الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

ماركيز.. رحيل البطريرك

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

إعداد: إسراء عبد التواب ــ سميرة محمد

إشراف: سامح قاسم


"ربما تكون في هذا اليوم المرة الأخيرة التي ترى فيها أولئك الذين تحبهم، فلا تنتظر أكثر، تصرف اليوم لأن الغد قد لا يأتي، ولا بد أن تندم على اليوم الذي لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة، أو عناق، أو أنك كنت مشغولًا كي ترسل لهم أمنية أخيرة.

حافظ بقربك على مَنْ تحب، اهمس في أذنهم أنك بحاجة إليهم، أحببهم واعتن بهم، وخذ ما يكفي من الوقت لتقول لهم عبارات مثل: أفهمك، سامحني، من فضلك، شكرًا، وكل كلمات الحب التي تعرفها، لن يتذكرك أحد من أجل ما تضمر من أفكار، فاطلب من الربّ القوة والحكمة للتعبير عنها. وبرهن لأصدقائك ولأحبائك كم هم مهمون لديك."

كانت هذه كلمات الأديب الكبير الذي رحل عن دنيانا منذ ساعات، جابرييل جارسيا ماركيز، الذي كان إنسانيا في كتابته، يأخذ الحياة ببساطة رغم عمق تأملاته بها، يدعو للحب والتسامح، ويحث على السلام، وفاته سببت آلاما للعالم بأسره، رغم أنه خلد بقاءه بأعماله التي قدمها؛ لذا أصبح بقاؤه دائما في عمر التاريخ، وهو الذي قال..

"لو شاء الله أن ينسى أنني دمية، وأن يهبني شيئًا من حياة أخرى، فإنني سوف أستثمرها بكل قواي. ربما لن أقول كل ما أفكر به، لكنني حتمًا سأفكر في كل ما سأقوله، سأمنح الأشياء قيمتها، لا لما تمثله، بل لما تعنيه، سأنام قليلًا، وأحلم كثيرًا، مدركًا أن كل لحظة نغلق فيها أعيننا تعني خسارة ستين ثانية من النور، سوف أسير فيما يتوقف الآخرون، وسأصحو فيما الكلّ نيام".

هل تراه سيفعل الآن، حين يصحو الجميع وينام هو؟!، كلماته تهون على محبيه في أرجاء العالم فراقه، هي عزاؤهم حين تشتد عليهم آلام الفراق.


طفولة ماركيز عانقت تعثره الدراسي...

كان ماركيز يعبر إلى قريته عبر مركب مخلع ذي محرك واحد ليدلف منه عبر ممر مائي، كان دائما ما يصفه بأنه أذرع العبيد ليصل إلى أكاركاتا بلده، لذا كانت القرية لدى ماركيز مكانا لتذكر طفولته التي كان تحتل فيها أمه مساحه خاصة بوجها الروماني الجميل، لقد وُلد ماركيز لأم متدينة كانت المسبحة لا تفارق يدها، وهي دائمة الصلاة لتدعو لأولادها الاثني عشر بطول البقاء، هكذا كان يتذكرها "ماركيز"، وهو يحكي في سيرته الذاتية "عشت لأروي" كيف كانت طفولته معها.

