الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تفكك الدولة بين ثقافة الكراهية والإقصاء

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

اليوم وُلد في رحم الأمس، وما نحن فيه ليس منبت الصلة بالتاريخ القديم والحديث، لكن البعض لا يعلمون أو يكابرون ويغالطون، ظنًا منهم أنهم الأولون. ما نشهده اليوم من محاولة هذا البعض الذي لم يلتفت لدرس التاريخ ـ عمدًا أو جهلاً ـ هو إعادة انتاج لتجارب قادت ممالك وحضارات إلى الانهيار والزوال.
وفي التاريخ المصري القديم نتوقف أمام لغز انهيار الدولة المصرية القديمة ـ الفرعونية ـ على عظمتها والتي بسطت سيطرتها على العالم، ومازالت أسرارها تبهر العالم وإن أصبحت أثرًا بعد عين.
كانت نقطة بداية الانهيار في تجربة الدولة المصرية القديمة مع تولي الملك أمنحوتب الرابع ـ أخناتون ـ الحكم الذي قاد انقلابًا دينيًا سحب فيه اعتراف الدولة بغير عبادة أتون (الشمس) وعليه اعتبر العبادات الأخرى غير شرعية وهدم معابدها وطارد كهنتها ونكّل بأتباعها، فيما اعتبر ما قام به دعوة للتوحيد وما كانت كذلك، بل هي بداية لثقافة التطرف والإقصاء، وكان يقضي جل وقته بين كهنة أتون وبين أروقة معبده، وفي تدرج متوقع اقترب رجال الدين من الحكم وسيطروا على مفاصل الدولة، بل وشكلوا منظومة الحكم، لم يكن لهم خبرة بشئون الحكم ولا فنون إدارة الدولة ولا كيفية التعامل مع العالم ولا فنون حماية استقرار الممالك الخاضعة لمملكتهم المترامية الأطراف، كان ما يميزهم سيطرتهم على شعوبهم بالوازع الديني وسيطرة المعبد والنص.
لم يكن العالم بمنأى عن رصد ما يحدث ولم يكن الشارع غافلاً عن تراجع الاقتصاد وازدواجية حياة رجال الدين/الحكم ومفارقة الفعل عن القول، وانعكاس هذا كله على الحياة اليومية، تسلل الفساد خلف المد الديني الشكلى، وانهارت المؤسسات بفعل غياب الخبرة وسيطرة أهل الثقة من جماعات ومريدي رجال الدين/الحكم، فجاء الإنهيار بل والاندثار.
وتقرر قواعد علم المنطق أنه إذا قمنا بتجربة ما بمقدمات ومكونات بعينها سنخرج بنتائج معينة، ولن تتغير النتائج إذا تكررت التجربة ولو مئات المرات طالما بقيت المقدمات والمكونات ثابتة، ومن هنا لابد أن ننتبه لما يدور حولنا من محاولات بعد التيارات إعادة انتاج ثقافة الإقصاء تحت مسميات وتبريرات مختلفة وإشاعة ثقافة الكراهية تحت غطاء مذهبي أو ديني وحشد معطيات لتمريرها، وباستخدام تقنيات متطورة وآليات اتصال متقدمة في فضاء الإعلام، في ظل تراجع ثقافي واقتصادي واجتماعي، بما يشكل دائرة لا تكف عن الدوران وفي غير استيعاب لدرس التاريخ، وفي إغفال لصراعات المصالح الإقليمية والدولية، والتي سبق وطرحها المحلل الاستراتيجي صمويل هنتجتون في كتابه صدام الحضارات الذي حشدنا في مواجهته كل مخزوننا اللغوي لإنكاره ورحنا نفنده، تمامًا مثل أهل المريض الذين لا يقبلون تشخيص الطبيب على دقته لأننا لا نقبل مواجهة الواقع، ويصبح كل تحذير تقوّلا على الدين وافتئاتًا على العقيدة، بينما نوغل في التجهيل والإحالة إلى المؤامرة والاستهداف الكوني والعمالة، تمامًا كما فعل البعض في تبرير انهيار الخلافة العثمانية، بالكلام عن مؤامرات الغرب دون أن نشير إلى الإنهيار الداخلي بعد أن فارق الواقع الشعارات البراقة التي تحيط بالسلاطين المتعاقبين وقد أهملوا العلم والتحديث ومواكبة العصر، وفي رفض مشروع التحديث التركي الذي قاده أتاتورك الذي فتح الطريق أمام تركيا مجددًا للتواصل مع الحضارة بأدواتها ومعطياتها.
ها نحن نعيد إنتاج نفس المدخلات وننتظر نتائج مختلفة، نروج للكراهية أو على الأقل نغض الطرف عنها بدلا من أن نتعقبها بالقانون ونقصي المخالفين نسوق المبررات التي لا تقر أن التنوع والتعدد هو سر مصر الأزلى، وسلاحها في مقاومة التجريف الحضاري ومعاداة الحضارة نفسها.
من المذهل أن يسعى البعض إلى الارتداد لدولة الملل والطوائف والنحل بدلا من أن تأكيد دولة المواطنة، بينما العالم حولنا يقفز فوق التضاريس المعوقة للاندماج ويحصدون اتحادًا قاريًا يوحد الاقتصاد والعملة ومن ثم يعمّق مجتمع الرفاه، وقد يحتاج مروجو الإقصاء والاستعلاء لأن يطلعوا على تجربة اقتربنا منها قبل شهور قليلة مع وفد برلماني، ضم رموزًا لها ثقلها في أحزاب القمة في تيار الإسلام السياسي والتيار المدني الليبرالي، بدعوة من وزارة خارجيتها لأيام في السويد لنكتشف إصرارها على الإفادة من كل من قصدها للحياة فيها في دعم وحدتها وتقدمها، وقد بهرنا بتجربتهم في وجود وزارة للاندماج، تساعد الأقليات الوافدة من أقاصي الأرض على التأقلم والاندماج في المجتمع السويدي بغير النظر إلى لغته الأم أو دينه أو حتى موقفه من الأديان كافة، وكانت شهادات المهاجرين - ومنهم مصريون (مسلمون ومسيحيون) - التي سمعناها مبهرة، فهل نملك الجرأة على مواجهة واقعنا وتشخيص حالتنا ونقرأ تجارب الغير بعيون مفتوحة ورغبة حقيقية في تصحيح وعلاج ما نحن فيه، أم نسلم قيادنا لما يمكن أن يسلمنا إلى تفكك سبقتنا إليه الحضارة المصرية القديمة والخلافة العثمانية أيضًا.. لا قدر الله، سنظل ندق أجراس الإنذار ولن نمل.. فمصرنا تستحق أن نفعل هذا وأكثر. أفيقوا يرحمكم الله.