الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

هؤلاء.. هيج وهاموند!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أجد فى نفسى ميلا كبيرا إلى تحليل استقالة وليم هيج وزير الخارجية البريطانى فى 15 يوليو الفائت، وتعيين فيليب هاموند (الذى كان وزيرا للدفاع) مكانه فى اليوم التالى، ضمن حركة تغييرات كبيرة فى مجلس الوزراء شملت 12 وزيرا بينهم كينيث كلارك البلدوزر الشهير والكادر المحافظ العتيد، توطئة للدفع بعدد من الوزيرات (حوالى ستة)، والوزراء الشباب كذلك، وتجهيز جسم الحزب لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة بعد عشرة شهور (مايو 2015).. وأردد – دوما – فى كتاباتى وشروحى عن الشئون الخارجية أن المقارنة لا تكون إلا بين وحدات متكافئة، وأن محاولة إسقاط الواقع السياسى البريطانى على ما يحدث فى السياسات الداخلية المصرية أو العكس، تظل تعبيرا عن رغبة خرقاء وعسفية تستدعى عددا من الظواهر والأحداث، وتحاول تعميمها على بلدين أو أكثر لا تساوق بينهم، على مستوى مرحلة النمو الاقتصادي – الاجتماعي فى كل دولة، أو التعبيرات السياسية عنها.. ولكننى سأعمد (مخالفا ذلك القانون) إلى المقارنة بين بريطانيا ومصر فى نقاط بعينها أراها فى صلب أصول العمل السياسى، أو منطق صوغ السياسة الداخلية فى عالم اليوم، وليس فى هندسة البرامج، وتحديد السياسات والتوجهات عند حزب بعينه.
وفى هذا الإطار يحسن بى أن أبدأ بكيفية (حدوث التغيير الوزارى).
لقد كنا بصدد إعلانين أحدهما من رئيس الوزراء دافيد كاميرون، والآخر من وليم هيج يشرحان – على نحو وجيز – أسباب الاستقالة وتبريرها بضخ دماء جديدة من الشباب والنساء فى البرلمان استعدادا للانتخابات (وليم هيج له خبرة طويلة كزعيم للحزب لأربع سنوات بدأت منذ 1997، وقد قاد عملية إصلاح كبرى فى حزب المحافظين تحت عنوان: "بداية طازجة/ Fresh – start" بعد زلزال الصعود الكاسح لتونى بلير وحزب العمال الجديد مايو 1997".
وقد امتدح كاميرون وزير خارجيته المستقيل مشيرا إلى أنه كان واحدا من "الأنوار القائدة" فى حزب المحافظين.. يعنى العملية تمت على نحو حضارى وأنيق، ليس فيه التلاسن المصرى التقليدى بين المرءوس والرئيس عند خروج الأول من مجلس الوزراء، وليس فيه اتهامات بقصور أو تقصير لأن الناس هناك تحترم فكرة المسئولية التضامنية.. وليس فيه وزير يذهب حاملا ملفاته إلى مكتب رئيس الوزراء مصرّا على البقاء فوق المقعد الوزارى كما فعل وزير الرى السابق مع إبراهيم محلب.
كما أن خروج وليم هيج يعنى – من جهة بعينها – احترام حق المسئول فى الاستقالة، دون أن يعتبرها رئيس الحكومة جرحا لكبرياء عنجهية التراتبية الإدارية وسطوة وهيمنة الرئاسات الأعلى.
اعترف كل من كاميرون وهيج بالاستقالة، وعمدا إلى شرح المهمة الجديدة لوليم هيج كزعيم للمحافظين فى مجلس العموم، وتسبيب عدم خوض هيج للمعركة الانتخابية البرلمانية القادمة بعد عشرين عاما قضاها نائبا لمقاطعة يوركشير.
وأعرف أن وليم هيج – ومن خلال تجربة شخصية – شديد الاعتداد بنفسه، إلا أن ذلك – قطعا – ليس سبب الحرص الحكومى والحزبى على تفسير وتبرير استقالته للرأى العام، وإنما هو احترام التقاليد السياسية البريطانية، وتاريخ خدمة الكادر على امتداد سنوات عمره.
أما فيما يتعلق بتجربتى الشخصية مع هيج التى توضح أنفته فكانت حين طلبت إجراء حوار معه عام 1998 وكان ما زال زعيما لحزب المحافظين، وقالت لى مديرة مكتبه ذات الأصول الهندية، أنه يريد أن يعرف أسئلة الحوار قبل إجرائه، فغضبت وأفهمتها أننى لا أفعل ذلك أبدا، وأن لى مكانة مهنية فى بلادى تفرض ثقة الآخرين بى، فعادت مديرة المكتب الهندية – مرة أخرى – بطلب وليم هيج أن يعرف – على الأقل – (موضوعات) الحوار، فأجبتها برسالة فاكسية قصيرة من أربعة سطور، وفوجئت بأن هيج بعث لى برد مطول (ما زلت احتفظ به) فيه انزعاج كبير من موضوعات الحوار ووصفها بأنها: (عدوانية)، وكأنه مسئول فى دولة عالم ثالث، وليس زعيم حزب عريق فى بريطانيا أم الديمقراطيات.. وبعد شرح ومفاوضات لمديرة مكتبه، حدد وليم هيج موعدا لى فى مكتبه بمبنى وستمنستر العريق (البرلمان البريطانى) وبعدما وصلت بدقيقتين، دخل علينا حاملا ثمرة موز ابتاعها من (الكانتين)، وبدأ حواره معى بدردشة اطمأن خلالها إلى أننى لم أقصد مهاجمته بالذات، وإنما استخدمت – فقط – هوامش الحرية والمعلومات المتاحة فى تحديد مداخل إلى ذلك الحوار.