وكما عودتنا الأم على أنها مصدر الحنان لأي مبدع يظل الكاتب مرتبطا بها ارتباطا نفسيا وعاطفيا دائما، ما كان ينعكس على الصور التي تمر عبر ذاكرته عن القرية، وإذا استدعى ماركيز صورا من طفولته يحن لأوقاته مع أمه التي كانت تمتلك صلابة نادرة، صلابة تشبه كثيرا من شخصيات أمهاتنا، وهي تحذو بأطفالها لتحنو عليهم، وفي الوقت نفسه تتحول إلى رجل صلب يمنع تكرار الأخطاء لو أخفق أطفالها في النجاح، وهذا دائما كان مصير "ماركيز" مع أمه، فلم تتحمل إخفاق ابنها الدائم في دراسته، بعد ست سنوات قضاها متعثرا في دراسته الجامعية، وكان ذلك سبب الخناقات المتتالية بينه وبين أبيه، في تلك اللحظات كانت الأم تخفي حنانها المنهمر وتواجهه بهذا الفشل وهي غير راضية، كانت تتحول ملامح وجهها إلى أسد مكتمل الأركان، وهي ترى ابنها في هيئته بسبب الفقر مجرد صانع أحذية؛ نظرا لأن عناده المستمر ورغبته العارمة في ممارسة الحياة، كما يريدها لا كما تريدها العائلة جعلته في جبهة الفوضويين.

يقول عن طفولته: ميولي منذ الطفولة، كانت تتيح الافتراض بأنني قد أصير رسامًا، موسيقيًا، مغنيًا في الكنيسة، أو شاعرًا جوالًا في أيام الآحاد. وكنت قد اكتشفت ميلًا معروفًا لدى الجميع، إلى أسلوب في الكتابة، أقرب إلى التلوي والرقة الأثيرية، ولكن ردّ فعلي في هذه المرة، كان أقرب إلى المفاجأة، فقد أجبت أمي: إذا كان علي أن أصير كاتبًا، فلا بد لي من أن أكون أحد الكبار".

ولقد كان يقول عن نفسه في مرحلة الشباب وهو يسخر من تدني حالته المادية: " لقد سبقت الموضة فقد كنت ذا شارب كثيف خشن، وشعر مشعث، سبقت الموضة بعشرين عاما، وقمصان مزركشة بأزهار غير مناسبة، وصندل عاج".


فوكنر يعلم ماركيز كتابة أسطورته......

كانت العلاقة بين الكاتب الأمريكي "وليم فوكنر" و"ماركيز" علاقة محرضة دائما على الخيال، علاقة التأثر كانت واضحة وتتجلى في كل كتابات ماركيز، يعترف الأخير أنه تأثر بفوكنر فيما يتعلق بخلق الأسطورة، وكما استطاع فوكنر أن يخلق من جغرافيا يوكنا باتوفا التي عاش فيها، استطاع "ماركيز" أن يخلق هو كذلك من عالم "ماكوندو" قريته الصغيرة أرضا واسعة لخياله ليجعل العالم ينظر إلى تلك القرية بدهشة لا مثيل لها، وهذا ما جمع كلا من فوكنر وماركيز، الأسطورة كانت حاضرة في كل كتابات ماركيز، وخاصة فيما يتعلق بالموت، سنجد تأثيرا واضحا لفوكنر الذي احتفت عوالم شخصياته بالموت والانتحار لأبطال رواياته، وهذا ما يتجلى بوضوح في رواية "ماركيز" "موت معلن"، "الجنرال في متاهة"، يعترف ماركيز بالتأثر، وإذا عدنا إلى الخطاب الذي ألقاه حين فاز بجائزة "نوبل" سنجده يقول:" هنا وقف معلمي ويليام فوكنر".


ماركيز والموسيقى.....

لم تكن أنامل ماركيز تكتب دون موسيقى. يعترف في سيرته الذاتية "عشت لأروي": لقد توصلت لمعجزة عدم الشعور بالضيق من أي نوع من الموسيقى. تأثر "ماركيز" بعدد كبير من الموسيقيين أمثال" كتلانيين، شاين ودؤوين، وعندما كتب روايته "خريف البطريرك" لازمه كونشيرتو البيانو الثالث "لابيلا بارتوك"، الذي دائما ما كان يعترف أنه كان يسمعه دون توقف، وكان يوليه حالة خاصة جدا من الحماسة، وعندما تسلم ماركيز جائزة "نوبل" أسعده كثيرا اللفتة الرقيقة التي قامت بها الأكاديمية السويدية التي وضعتها في الخلفية عند تسلمه الجائزة، وفي بيت ألغارو كان يهوي ماركيز سماع الموسيقى في أمسيات الآحاد. كان يستلقي على السجادة ليسمع معه كبار الموسيقيين دون تأملات نظرية حكيمة، وبعدما اختمر نضج ماركيز لتذوق الموسيقى لازمته موسيقى "الحجرة الخامسة" التي كان يعتبرها ذرة الفنون، والاستهلالات لديبوس، ويليه ذلك اليوم لفرقة البيتلز، وعلى الرغم من حبه للموسيقى كان يعاني ماركيز من محدودية الكتابة عنها.


