الثلاثاء 28 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

كركوك.. وحكاية الانفصال

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كركوك كانت – دوما – نقطة ساخنة فى رسم خرائط العراق ما بعد الرئيس صدام حسين، لا بل كانت نقطة تتصادم عندها إرادات عدد كبير من الدول المحيطة بالعراق، والقوى الفاعلة على أرض ذلك البلد من قبل إطاحة صدام بكثير.. اليوم تعود كركوك نجمة أولى للشباك مع الأحداث التى أفضت إلى شقوق وبوادر انهيار فى المشروع السياسى الدستورى الهش الذى هندسه الاستعمار لذلك البلد بعد الغزو عام 2003.
اليوم.. اجتاحت شمال وشرق العراق مجموعات داعش (الدولة الإسلامية فى الشام والعراق) وقوى الطريقة النقشبندية الملتحمة ببقايا حزب البعث والجيش والشرطة والمخابرات بقيادة عزة إبراهيم الدورى نائب صدام، بالإضافة إلى رموز العشائر التى رأت ضرورة الانضمام إلى أعداء نظام نورى المالكى.
اليوم – كذلك – أعلنت داعش ما يسمى: (دولة الخلافة) فى الأنبار ونينوى وصلاح الدين (العراق) والرقة والحسكة ودير الزور والبوكمال ومنيج (سوريا)، وبايعت أبو بكر البغدادى أميرا لدولة الخلافة.
ومن هنا بدا واضحا أن مشروع دولة العراق الفيدرالية لم يعد قابلا للاستمرار بصيغته الحالية مع ما نزع إليه نورى المالكى من البقاء فى سدة السلطة لولاية ثالثة، وبما يفضى – عمليا – إلى تهميش وإذلال طائفى ومذهبى وعرقى عمد إلى تكريسه فى البلد.
عاد التقسيم – الذى مهد الأمريكان له بدستور نوح فيلدمان ومحاصصات بول بريمر – يطل برأسه باعتباره حتمية تاريخية وليس احتمالا سياسيا.
وربما كان إقليم كردستان هو الأقرب تعضيدا لثقافة التقسيم نظرا للإرث التاريخى والثقافى الذى يعيش فى إساره منذ سنوات طويلة، وأتذكر فى ذلك السياق جماعات "البيشمركة" (الجنود الذين يواجهون الموت) الذين قادهم المُلا مصطفى البارازانى فى السبعينيات من القرن الماضى.
القومية الكردية حية جدا فى وجدانات المرتبطين بها (لغة وتاريخا وإحساسا بالمظلومية الرهيبة وحلما بعودة كردستان فى العراق وسوريا وإيران وتركيا)، وقد سُحق الأكراد سواء عبر ضغوط تركيا على عبد الله أوجلان، وحزبه أو عبر مطاردات إيرانية للكرد، إلا من يتحركون من الأكراد لضرب خصوم ومنافسى طهران فى تركيا أو فى العراق (زمن صدام).
وأذكر أننى حين قابلت الكادر الكردى الكبير ورئيس العراق جلال الدين طالبانى فى لندن عام 1996، وأجريت معه حوارا طويلا نشرته فى "الأهرام" و"الأهرام ويكلى" ووجدت الرجل ممتلئا بيقين بعث الحلم الكردى حقيقة كما طائر الفينيق الاسطوري، والغريب أنه خاطب الدولة المصرية من خلالى قائلا: (نطرق باب مصر)، وذكر من شاء أن يتذكر بوفد الكرد الذى أثار قضيتهم التاريخية مع الزعيم جمال عبد الناصر عام 1963، إبان ما عُرف بمباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق.
نعم.. ظل الأكراد مسكونين بحلمهم الكبير، وكلما واتتهم فرصة تقدموا خطوة فى سكة إنجازه.
استغل الأكراد غزو العراق، والدستور الجديد ليوهموا كل متابع للشأن العراقى أن ذلك الدستور يعنى الإقرار بحق تقرير المصير، وأنهم عازمون على دعم خيار الاستقلال والوحدة بين الأقاليم الكردستانية (التركية والإيرانية والسورية والعراقية) وإعلان دولة كردستان.
وقد كانت كركوك (الغنية جدا بالبترول) هى الجائزة الكبرى التى يحاول الكرد الحصول عليها فى كل خطوة لهم صوب تحقيق حلمهم القومى.
