السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ماركيز.. عن المحارب الوحيد والديكتاتور المتوالد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
موت الكاتب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز كان منتظرًا، فالرجل كان يعاني من الزهايمر لفترة طويلة، وهو الذي عاش حياته الطويلة – 87 عامًا – بين أوروبا وأميركا اللاتينية، تقلب فيها بين العلم الذي تركه في الجامعة حيث كان يدرس القانون ليتفرغ للأدب والفن.
ولما ضاقت به الحياة السياسية في كولومبيا ولم تتحمل الدولة كتاباته ارتحل إلى باريس سنوات طويلة مارس فيها كتابة السيناريو والكتابة في الصحافة، ثم عاد ليفاجئ الدنيا بروايته الفذة "مائة عام من العزلة"، بعدها كتب روايات رائعة على رأسها "الحب في زمن الكوليرا" و"خريف البطريرك"، و"ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، وغيرها، فضلًا عن عشرات من القصص القصيرة .
صار ماركيز معروفًا في العالم كله بالواقعية السحرية التي كانت روافدها ألف ليلة وليلة العربية، وحكايات جدته، والنظام القمعي حوله الذي جعله يمارس الحرية إلى أقصى مدى في تشكيل روايته أحداثًا ولغة وزمانًا ومكانًا.
رواية "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، وهي أصغر رواياته تقريبًا لا تصل إلى مائة صفحة، قال عنها يومًا أنها أفضل ما كتب. وهي حكاية محارب قديم للطغاة وللنظام الديكتاتوري ينجح في إقصاء الديكتاتور، لكنه حين يتقدم في العمر يعيش وحيدًا لا يجد من يخاطبه ولا من يكاتبه ولا من يقدر ما فعله، لقد أوجز الأمر كله في الجوع الذي يعانيه، وحين سألته زوجته الوحيدة التي ظلت بجواره: ماذا سنأكل اليوم؟ قال لها: " خراء " .
على الجانب الآخر جاءت روايته "خريف البطريرك " عن الديكتاتور الذي كان يتوالد من بعضه، فصار أربعة عشر ديكتاتورًا عاشوا على رأس البلاد أكثر من ثلاثمائة سنة، هذا الديكتاتور الذي فعل كل شيء باطل، وتحدى الموت، فكان يتناسخ، مات في النهاية، لكن بعد أن فعل بالبشر ما لم يفعله أحد من قتل وسجن واغتصاب وعبث، وكانت متعته الكبرى أن يسمع بكاء الجائعين على سلالم قصره، ويرى أمراضهم على جسومهم، وغير ذلك من الوقائع الغريبة.
لقد قدم ماركيز في هذه الرواية الديكتاتور ورجاله الذين عبثوا ببيت السلطة وقصورها القديمة، فصارت شبيهًا بمخيم للغجر، صارت لها عفونة نهر فائض، ونقل ضباط مجلس القيادة كل أثاث الجمهورية إلى مزارعهم، وكانوا يلعبون ( الدومينو ) على امتيازات الحكومة، كانوا يتنافسون بلعب الورق على سلب مقاعد القيادة العليا، أولئك عملاء الرب الذين امتصوا الوطن كما قال عنهم ماركيز .
وبلغ العبث بالديكتاتور أن أراد أن يتحكم في الزمن، فكان يأمر أن تؤخر ساعة الحائط ، عليها أن لا تعلن منتصف النهار في منتصف النهار حتى تبدو الحياة أطول!
وكان يحلو له حين تدلَهِمّ الأمور أن يأمر بإطلاق سراح المساجين جميعًا ومن كل صنف إلا الكتاب؛ فهم في رأيه أُسّ الخراب بالبلاد. وكان يدعو الجميع إلى بناء الوطن لكن يعلق من يتمرد في الشمس حتى يتعفن: "يجب أن يشاد الوطن بجهود جميع أبنائه، ولكن ارموا المسئولين عن التمرد بالرصاص، واجعلوا وجوههم إلى الحائط ، ثم عرضوا جثثهم المعلقة من أعقابها تحت أشعة الشمس ونور القمر حتى لا يجهل أيّ كائن مصير الذين ينتهكون حرمة الله! كان يطفئ كل الأضواء في قصره ويلتحق بغرفة نومه وفي يده مصباح، فيرى نفسه منعكسًا على المرايا جنرالًا واحدًا، ثم جنرالين اثنين، ثم أربعة عشر جنرالًا، ولقد صار بالفعل أربعة عشر جنرالًا، لكنه في النهاية كان لا بد أن يموت مهما طال الزمن .