ماركيز وحلم النقد السينمائي الضائع.....

ما يجعل لماركيز حلاوة نادرة في أسلوبه السردي يكمن في أنه كان يعشق التجريب في الكتابة في مجالات مختلفة عن السرد الأدبي. فمرة نقرأه يتمرد على تصنيفه كقاص، وعندما يشرع في استنزاف كتابة القصة يبدأ مرحلة جديدة يقتحم فيها مجال الرواية، وبعدها يقتحم مجال النقد السينمائي، لكن المشكلة التي كانت تواجهه هو غياب الأفلام النوعية، والتي كان يحب ماركيز الكتابة عنها، وفي نفس الوقت كان يرفض أن يتجه للكتابة عن الأفلام السائدة في ذلك الوقت والتي كانت تعتمد على الإثارة والمرح، ما صعب مرحلة توقه إلى أن يكون ناقدا سينمائيا، ولكن واقع مختلف قاده لأن يكون ناقدا سينمائيا، ولم يخطر على باله ذلك في أي وقت.. الصدفة وحدها هي من قادته بمسرح "أوليمبيا"، والذي كان يملكه "دون أنطونيو جاكوتني" في آركاتاكا، وفي مدرسة "ألغارو سبيد" تلقى ملاحظات توجيهية سينمائية قادته للكتابة عن السينما، ومن يقرأ رواياته سيشعر بهذا التداخل السينمائي في مشاهده السردية. سيشعر كل من يقرأ ماركيز أن هناك كاميرا تلازم ما يكتبه وتنعكس بقوة في إحساس المتلقي لأدبه، ما يجعل نكهته ككاتب مختلفة بعض الشيء عن أقرانه من الكتاب، ومميزة في الوقت ذاته.


ماركيز ومهمة المحقق الصحفي

من يشعر أنه مكتفٍ بموهبته فلا يمكن أن يرنو إلى التميز. الإحساس بالنقص في حد ذاته سعي للاكتمال، هكذا كان حال ماركيز في مشواره الذي كان يحلم عبره لأن يكون محققا صحفيا يختلف عن أبناء جيله في الصحافة. القدرة على الحكي ليست بالأمر الهين، وضرورية في الوقت ذاته للكتابة في الصحافة، ولكن أهم ما يمكن أن يمتلكه محقق صحفي غير ما سبق. هو الإيجاز، وكما تصنف الصحافة على أنها كتابة السهل الممتنع. يصبح المحقق الصحفي الذي يتخصص في كتابة التحقيقات له مكانه خاصة في مجال الصحافة لا يستطيع كاتب موهوب أن يجاريه فيه، لو لم يدرك أدوات كتابة تحقيق يفجر قضايا هامة، ولكنه يكتب بإيجاز وباتجاه هذا الحلم كان يقر ماركيز بقوله: ليس هناك أفضل من التحقيقات الصحفية للتعبير عن الحياة ."