ولفتتنى – قطعا – أرستقراطية هيج أثناء الحوار ولغته الإنجليزية الشكسبيرية الراقية (وهو خريج أوكسفورد.. ولكن ليس كل خريج من أوكسفورد يمتلك تلك الفصاحة).. ومع ذلك فقد كان وجهه وأذنيه يحمرون غضبا حين أتناول- على نحو نقدى – أمرا يتعلق به وبالذات فى الشأن الداخلى البريطانى، وكان يسألنى: (ما الذى يهمكم فى مصر فى مثل تلك المواضيع؟) فأجبته – كل مرة – قائلا: (أنتم المستثمر الأجنبى الأول فى مصر، ومن ثم فإن كل ما يجرى فى بلدكم يهمنا).. فيهز دماغه مقتنعا، ثم يعاود طرح نفس السؤال بعد فقرة أو اثنتين من حوارنا!
والنقطة الثانية التى أود المقارنة بين مصر وبريطانيا فيها تتعلق بكيفية (تشكيل الكادر الوزارى) فإذا نظرنا إلى كل من وليم هيج وفيليب هاموند سنجد أنفسنا أمام تاريخ زاخر لكل منهما، يوضح لنا أن الكادر السياسى لا يهبط على المقعد الوزارى – فجأة – بالباراشوت فى بريطانيا ليصبح مثار حيرة ودهشة الرأى العام، ويذهب كل مواطن إلى البحث والتفتيش فى خلفيته، فى محاولة مجهدة لفهم أسباب قبضه على الحقيبة الوزارية.
فى حالة هيج نحن أمام رجل عمل سكرتيرا برلمانيّا لنورمان لامونت، ووزير دولة لشئون الضمان الاجتماعى والمعاقين، ثم تولى الحقيبة الوزارية لشئون ويلز، ثم أصبح زعيما لحزب المحافظين، ثم وزيرا للخارجية فى حكومة الظل، وأخيرا وزيرا للخارجية فى حكومة دافيد كاميرون.
وما بين دراسته فى "أوكسفورد" الإنجليزية العريقة و"أنسيد" الفرنسية عمل فى إحدى الشركات العملاقة (شل).. ووضع ذلك الكادر المثقف كتابين أحدهما عن سيرة ويليام بيت الأصغر والذى كان رئيسا لوزراء بريطانيا فى القرن 18، أما عمله الثانى فكان يحكى السيرة الذاتية لويليام ويلبر فورس أحد قادة إلغاء الرق فى القرن 19.. أما فيليب هاموند فقد عمل مديرا لعدة شركات وخصوصا فى المجال الطبى، ومستشارا للبنك الدولى فى عدد من دول أمريكا اللاتينية، ومستشارا لحكومة مالاوى الإفريقية.. وصار نائبا برلمانيا عام 1997، وشغل عدة مواقع فى حكومتى الظل فى عهد زعيمى المحافظين إيان دنكان سميث ووليم هيج، وتولى وزارة العمل والمعاشات فى حكومة الظل، ثم وزيرا للخزانة فى حكومة الظل، ثم صار وزيرا للنقل فى حكومة كاميرون الائتلافية، ثم تعين وزيرا للدفاع خلفا للوزير المستقيل ليام فوكس بسبب فضيحة دور صديق له بالتدخل فى شئون الوزارة خصوصا مع دول أجنبية.
أنت – إذن – أمام وزيرين لهما أول ولهما آخر، وخلفياتهما معروفة، وتاريخهما المهني مفهوم، وكل منهما له سجل فى حزب المحافظين منذ أن دخله (وأذكر أننى سألت تونى بلير زعيم حزب العمال الأسبق فى حوار لنا عن تاريخ دخوله الحزب فأجابنى: (كان ذلك فى سن الخامسة عشرة ودوّن مؤرخو الحزب ملاحظات عنى وقتها تقول أننى صاحب لغة تشرشلية، ومثلت – بإجادة – دور هاملت أمير الدانمارك عن نص شكسبير).
