهير الطب النفسي في مصر قد اصدر من قبل عملا بعنوان "الايقاع الحيوي ودورات الحياة في ملحمة الحرافيش".
ويحيي الرخاوي صاحب مقولة دالة عن نجيب الرواية المصرية وصاحب رائعة "ليالي الف ليلة" هي :"خذ من محفوظ ما شئت لما شئت" فيما لم يخف انه يحلم بمشروع نقدي يجمع ما بين محورين الأول هو قراءة نجيب محفوظ قراءة شاملة وخاصة فيما يتعلق برؤيته الممتدة عبر الأجيال في "الحرافيش" بينما المحور الثاني :إعادة قراءة الروائي الروسي العملاق ديستوفيسكي في ضوء المعطيات المعرفية الجديدة عن النفس.
ولن تخفى على قاريء "الثلاثية" الأشهر في الأدب العربي دلالة اختيار نجيب محفوظ بدء هذا الصرح الروائي بالأم المصرية "أمينة" ولمسة النهاية بين رقاد الأم الطيبة بالموت وبين الميلاد الجديد للطفلة الوليدة "أمينة" لتستمر دورة الحياة على الأرض المصرية الطيبة.
صاحب الوجه الحبيب والاسم النجيب والأكبر من كل المراثي والمدائح : ستبقى هاديا لكل من يبحث عن الطريق وسط ركام التيه ..ايها الموت يامن وصفك محفوظ يوما ما "بالفتوة الكبير" :نجيب محفوظ لم يزل هنا في القلب ولايزيده الغياب الا حضورا..حاضرا بكل التوهج وصيرورة الكلمة المخلصة في قلب الوطن لأنه قبس من روح مصر التي لن تموت و"حالة مصرية بامتياز" ولأنه جسد قيمة الإخلاص كما هو الإخلاص في الإبداع والحياة .
فتحية تتجدد دوما كصيرورة الإبداع لسيد الإبداع المصري والعربي..تحية لنجيب محفوظ الخالد في أعماق مصر الخالدة..وسلام على من قال :"اذا لم يكن للحياة معنى فلم لا نخلق لها معنى"؟!.