الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

سميح القاسم.. عمود القصيدة المقاومة "كما يشتهي الشعر"!

الشاعر سميح القاسم
الشاعر سميح القاسم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فيما تستأنف اسرائيل عدوانها الوحشي على سكان قطاع غزة تبقى قصائد سميح القاسم زادا لمقاومة الاحتلال ورفض الهزيمة.. فالشاعر الفلسطيني الذي لن يغيبه الموت في الذاكرة الفلسطينية والعربية كان بحق "عمود القصيدة المقاومة" وأحد كبار المغامرين العظام في سماء الإبداع الشعري العربي "كما يشتهي الشعر"، وكما يشتهي كل مقاوم حتى النهاية دفاعا عن الأهل والأرض.
وللشاعر سميح القاسم عدد كبير من المجموعات الشعرية التي بدأ رحلة اصدارها عام 1958 بكتاب "مواكب الشمس" ليتوالى بعد ذلك صدور تلك المجموعات بوتيرة سريعة وبعناوين لافتة مثل "أغاني الدروب"، و"دمي على كفي"، و"دخان البراكين"، و"سقوط الأقنعة"، و"يكون أن يأتي طائر الرعد"، و"رحلة السراديب الموحشة"، و"طلب انتساب للحزب"، و"الموت الكبير".
لم يخش سميح القاسم الموت بل كان يواجهه شأن المبدعين الكبار بالسخرية المريرة تماما كسخريته من الاحتلال والظلم في سبيكة انسانية يتواصل فيها السياسي بالوجداني، كما يتواصل الشعر والنثر والجرح والأمل قابضا أبدا على جمرة الصدق.
ومع أن سميح القاسم اكد دائما على "الجذر القومي" لمشروعه الشعري وهو تأكيد له شواهده الكثيرة في ديوان الشاعر، إلا أن "خصوصيته الفلسطينية" تجاوزت حدود الملامح المرسومة له كأحد رموز لوحة المقاومة الشعرية في فلسطين لتصبح "القصيدة المقاومة ذات الملامح الانسانية العامة".
وسميح القاسم صاحب "جهات الروح" الذي ولد عام 1939 في مدينة الزرقاء الأردنية لأسرة فلسطينية عادت إلى فلسطين وبقى ذلك "الشاعر الحالم بفلسطين الحرة والمستقلة"، وهو يعيش على ارضها ويواجه تلك الاشكالية التي عانى تبعاتها كل من تمسك بأرضه وبقى فيها بعد سيطرة الاحتلال الاسرائيلي.
تقول دفاتر العائلة التي احتفظ سميح القاسم بتفاصيلها دائما اعتزازا بدلالتها المعنوية وتوثيقا لهذه الدلالة أن رب الأسرة الفلسطينية كان يعمل ضابطا في قوة حدود شرق الأردن وكانت أسرته الصغيرة تقيم معه لكن الجميع اضطر للعودة الى فلسطين تحت وطأة الظروف غير الطبيعية التي كانت تعصف بالمنطقة العربية ابان الحرب العالمية الثانية وتداعياتها.
وفي طريق العودة المتكتمة لتلك الأسرة عبر القطار بكى الطفل الصغير فشعر جميع الركاب بالخوف خشية أن تهتدي اليهم القوات المتحاربة وتمنعهم من السفر كما كان يحدث عادة في ذلك الوقت ، فحاول الركاب إسكات الطفل الصغير ولو بالقوة مما اضطر والده الى إشهار سلاحه الشخصي دفاعا عن صغيره.
وكبر الطفل الصغير ليعرف تفاصيل الحكاية القديمة ويستعيد ذكرياتها البعيدة ليؤكد لنفسه قبل ان يؤكد للجميع درسه الأول المستخلص من وجوده الفلسطيني قائلا: "حسنا لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة لكني سأتكلم متى أشاء وفي اي وقت وبأعلى صوت ولن يقوى أحد على اسكاتي".