وبعد غزو 2003 وضعت إسرائيل نفسها – بمساعدة جاى جارنر – (أول حاكم مؤقت للعراق وعالم صناعة الليزر والصواريخ والصهيونى المتشدد) فى شمال العراق، وتغلغلت فى نشاطات السياحة والبترول، وعمدت تركيا العدو التقليدى للأكراد إلى التقارب معهم فيما يتعلق بسرقة النفط من كركوك، ورصدت السلطات العراقية (وبالذات حسين الشهرستانى نائب رئيس الوزراء لشئون النفط) عمليات سرقة قامت بها شركة "بوتاس" التركية بالتفاهم مع السلطات الكردية للنفط العراقى (وهو ثروة سيادية لا يجوز الحصول عليها إلا بموافقة السلطة المركزية وإلا صارت حرية الأكراد للتصرف فيها اعترافا بالاستقلال والانفصال).. وفى ذلك السياق كان لافتا تمركز وحدات الحرس الثورى الايرانى التى دخلت العراق بعد اجتياح داعش لشمال وغرب العراق، فى كركوك – بالذات – فيما الأصل هو أن يكون دخول وحدات الحرس الثورى إلى المناطق الشيعية، أو لحماية المراقد المقدسة فى النجف وكربلاء وسامراء.
إيران فعلت ذلك بالإضافة إلى تحريضها آية الله العظمى السيستانى ليعلن فتوى "الجهاد الكفائى"، والتى رآها البعض مدخلا لحرب مذهبية و"لشرعنة" الهجوم على السُنة، وبالتالى انتصارا لنهج الحرب الأهلية التى تفضى إلى التقسيم.
ولكن فتوى السيستانى لم تغن إيران عن وضع حرسها الثورى فى كركوك لضمان السيطرة على حقول البترول، أو منع سيطرة الآخرين عليها، وبخاصة أن جزءا من تمويل داعش جاء من سيطرتها على حقول البترول السورية، ومن المؤكد أنها ستحاول الهيمنة على حقول شمال العراق لتضمن مصدرا آخر للتمويل.
القوى الفاعلة فى العراق وجواره لا يمكن النظر إليها بوصفها صاحبة مواقف مبدأية.
فتركيا صاحبة الموقف الثابت ضد الكرد، تعاونت معهم لضرب داعش فى سوريا، وتحالفت طالبة حمايتهم فى دخول القوت التركية إلى شمال سوريا لحماية قبر سليمان شاه جد عثمان باشا (مؤسس الدولة العثمانية عام 1299) وهو الذى هددت داعش بهدمه لأن الأضرحة ضد معتقداتها.
وداعش التى لوح أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركى بضربها بالطيران، إذا فكرت فى هدم ضريح سليمان شاه (أحد رموز العثمانية) أصبحت الحليف الأول لتركيا فى ضرب الجيش السورى النظامى وسلطة الأسد، وهو ما كان شرط أوغلو فى مؤتمر جنيف لحل القضية السورية، قبل أن تتراجع تركيا ويقول أوغلو (نفسه) أن خيار روسيا وإيران فى سوريا اثبت انه صحيح، وذلك بعد اتفاق طهران مع دول (5+1) فى مؤتمر جنيف لبحث الملف النووى الايرانى.
يعنى تركيا مرة مع الأكراد ومرة ضدهم، ومرة مع داعش ومرة فى مواجهتها، ومرة مع طهران ومرة تختصمها، ومن هنا كان حضورها فى ملف البترول فى كركوك عبورا فوق كل تناقضاتها مع الأكراد.
أما إيران فإن حضورها إلى كركوك كان لمنع سيطرة آخرين على البترول، ولكن الأهم لمنع خيار التقسيم أو رسم خريطة جديدة لكردستان على نحو يهدد سلطة نورى المالكى عميل إيران التاريخى الكبير، وبخاصة بعد إعلان مسعود بارازانى رئيس الاتحاد الديمقراطى الكردستانى (له الأغلبية فى البرلمان ومن حزبه وزير الخارجية هوشيبار زيبارى) أمام وليم هيج وزير الخارجية البريطانى أنه سيمنح سكان كركوك حق تقرير المصير فى استفتاء عام، تمهيدا لضم كركوك، وإلحاقها بمشروع كردستان للانفصال والاستقلال.
كركوك سوف تكون نقطة تحديد مستقبل العراق، وسوف تكون – كذلك – علامة على جدوى الحلم القومى الكردى.