الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

قوة مصر من قوة قيادتها

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قبيل رحيل الفريق أول محمد فوزى، وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة، جمعتنى وزوجى والفريق أول -رحمهما الله- جلسة خاصة، وكان الفريق أول في هذه الجلسة بعيدا عن طبيعته (الصارمة) فاتحا قلبه مسترسلا مسهبا في حديث الذكريات، متنقلا بين أكثر من قصة وأكثر من واقعة تاريخية عاشها وشارك فيها.. ومن أجمل وأهم ما ذكره الفريق أول، كانت قصة (حائط الصواريخ) والتى أسميها أنا بـ(ملحمة حائط الصواريخ) بعد أن سمعت تفاصيلها ودقائق أمورها من الفريق أول رحمه الله بشكل مباشر وبصوته الجهوري وانفعالات وجهه.. ثم وبعد سنوات من رحيله سمعتها من الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل وهو يتحدث عنها في البرنامج التلفزيونى (تجربة حياة) على شاشة الجزيرة..
وقصة (ملحمة حائط الصواريخ) لا بد أن نتذكرها في هذه الفترة تحديدا مرات ومرات، ولا بد من استعادة تفاصيلها وكما رواها الكبيران الفريق أول محمد فوزى والأستاذ هيكل.. ورغم أننى قمت بالكتابة عنها من قبل، لكنى اتعمد الآن إعادة الكتابة عنها وبتفاصيلها، فهى وليس فقط تفاصيلها العسكرية، ولكن أيضا ما فيها من تفاصيل تعكس قيم ومعانى وطنية تستحق التوقف عندها مرات كثيرة وفي هذه الآونة تحديدا..
و(ملحمة حائط الصواريخ) بتفاصيلها كالتالي:
** مباشرة وبعد هزيمة يونيو 1967 بأقل من أسبوعين بدأت مصر سلسلة حروب الاستنزاف ضد العدو الصهيونى والتى حققت فيها مصر انتصارات متتالية مكبدة العدو خسائر فادحة..
وفى العامين 1969 و1970، ومع تواصل انتصارات مصر المتلاحقة على العدو الصهيوني، ومع تواصل هزائم العدو الصهيوني بدأ العدو في رد وحشي على هزائمه بشن غارات جوية متتالية، مركزا غاراته في العمق على مواقع مدنية، مستخدما طائرات الفانتوم والسكاى هوك الأمريكية، وبلغت الطلعات الجوية للعدو في الأربعة أشهر الأولى من عام 1970 (8838 طلعة جوية) على طول خط الجبهة والمواقع الحيوية، إضافة إلى 36 طلعة جوية على مواقع مدنية منها: ما عرف بمذبحة بحر البقر والتى قصفت فيها طائرات العدو مدرسة بحر البقر الابتدائية بالصواريخ ودمرتها تماما واستشهد فيها ما يقرب من الأربعين طفلا وإصابة 36 داخل فصولهم.. وقصف مصنع أبو زعبل في ساعة ذروة العمل واستشهاد 70 عاملا وإصابة 69.. وقصف محطة الرادار في مدينة نجع حمادي إلى غيره من مواقع مدنية.. بعدها قرر الرئيس جمال عبد الناصر السفر إلى الاتحاد السوفيتي لمطالبة القادة السوفييت بأسلحة ومعدات دفاع جوى (صواريخ وطائرات ورإدارات) أكثر تقدما مما كان متوفرا لدي مصر آنذاك..
وفي 20 يناير 1970 سافر الرئيس عبد الناصر إلى موسكو في زيارة سرية على متن طائرة روسية مصطحبا معه القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية الفريق أول محمد فوزى يرافقهم الأستاذ هيكل ووفد من القيادات العسكرية المصرية وقيادات الخبراء السوفييت الموجودين في مصر..
وسوف أسرد هنا عددا من اللقطات عن هذه الزيارة..