بقى سميح القاسم صاحب "احبك كما يشتهي الموت" محافظا على وعده دائما وفي سبيل ذلك اعتقل مرات كثيرة وسجن ووضع رهن الاقامة الجبرية من قبل قوات الاحتلال الاسرائيلي ، لكن قصائده ظلت صامدة في وجه الأعداء ومتنامية في حديقة الشعر العربي بشكل أصيل وجميل.
إنه القائل بكل التحدي المقاوم لجحافل الاحتلال التي تصب من جديد جحيم نارها على غزة: "تقدموا.. تقدموا.. كل سماء فوقكم جهنم.. وكل ارض تحتكم جهنم.. تقدموا.. يموت منا الشيخ والطفل ولا يستسلم.. وتسقط الأم على إبنائها القتلى ولا تستسلم".
ومن ثم حق ليحيي يخلف وزير الثقافة الفلسطيني السابق ان يصف سميح القاسم بأنه "شاعر فلسطين وتاريخها ومقاومتها وكرامتها وعنفوانها وألقها"، فيما ترجمت العديد من قصائده لكثير من لغات العالم كأحد كبار شعراء المقاومة في الدنيا كلها.
تعلم سميح القاسم في مدارس الناصرة وما أن أتم تعليمه حتى عمل مدرسا، لكنه سرعان ما ترك التدريس وانضم الى الحزب الشيوعي الاسرائيلي لفترة ليعمل في الصحافة محررا في عدة مطبوعات، كما أسهم في تأسيس عدة صحف ومجلات من بينها صحيفة "كل العرب"، فيما استمر في العمل الصحفي الى ان تفرغ اخيرا للشعر عشقه الأبدي.
وعلى الرغم من أن سميح القاسم احد اهم أعمدة القصيدة المقاومة وخاصة في فترات احتدام النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، فإن ذلك لم يسلم قصيدته للتقليدية او المباشرة ، فقد ظل عاشقا للمغامرة الابداعية وممارسا للتجريب الشعري الذي تعامل معه باقتدار فني يعتمد على حرفية عالية تصاعدت على مدى اكثر من 50 كتابا هي حصيلة الشاعر السخي في اصداراته الشعرية وغير الشعرية.
وللشاعر الكبير عدد من الأعمال المسرحية والحكايات والكتب النثرية والبحثية، فيما تبقى رسائله المتبادلة مع صديقه في الشعر والنضال والحياة الشاعر الراحل محمود درويش احد اجمل مشاريعهما الابداعية.
وفي خضم مغامراته التجريبية ابتكر سميح القاسم شكلا شعريا يعتمد على المطولات أسماه "السربيات"، وبدأ ذلك المشروع بسربية "ارم" التي صار شكلها العام مدمكا من مداميكه الشعرية وهو في سربياته تلك يتداعى بشكل حر وتصاعدي دون ان يهتم كثيرا بوحدة في الشكل وانما يحاول الاستفادة من كل ما يجده في طريقه الابداعي من حالات واشكال وصور ومعطيات فنية وموسيقية.

وظلت فلسطين نجمته المضيئة في سماء عالم زاخر بالمظلومية في اشكال والوان متعددة، ومن ثم فكثيرا ما كان يستعين بحكمة التاريخ وحكاياته واساطيره ليكون اكثر قدرة على التعامل مع حقائق الجغرافيا المؤلمة واكثر قوة في مواجهة الواقع المريب واكثر امكانية على الحلم بالمستقبل الفلسطيني أو ربما خلق هذا المستقبل ولو عبر قصيدة موشاة بالأمل والموسيقى وحدهما كما تقول سعدية مفرح في كتابها "وجع الذاكرة".
في مواجهة احزان النكبة كان سميح القاسم يضمد جبين شعبه المقاوم بالقصيدة "صارخا في وجه الأحزان القديمة" ومبشرا بانحسار الليل عن وجه الوطن ومغنيا للسلام العادل ومستشرفا الأفق الفسيح، فإذا به "يكتب الشعر بشظية ويغني للسلام".
وبعد اكثر من 66 عاما على النكبة الفلسطينية مازال البعض يقول ان ثقافة النكبة مازالت حاضرة، فيما ثقافة المقاومة الحقة وحرية التفكير محاصرة والحساب غائب وان توالت الكتب والكتابات حتى في الغرب عما حدث ويحدث ومن بينها كتاب لافت عن تنظيم شتيرن الارهابي.
ففي كتاب جديد صدر بالانجليزية بعنوان "الحساب" يقول المؤلف البريطاني باتريك بيشوب: "في التاريخ الفلسطيني المثير للجدل دوما ثمة مكان خاص يحتله ابراهام شتيرن الذي خلع اسمه على تنظيمه"، فيما نجح بيشوب في احياء مرحلة خطيرة في تاريخ النكبة الفلسطينية بصنع دراما جديدة بوقائع محققة لهذه المرحلة تمحورت حول شخصية زعيم تنظيم شتيرن الارهابي في مواجهة مفتش شرطة الانتداب البريطاني جيوفري مورتون.
وواقع الحال أن ثقافة سميح القاسم الانسانية المقاومة تشكل النقيض الموضوعي لثقافة شتيرن الارهابية ، فيما كان الشاعر العربي الكبير يجيد العبرية ليحارب بها ثقافة الارهاب التي انتجت تنظيما مثل "تنظيم شتيرن" ليقوم بعمليات ارهابية عدة حتى ضد القوات البريطانية ناهيك عن اغتيال الوسيط الدولي الكونت برنادوت والوزير البريطاني اللورد موين كما كان ضالعا في مذبحة دير ياسين عام 1948 التي دخلت ضمن ما يصفه سميح القاسم ب"باب الليل للمنفى الكبير".
وهذه المذبحة كما يستعيدها الكتاب الجديد افضت لخروج مئات الآلاف من الفلسطينيين من ديارهم وتحولهم الى لاجئين في مأساة كانت "عين النكبة"، بينما اسم "شتيرن" مازال يلهم المتطرفين في اسرائيل ويشكل لهم جزءا من ذاكرة عزيزة عليهم بقدر ما هي معادية لأصحاب الأرض.
وكصوت فلسطيني أصيل لأصحاب الأرض لم يتخل سميح القاسم عن الأمل، وها هو يقول في قصيدته "رسالة من المعتقل": "لابد ان يزورني النهار.. وينحني السجان في انبهار.. ويرتمي.. ويرتمي معتقلي.. مهدما.. لهيبة النهار".