أما عندنا فى مصر فإننى اقسم بالله أننى لم أعرف (طوال ثلاث سنوات ونصف من السواد الكئيب بدأت عند عملية يناير 2011 لغزو مصر) ما يقرب من 90% من الوزراء الذين تعينوا فى الحكومات المختلفة.. يعنى كانوا كائنات غامضة لا نعرف عنهم شيئا، ولا يدعى أحد العلم بهم سوى رئيس الحكومة، الذى أتى بهم، والذى – فى الغالب – يختارهم من وسط أصدقائه ومعارفه وأصفيائه.
وأصل إلى النقطة الثالثة التى أود الحديث عنها ألا وهى مدلول التغيير الحكومى فى بريطانيا، إذ بات واضحا أن ذلك التغيير يعنى التشدد إزاء الوحدة الأوروبية، وعدم دخولها إلا بعد استفتاء فى عام 2017 يضع شروطا أفضل للعضوية.
يعنى – بالعربى – كان التغيير الوزارى مجزرة للمعتدلين فى شأن سياسات بريطانيا إزاء الاتحاد الأوروبى، وبالذات بخروج كينيث كلارك وزير الخزانة ووزير الداخلية فى عدد من حكومات لمحافظين، والذى يؤيد الانضمام للاتحاد الأوروبى، والذى مثل مع مايكل هزلتاين (طرازان حزب المحافظين) – أيام حكومة تاتشر – رأس الحربة اليسارية داخل حزب المحافظين.. أضف إلى ذلك أن فيليب هاموند الذى صار وزيرا للخارجية هو من أكثر العناصر تشددا ضد الوحدة الأوروبية.
وهكذا فإن منطق ومدلول التغيير الحكومى كان له معنى يمكن تفسيره، وفك تشفيره، وهو ليس مثل التغييرات الحكومية المصرية العشوائية السريالية التى لا تعنى شيئا فى التحليل الأخير.. اللهم إلا إذا كانت مجرد تدعيم "لونسة" رئيس الوزراء بضخ المزيد من أصدقائه إلى التشكيلة الحكومية.
وأصل إلى فكرة ضخ المزيد من النساء فى الحكومة البريطانية التى استهدفها التغيير الأخير قبل إجراء الانتخابات البرلمانية، إذ لم تمثل الوزيرات المرشحات مجرد حضور رمزى للنساء يتم تسكينه فى وزارات قليلة الأهمية السياسية كما يحدث عندنا، وإنما الوزيرات اللاتى ترشحن لحكومة كاميرون الجديدة كن مهمات بالفعل سواء إستير مكفايت كوزيرة للتشغيل، وأنا سويرى التى ترشحت كوزيرة للدفاع وإن لم تتول الحقيبة، وبرييتى باتيل ومارجوت جيمس، وهما عضوتان فى الطاقم الأبرز لتحقيق السياسات فى بريطانيا، فضلا عن نيكى مورجان وزيرة النساء، وليز تراس وزيرة رعاية الطفل.
دخول النساء للحكومة ليس وردة قرنفل تثبتها تلك الحكومة فى عروة سترتها حتى تقول – كما يحدث عندنا -: (أنا متحضرة.. أنا تقدمية) وإنما هو إقرار بمبدأ المساواة فى تولى حقائب سياسية كبرى فى دول ومجتمعات لا تمثل أو تتظاهر وإنما تقصد ما تفعل.. وأخيرا فإن التغيير الوزارى البريطانى هو على حافة أو عتبة انتخابات برلمانية، يعنى تقصد دافيد كاميرون ورأى أن تكون حكومته قوية ومنجزة وباعثة على ثقة الرأى العام من جهة، ومن جهة أخرى فإن تعيين وليم هيج قائدا لحزب المحافظين فى البرلمان يعد بمثابة تقوية كبيرة للظهير البرلمانى المحافظ زمن الانتخابات وهو أمر تعرف الأحزاب الكبيرة فى العالم أهميته.. أما عندنا فنحن مقبلون على انتخابات لا نعرف برامج الأحزاب فيها، بل لا نعرف الأحزاب نفسها، التى تحاول – الآن – بناء تجمعات انتهازية الغرض منها اختطاف الحكم وتحقيق أوضاع شخصية أفضل لعدد من رموز ونجوم الأحزاب الذين لا يعرفهم الشارع أو يحبهم.
وراحت تحالفات الأحزاب المصرية تركز جهودها على ضرب كل من له فرصة فى الانتخابات المقبلة وبالذات ما أسمته: (بقايا الحزب الوطنى) ذات الحظوظ الأوفر، كونها ترتبط بعصبيات قبلية وعائلية لا علاقة لها بعقيدة سياسية أو برنامج سياسى، وكونها – كذلك – تعرضت لظلم إجرامى مروع منذ عملية يناير 2011 عبر إقصائها ونفيها وحصارها وتجاهلها وإذلالها.
ما نراه فى بريطانيا هو استعداد حقيقى للانتخابات، وما نراه فى مصر هو تجهيز فصائل من حرامية المواسير لخطف قطعة أخرى من السلطة، وفرض حفنة من المجاهيل والنكرات على الحياة العامة.