ولكن العناد الذي جمعه بسالغار، رئيس تحريره ومعلمه، الذي كان يراه يفرط في الغناء داخل الكتابة، وهذا ما جعله يردد دائما له عندما يفرط في الوصف: "الو عنق هذه البجعة"، وكان يقصد من خلال عبارته أن يقوم تلميذه بتعلم الإيجاز لخوض التدريب على كتابة التحقيقات الصدامية. كانت أول محاولة لاقتحام مثل هذه التحقيقات الصدامية هو الصراع الذي نشب بين قوات الجيش ومجموعة من الطلاب الذين كانوا يعترضون على عسكرة الشرطة عام ١٩٥٤ في شارع الحي السابع. هنا حدثت مواجهة بين الطلاب المحتجين على مقتل طالب، وكان أول صدام بين الجيش والمدنيين، وكان المهزوم فيها بالطبع الطلاب الذين سقطوا قتلى بسبب إطلاق الرصاص الحي. كان ماركيز الصحفي الوحيد في جريدته الذي حضر الواقعة، وكان شاهدا على مقتل الطلاب، وعندما قص المشاهد التي رآها حرضه معلمه "سالغار" على كتابة تحقيق صحفي عن هذه المشاهد في سياق عودة العسكرة للبلاد، وعندما كتب ماركيز التحقيق رفض معلمه أن يكتب اسمه فقط عليه، ولكنه ضمنه مع عدد من التقارير التي لازمت مشاهداته لزملائه، وعلى الرغم من العلاقة الطيبة التي جمعت ماركيز بمعلمه، إلا أنها لم تنجح في أن يعترف به محققا صحفيا للقضايا الصدامية، وظل الحلم يراود روح ماركيز دائما ليتعرف بقصوره في بلوغه.


القاصّ الذي وُلد في زمن الشعر.....

في الوقت الذي ركض فيه ماركيز باتجاه القصة كانت كولومبيا وأمريكا اللاتينية بأكملها تتغنى بالشعر. لقد كان يحتل الأخير مساحة متفردة في قلب سكان كولومبيا. وكان بابلو نيرودا وعدد كبير من شعراء أمريكا اللاتينية قادرين دائما على إثارة الدهشة بقصائدهم السياسية الملتهبة، ووسط هذا الزخم الشعري أصر "ماركيز" أن يقتحم عالم القصة، وكان يشعر بالوحدة وهو يعرف أنه يختار طريقا صعبا لم يكن الواقع السياسي في ذاك الوقت ولا الاجتماعي يجنح له. كان سكان أمريكا اللاتينية يحفظون عن ظهر قلب "قصيدة بؤس بشري" الشعبية والأكثر شهرة في منطقة الكاريبي، ولكن من يتتبع بدايات "ماركيز" سيجد أنه كذلك لم يسلم من الغرام بالشعر. هو نفسه خاض تجارب وصفها بالطفولية، وهو يجرب هذا الفن الذي كان لديه حضور واسع في منطقة الكاريبي، لكنه كان يكتب قصائده دون أسماء أو بأسماء مستعارة. يعترف في مذكراته: "كولومبيا كانت تحن إلى العهد الاستعماري، ولم يكن لديها طاقة لتحمل القصص الغارقة في الثرثرة".

متعة ماركيز باتجاه الشعر لم تتوقف رغم أنه لم يقطع شوطا في كتاباته ربما الأسماء المشهورة جعلته يخجل من إعلان نفسه كشاعر، لكنه لم يكن في الوقت نفسه غبطة على الشعراء كان يحبهم كثيرا، وفى أمسيات الآحاد كانت متعته الخاصة أن يركب حافلات الترام ذات الزجاج الأزرق ليقرأ كتب الشعر، وكانت جداة تشيلي هي الطريق الذي يعبر من خلاله برفقة الشعر في أمسيات مراهقته.

صديقه "غونثا لوماياريتو" كان يعقد معه دائما مبارزة حول الشعر، ويتحدان بعضهما. الأول ينظم أشعار الكلاسيكيين الإسبان والثاني يفتح النار على ذيول القرن السابق البلاغيين. كل بدايات المراهقة لم تسلم من كتابة سونيتات غرامية متخيلة على طريقة جماعة "حجر وسماء" التي كانت تؤلف الشعر في جامعته، والتي كان تؤثر عليه بشكل كبير في كتابته للشعر قبل أن يتخلى عنه ويعترف أنه خلق ليقص ويحكي.