رأى سميح القاسم انه ليس للفلسطيني أن يتحول الى لاجيء في بلاده او مواطن من الدرجة الثانية وليس له الا أن يناضل ويسعى لتأسيس افق مقاوم جديد في مواجهة احتلال استيطاني يعمد للتفاوض من اجل كسب الوقت حتى يستكمل مشروعه الاستيطاني وهو مشروع عسكري وليس مجرد مشروع اسكاني.
وامتلك الشاعر المثقف سميح القاسم فهما عميقا للمعنى الذي تقوم عليه اسرائيل تاريخيا وثقافيا وعقائديا ، فهي وان كانت لا تزال دولة مغتصبة وعدوانية تحظى بدعم الغرب، فإنه من الصحيح ايضا القول بأن هذا الوصف الخارجي لا يقدم معرفة كاملة.
ادرك بروحه الشاعرة وعقله الجدلي أن جوهر المشكلة يكمن في ثقافة اسرائيلية تؤمن بأن هجومهم على اعدائهم هو "هجوم الهي من دولة تجسد ارادة السماء على الأرض" ، وبصورة تفسر الكثير من الجرائم الدموية والوحشية الاسرائيلية منذ النكبة الأولى في فلسطين.
ولعل خطورة هذا النوع من الثقافة انه لا يجعل مسألة الاعتقاد بهذا الاختيار الالهي مجرد ايمان خالص ينحصر بين الانسان وخالقه وهو ما يمكن تفهمه وقبوله في سياق حق الانسان في الايمان الحر وانما الأمر يتعدى ذلك كله ويتخطاه الى العمل والممارسة فتبنى عليه دولة ويؤسس باسمه جيش ونظام وتبنى علاقات غير طبيعية بين الثقافات.
وكما قيل بحق فإن بعض القضايا تبدو على السطح وكأنها قضايا سياسية فقط ولكن التعمق فيها يكشف عن انها فى الحقيقة قضايا ثقافية ترتبط بجوهر النظرة للعالم والوجود.. فثقافة الاستعلاء الدموى والابادة والاقتلاع حاضرة بقوة ودموية فى فلسطين كما هى حاضرة فى الغضب المقاوم والثقافة المناوئة للمظلومية التاريخية كما يجسدها سميح القاسم.
فثقافة الاستعلاء الدموى التى ابادت الهنود الحمر واسقطت ملايين الضحايا للحروب الاستعمارية فى آسيا وافريقيا وأشعلت حربين عالميتين فى القرن المنصرم ، هى ذاتها الثقافة التى تؤازر من منطلقات ايديولوجية ونفسية وعوامل مصلحية الاحتلال الاسرائيلى للأرض العربية الفلسطينية وتهويدها.
وفى ظل افكار كهذه قد يكون من قبيل التفاؤل المفرط الحديث عن احترام التعددية الثقافية والجوهر الانسانى للانسان أينما كان بقدر ما تثير تساؤلات مريرة حول تجاهل النموذج الثقافى الأحادى المهيمن على توجهات وسائل اعلام وصحف غربية وخاصة في الولايات المتحدة التي تتشدق بالتعددية واحترام حقوق الانسان لحقائق وتفاصيل النكبة الفلسطينية أو عدم نشرها بالصورة التى تعادل جسامة الحدث وفداحة الألم.
واذا كان سميح القاسم من اعظم الشعراء الذين جسدوا ذاكرة الألم الفلسطيني، فهو ايضا المبدع الكبير للقصيدة المقاومة، ولعل كلماته الشاعرة تجسد الآن مشاعر المقاومين لغطرسة الظلم وحقد العدوان: "تقدموا بناقلات جندكم وراجمات حقدكم.. وهددوا وشردوا ويتموا وهدموا.. لن تكسروا أعماقنا.. لن تهزموا أشواقنا".
ولأنه باق ابدا بابداعه المقاوم في الذاكرة العربية بل والانسانية كلها، فلن نقول وداعا لسميح القاسم.. لن نقول وداعا لمن قال:"أماه كم يحزنني أنك من اجلي في ليل من العذاب.. تبكين في صمت متى يعود"؟!.. سلام على من قال:"ارفعي عينيك.. احزان الهزيمة غيمة تنثرها هبة الريح.. ارفعي عينيك فالأم الرحيمة لم تزل تنجب والأفق فسيح".