** اللقطة الأولى:
في الطائرة وأثناء الرحلة جاءت أخبار الهجوم البحري والجوى لقوات العدو على جزيرة شدوان، وهنا استشعر الفريق أول محمد فوزى خطورة الموقف، متحسبا أن غزو الجزيرة قد يكون مقدمة لدخول قوات العدو مدينة الغردقة، وما يمثله هذا من تهديد قد يصل إلى السد العالى، وطلب من الرئيس عبد الناصر أن يعودوا إلى مصر لقيادة المعركة بنفسه.. فماذا كان موقف رئيس مصر جمال عبد الناصر وماذا قال؟.. قال رئيس مصر جمال عبد الناصر: (اترك العسكريين في مصر يقودون معركتهم بأنفسهم، فعودتنا هكذا معناها أننا لا نثق في قدراتهم على مواجهة الموقف وهم سيواجهونه.. والعدو لن يدخل مدينة الغردقة).. وتحقق ما قاله رئيس مصر وتأكد أن ثقته فى قيادات الجيش الجديدة في محلها.. ولم تدخل قوات العدو الغردقة حيث أجبرتها سرية الصاعقة المصرية الموجودة في الجزيرة على الانسحاب بعد قتال استمر ستة ساعات تكبد فيه العدو خسائر بلغت 36 فردا بين قتيل وجريح.
** اللقطة الثانية:
في الطائرة ورغم نزلة البرد الذي كان مصابا بها، جلس رئيس مصر جمال عبد الناصر يكتب بخط يده مذكرة بلغت 26 صفحة، دون فيها كل النقاط التي يريد بحثها مع القادة السوفييت، ثم جلس مع العسكريين يناقش معهم ما دونه.
** اللقطة الثالثة:
وصلت الطائرة في العاشرة صباحا وكانت ملامح التعب بادية على الرئيس عبد الناصر، فطلب الرئيس السوفيتي بريجنيف إرجاء المباحثات حتى الغد ليأخذ الرئيس قسطا من الراحة، لكن رئيس مصر جمال عبد الناصر رفض التأجيل حتى لا تطول فترة الزيارة عن اليومين ضمانا للسرية.
** اللقطة الرابعة:
كان الطلب الأساسي للرئيس جمال عبد الناصر من القادة السوفييت هو الحصول على صواريخ سام 3، لعدم قدرة صواريخ سام 2 على مواجهة الطلعات الجوية المنخفضة لطائرات الفانتوم الأمريكية التي يستخدمها العدو في غاراته على العمق المصري سواء على مواقع حيوية كما في نجع حمادى أو على مواقع مدنية، واحتدم النقاش ورأى القادة السوفييت صعوبة الطلب حيث إن صواريخ سام 3 لم يتم تجربتها بعد وكيف ستستخدم في مصر بلا تدريب؟ ورغم أن الرئيس السوفيتي بريجنيف قال بوضوح (صديقنا ناصر يريد أن يحصل على كل ما يريده ونحن نريد أن نقدم له كل ما يحتاجه..) ورغم نقاشات طويلة أوضحت مدى صعوبة الاستجابة للمطلب أهمها ما ذكره القادة السوفيت حول أن الطواقم المصرية التي تعمل على سام 2 لا يمكن أن تعمل على سام 3 إلا بعد تدريب يستغرق ستة أشهر ولا يمكن أن يتم التدريب إلا داخل الاتحاد السوفيتي، فماذا سيتم خلال الستة أشهر هذه؟ وهل ستذهب الطواقم نفسها وتصبح سام 2 بلا طواقم أم ستذهب طواقم جديدة بلا خبرة للتدريب؟.. ورغم الصعوبات التي ذكروها ورغم أنهم أصحاب السلاح ونحن من نحتاج للسلاح إلا أن رئيس مصر جمال عبد الناصر كان صلبا في موقفه مصرا على مطلبه مقدما اقتراحا قال فيه: (على الجبهة نحن مستعدون لتحمل كافّة المخاطر وسنستخدم سام 2 لكن في العمق سوف نسحب الطواقم المصرية لتذهب للتدريب في الاتحاد السوفيتي ويحل مكانها طواقم سوفيتية تأتي إلى مصر لاستخدام صواريخ سام 3 في الدفاع السلبي عن هجومات العدو على العمق لمدة 6 أشهر فقط بعدها تعود الطواقم المصرية المدربة ويعود السوفييت إلى روسيا).. فتحدث القادة السوفييت بأن هذا معناه أنهم سيكونون مشتركين في الحرب وأن هذا سيخلق أزمة من الدرجة الأولى ويكون هناك تعرض لنشوب حرب نووية.. فماذا كان موقف رئيس مصر جمال عبد الناصر وماذا قال للقادة السوفييت؟ قال رئيس مصر: (الاتحاد السوفيتي يتعرض لهجوم فعلا وأمريكا آخذه سياسة عدوانية فعلا وأنتم فقط تصدرون بيانات وهذا يضر بكم، وإذا نحن لم نستطع إصلاح موازين ما جرى في 5 يونيو سنضار، ولكنكم سوف تضارون أيضا مباشرة.. نحن لا نريد حربا نووية ونحن نريد تصاعدا محسوبا ولا نريد منكم إلا الدفاع السلبي عن مواقع مدنية ولمدة 6 شهور فقط..) وازداد موقف رئيس مصر صلابة وتمسكا بمطلبه قائلا: (إذا كنتم تريدون أن يكون مستقبل العالم مستقبلا أمريكيا فنحن موافقون، وسوف نقول للعالم إن الاتحاد السوفييتي ترك المستقبل لأمريكا، وسوف أترك الحكم لزميل آخر يستطيع التعامل والتفاهم مع أمريكا )وفي اليوم الثاني وافق القادة السوفييت على ما جاء مطالبا به رئيس مصر جمال عبد الناصر.. وسميت العملية بـ(القوقاز).
