الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

درويش.. في حضرة الكلمة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم تسعفني لغتي، لانتظر ذكرى رحيله كي أكتب عنه، كطقس من طقوس الولاء للراحلين، أو تذكرة بمن غابوا، لاستغل مناسبة للحديث عنه، كما يفعلون دائما، عندما يرحل أحدهم، لم يمت "درويشي"، أظنه انتقل إلى قصيدة جديدة، بأبجدية لا نفقهها نحن.
أذكر جيدًا المرة الأولى التي أصبت فيها بمس كلماته، وكانت قصيدة لا أذكر اسمها ولكني أذكر جيدا، رائحة القدس فيها، أذكر لون دماء سالت لتروي أرضا أنهكها، مرور غرباء ثقلاء الظل عليها، وأذكر أمل الناجيين من الموت، وهم يزفون إلى الموت نبتة من أرض فلسطين، وأذكر وجعا مميتا تركه غياب أحدهم عن طاولة العشاء، امتثالا لإذن رصاصة طائشة، وأذكر أنني لم أكن حتى وقتها قد عرفت فلسطين حتى نطق هو عنها، رغم كل ما تعلمته، في تاريخنا وجغرافيتنا ورغم جميع تأميناتي على دعوات كل من طلبوا لها "الحرية".
قد تظنني مبالغة بعض الشيء، إن قلت، إن محمود درويش، لم يكتب شعرًا، وإنما كتبه الشعر، فالشعر نصوص، قد نحملها عبء أحلامنا الغير مكتملة، أو نستدعي بها بعضها الآخر، الشعر بوح تنفض عن جسدك به ثقل الكتمان، الشعر صرخة في وجه من أصابهم الصمم، الشعر لحظة توحد مع لغتك، الشعرُ شعرٌ، فكيف نسميه شاعرًا، ذلك الذي لم ينقطع وحيه؟!
ظننته قديسًا، اختص بحكمة من شهد الخلق، وشهد عليه، من فوق سماوات عُلى، وأيقنت بأن تجلياته، في حروف متشابكة، في كتاب يحمل اسمه، ما هو إلى نزولًا على رغبة مريديه، في إثبات أماراته.
كلما اقتربت منه اقترب، في البداية قرأت بعضا من أشعاره، فجذبت رغما عني إلى ذلك البليغ، بكل ما أوتي من قوة على التعبير، فأصبح إحدى طقوسي أن أقرأه، ثم زاد إيماني به، فصرت رهينة لهوى البحث عن كل ما نطق به، وكلما اقتربت اقترب أكثر، فصار وكأنه أنا، لا أدري من منا استدعي حضور الآخر، ولكني على يقين بأني أتقنت أبجديته جيدًا، حتى إنني متى أصابني ما يُصب كل بني البشر من هم وحزن وحيرة وخيبة، يكن هو أفصح ناطق عني، وكلما سلمت عيني لبيوت شعره، أُشفي جوعي للبوح بكل ما احتمل القلب من كتمان.
تتبعته، وأردت أن التقي بتلك التي عشقها، والتي عشقتها أنا كذلك، ولاء لما كتب فيها، ولفرط إيماني بها، دون أن أرها، أهدتني المصادفة فرصة رؤيتها للمرة الأولى، في صور، تجمعها بحبيبها، وشاعري، لن تحمل كلماتي الآن وصف فرحتي بما كان، ولكني ما أن رأيت حبيبة درويشي، حتى تيقنت أنه ربما هو الذي أرسلها إلى، كي تكافئني على ولائي لكليهما، وحصلت على رسائلهما، التي حملت رغبة كل من عشقوا، وشغفهم، انتصاراتهم وانكساراتهم، وصلهم وانقطاعهم، هدوئهم وثورتهم، وخضوعهم لذلات أنفسهم، رأيت في رسائله رسائل مني إلىّ، عن كل قصةٍ بدأت ولم تكتمل، رأيت فيها بداياتي ونهاياتي، انتصاراتي وخيباتي، رأيت فيها كل ما أردت أن أرى، وزيادة عليه وصل شاعري المفضل، الذي لا ينطق عني سواه.
هكذا سيظل "درويشي" درويشي أنا، أول المصفقين لي عند انتصاري على لغتي بمزيد من البلاغة، مرشدي، ذلك الذي دائما ما يرد عني ضالتي، ذلك الحاضر في كل غياب.
أذكر المرة الأولى، التي حضرت فيها أمسية كاملة له، وأذكر إني حدثت نفسي قائلة:"لا تمعني النظر في نطقه للكلمات، كي لا تُحسب عليكي رؤية"، وكأني ملزمة بوعد مع السماء، ألا أشتفي بكله، منه هنا، حتى يتسنى لي لقاء آخر معه، هناك، حيث يسكن الآن.
تعمدت ألا أسرد لكم سيرته الذاتية، وألا أدخلكم معي إلى أحد بيوت شعره، وأخرج منه إلى باب القصيدة، كي أوصيكم أن تقرأوه، بكل ما أوتيتم من قوة على احتمال البلاغة.