الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فساد وخيبة أيضًا!!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
شاء حظي العاثر أن أضطر إلى إجراء توكيل في الشهر العقاري ، وأنا معتاد على إجراء مثل هذه التوكيلات في مكتب الخليفة الكائن بعمارات العرائس في شارع القصر العيني، لكن هذه المرة ، ولأنني كنت في غاية الإرهاق والتعب بشكل استثنائي ، قررت أن أتوجه إلى أي شهر عقاري قريب من المقطم ، حيث أسكن ، وتوجهت بالفعل إلى الشهر العقاري الموجود في مدينة نصر بالحي العاشر ، حيث وصلت هناك في تمام الحادية عشر ظهرا ، وحصلت على التوكيل في تمام الساعة الرابعة والربع عصرا !!
ما يزيد عن خمس ساعات وأنا في الوضع واقفًا من أجل إنهاء بضعة إجراءات كان من الممكن أن تنتهي في ما لا يزيد عن نصف ساعة ، ما يزيد عن خمس ساعات ضاعت من حياتي من أجل إنهاء إجراءات يفترض أن رسومها كبيرة وأنها تدرّ على الدولة عائدًا كبيرًا من الأموال كان يجب أن يدفع الدولة إلى توفير أقصى درجات الراحة والسرعة لإنهاء هذه الإجراءات .
سأحكي لكم ما حدث تفصيلا . بدأت رحلة التوكيل بسؤال الناس ، حيث لا يوجد موظف يدلك أو لوحة إرشادات ترشدك ، فدلني ولاد الحلال على شباك رقم تسعة الذي اشتريت منه نموذج التوكيل بعد أن وقفت نصف ساعة في طابور إلى أن وصلت له وسألته " أروح فين بعد كده ؟ " ، فأجاب بكل هدوء: " املأ النموذج وبعدين تعالى تاني " . ملأت النموذج في دقيقتين ثم وقفت في الطابور أمام موظف شباك ٩ نصف ساعة كمان ( !! ) وأعطيته الورقة فقال لي: تعالى كمان ساعة ونصف . تصورت في هذه اللحظة أنني سأحصل على التوكيل بعد هذه الساعة والنصف، وقلت لنفسي: مش مشكلة، ولكن بعد الساعة والنصف وقفت في الطابور مرة ثالثة لمدة نصف ساعة كمان أمام شباك ٩ ، وفي النهاية فوجئت بأن الموظف عمل تأشيرة على النموذج وقال لي: روح للشباك ١ ، وهناك وقفت مرة رابعة في طابور لمدة نصف ساعة حتى قام الموظف بعمل تأشيرة ثانية على النموذج وقال لي: اذهب لشباك أربعة لتقدير الرسوم ، فذهبت لطابور شباك ٤ ووقفت نصف ساعة للمرة الخامسة حتى كتبت الموظفة الرسوم المطلوبة وطلبت مني الذهاب إلى الخزنة ، وهناك وقفت في الطابور السادس نصف ساعة كمان ودفعت الرسوم ثم توجهت إلى شباك ١ مرة أخرى للتوقيع في الدفتر ، ووقفت في هذا الطابور السابع نصف ساعة ثم انتظرت بعد ذلك حوالي ربع ساعة لاستلام التوكيل بعد ختمه .
طوال الساعات الخمس ، وبمعدل كل نصف ساعة تقريبًا كان أحد المواطنين ينفجر في نوبة من الهياج والزعيق يهاجم فيها أداء الموظفين وينعي فيها حياته التي ضاعت بين الطوابير وكانت بعض هذه النوبات تحظى بتأييد وتعاطف من " النظارة "، بينما كان بعضها الآخر يتطور إلى " أوسخ " مستوى يمكن تخيله من السباب والشتائم بين مواطن أو أكثر، وبين موظف أو أكثر ، وكانت الشتائم وكذا الهمس كله يدور وبشكل غير مباشر حول أن الموظفين مرتشون وفاسدون، وأن هذا هو سبب التباطؤ والترهل والخيبة ، وحاولت أنا ، وحتى الساعة الرابعة إلا ربع تقريبًا ، أن أتأمل الموقف بدون انفعال لعلني أفهم ما هو الخلل بالضبط ، بل وانتابني أكثر من مرة نوبة من الضحك على كل هذا القدر من التردي والفوضى على طريقة " شر البلية ما يضحك "، لكنني وبعد الساعة الرابعة إلا ربع انفجرت في الزعيق والهياج لأنني كنت حتى هذه اللحظة لا أصدق أن هناك فسادًا ما، وكنت أتصور أن الأمر لا يزيد عن خلل إداري، لكنني شهدت بنفسي ، وفي طابور أخير ، كيف قدم مواطن رشوة لموظف على مسمع ومرأى من عدة مواطنين وموظفين !!
لا يمكن أن ينجح أي تطوير إداري في ظل الفساد ، ولا يمكن أن ينتهي الفساد بدون رقابة مباشرة من الأجهزة المعنية ، وأغلب الظن أن هناك تضامنًا بين من يضع النظام الإداري بهذه الطريقة ، وبين الموظفين الفاسدين ، وأيضًا بين هذين الطرفين وبين الأجهزة الرقابية ، لأنني على يقين أن من وضع هذا النظام العقيم إنما يكاد يدفع الأمور دفعًا في اتجاه الفساد ، ومن ناحية أخرى فإن غياب الأجهزة الرقابية عن المشهد لا يمكن أن يكون مجرد عجز ، بل هو على الأغلب تواطؤ ، بالذات وأن الموظفين قالوا لي ببساطة أن الخناقات التي انزعجت منها أنا وبعض النظارة الطيبين تتكرر يوميّا !!
من الممكن اختزال الطوابير السبع إلى ثلاثة : الطابور الأول : أكثر من شباك أو أكثر من موظف لبيع النموذج وملئه وتقدير الرسوم في عملية واحدة لا تستغرق أكثر من دقيقتين ، الطابور الثاني: شباك واحد لتحصيل الرسوم، وهي عملية لا تستغرق أكثر من نصف دقيقة ، والطابور الثالث للتوثيق والتوقيع في الدفتر، وتستغرق حوالي دقيقتين، ومن الممكن أن يقوم بها أكثر من شباك أو أكثر من موظف .
سرعة الإجراءات وسهولتها سيغلق الباب أمام الفساد، بالطبع إلى جوار ما يمكن أن تقوم به الأجهزة الرقابية . هل هناك من يسمع ؟!
حكيت ما حدث لبعض الأصدقاء وأغلبهم اندهش جدّا من طريقتي في التعامل مع الأمر، وأصبحت أنا المدان . لماذا ؟ لأنني ذهبت بطولي للشهر العقاري بدون واسطة أو بدون معرفة موظف مرتشي أو مكان نعرف فيه حد .... إلخ، يعني باختصار مفروض أن من كان في مستوى اجتماعي معين لا ينبغي أن يقف في الطوابير، وإنما عليه أن يشتري راحته بالفلوس، وبالتالي الطوابير للشعب ، للناس الغلابة اللي متعودين على كده .
الناس المرتاحة ليست مهتمة بإصلاح الشهر العقاري؛ لأنها ستنجز ما تريد بفلوسها ، وليست مهتمة بإصلاح التعليم؛ لأنها ترسل أولادها لمدارس خاصة ، وليست مهتمة بإصلاح المستشفيات العامة؛ لأنها تتلقى العلاج في مستشفيات خاصة .
باختصار: "الناس المرتاحة عايشة في بلد تانية غير البلد اللي عايش فيها الناس الغلابة".