** اللقطة الخامسة:
أثناء المباحثات تحدث أحد القادة العسكريين حول صعوبة إمداد مصر بصواريخ سام 3، مؤكدا عدم خروجها من الاتحاد السوفيتي إلى أي بلد آخر حتى ولا دول حلف وارسو.. عندها قال القائد العام للقوات المسلحة المصرية الفريق أول محمد فوزى: (دول حلف وارسو لا تحارب.. مصر هى التي تحارب..) قال هذا في حضور رئيس مصر جمال عبد الناصر وفي مواجهة القادة السوفييت.. (ومن عرف الفريق أول فوزى عن قرب، يعرف كيف قالها، وبأى صوت جهورى، وبأى قدر من صرامة).
** اللقطة السادسة:
بعد انتهاء المباحثات ولحظة تأهب الرئيس عبد الناصر لمغادرة القاعة تقدم منه الجنرال (كاتشكي) كبير الخبراء السوفييت في مصر محييا إياه قائلا: (سيدى الرئيس لدي مشكلة كبيرة، فخبراؤنا العسكريون الموجودون في مصر يشعرون كأنهم جنود عصابات لأنكم تمنعونهم من ارتداء الزى العسكرى السوفيتي ويرتدون الـ(أوفر أول) بدون رتب، ويتساوى الجنرال والشاويش، كما أن الزى العسكرى السوفيتي لهم يمثل قيمة وكرامة، فأرجوا السماح لهم بارتدائه..) فماذا كان موقف رئيس مصر جمال عبد الناصر وماذا قال؟.. قال رئيس مصر لكبير الخبراء السوفييت في مصر وأمام رئيس الاتحاد السوفيتي وقيادات الجيش.. (مستعد أن ألبي لك أي طلب إلا هذا، فارتداء ضباطكم الزى العسكرى السوفيتي سوف يمثل للشعب المصري ما كان يمثله لهم وجود ضباط الجيش البريطانى بزيهم العسكرى البريطاني وهم على أرض مصر قبل الثورة.. ولا يمكننى أبدا تلبية هذا الطلب..).
** هذه اللقطات التي أسردها الآن، والتى ظلت محفورة في ذاكرتى رغم مرور السنوات على معرفتى بها.. أضعها هنا نموذجا ومثالا يقول ويؤكد معانى ومؤشرات كثيرة أهمها وفي مقدمتها:
** أن مصر تستطيع متى شاءت وأرادت وتمسكت وأصرت، أن تكون لها القيمة الكبيرة والمقام الأعظم والقدر العالى عند دول العالم كله الصديق منها والعدو.. وهذا يتم ببساطة عندما تكون لمصر القيادة الوطنية القوية الصلبة الشجاعة والتى تدرك قيمة مصر ومقام مصر.. عندما يكون لمصر القيادة التي تعرف أن تعكس كيف هى كرامة مصر وكرامة شعب مصر.. القيادة التي تستطيع أن تعلن بكل قوة كيف أن مصر عظيمة في مواقفها الصلبة الحرة وفي قدرتها على فرض ارادتها بل وفي املاء شروطها على الاخر حتى وأن كان صديقا مساندا لها في ازماتها وشدائدها.. القيادة التي تستطيع أن تجبر الاخر على احترام سيادة مصر الدولة والعمل على كسب صداقة مصر، بل وكسب رضاها، والتسليم لها في كل ماتطلبه وتريده وليس العكس..
هذه هى القيادة القوية الباسلة التي تليق بمصر.. والتى نريدها لمصر.. هذه هى القيادة التي يحق لها أن تكون هى الرمز لمصر وهى العنوان لمصر الكبيرة العظيمة القائدة الرائدة لمنطقتها العربية، والتى لن يرتضي شعب مصر قيادة سواها..