شهرة فاقت المدى

بدأت شهرة جارثيا ماركيز العالمية عند نشره لروايته مئة عام من العزلة في يونيو عام 1967، وفي أسبوع واحد، بِيعت ثمانية آلاف نسخة. ومن هذا المنطلق، بدأ نجاحه على نطاق أكبر، وكان يتم بيع طبعة جديدة من الرواية كل أسبوع، وصولًا ببيع نصف مليون نسخة خلال ثلاث سنوات، كما تم ترجمتها إلى أكثر من عشرين لغة وحازت أربع جوائز دولية.

ووصل ماركيز لقمة النجاح وعرفه الجمهور عندما كان بعمر الأربعين، وكان جليًّا تغير حياته بعد المراسلات بينه وبين محبيه والجوائز والمقابلات التي أجريت معه. وفي عام 1969، حصل على جائزة "كيانشانو" عن رواية "مئة عام من العزلة"، والتي اعتُبرت "أفضل كتاب أجنبي" في فرنسا.

وفي عام 1970، نشرت الرواية باللغة الإنجليزية واخُتيرت كواحدة من أفضل اثني عشر كتابًا في الولايات المتحدة في هذا العام. وبعدها بسنتين، حصل على جائزة رومولو جايجوس وجائزة نيوستاد الدولية للأدب. وفي عام 1971 قام ماريو بارغاس يوسا بنشر كتاب عن حياة وأعمال ماركيز. وعاد جارثيا ماركيز للكتابة للتأكيد على هذا النجاح. وقرر أن يكتب عن ديكتاتور، وانتقل مع أسرته إلى مدينة برشلونة بإسبانيا، حيث أمضى حياته تحت حكم فرانسيسكو فرانكو في سنواته الأخيرة، وكتب "خريف البطريرك".


أنا الآخر

كتب ماركيز عن بعض المفارقات والمواقف الغريبة التي تحدث في حياته اليومية، ففي مقاله "'أنا الآخر" من كتاب "كيف تكتب الرواية ومقالات أخرى"، يخبرنا أنه استيقظ ذات يوم من نومه في مكسيكو، قرأ في إحدى الصحف مقالا يتحدث فيه صاحبه عن أن ماركيز قد ألقى محاضرة في جزر الكناري، أي على الطرف الآخر من المحيط الأطلسي. ويقول ماركيز: إن المراسل الصحفي صاحب المقال لم يكتف بإيراد رواية مفصلة للحدث فقط، بل إنه قدم كذلك موجزا موحيا لمحاضرة ماركيز المزعومة.

ويعترف جابرييل جارسيا ماركيز بدهاء الكاتب المبدع، أن أكثر ما فتنه في مقال المراسل الصحفي هو أن الموضوعات المطروحة المزعومة كانت أكثر ذكاء مما يمكن أن يخطر لماركيز!. ويضيف أن الطريقة التي عرضت بها كانت أكثر جاذبية مما يستطيعه ماركيز نفسه، وأن ما كتبه المراسل الصحفي لم يجد فيه ماركيز سوى عيب واحد وحيد، فماركيز لم يكن في جزر الكناري، لا في اليوم الفائت، كما ادعى صاحب المقال، ولا خلال السنوات الاثنتين والعشرين الماضية، كما أنه لم يلق في حياته، محاضرة واحدة حول أي موضوع في أي مكان من العالم. ورغم كل شيء لا يبدو على ماركيز أنه تبرم من هذا التصرف غير المسئول من مراسل صحفي ادعى حقيقة مختلقة!.

يقول ماركيز في هذا الكتاب: كثيرا ما يجري الإعلان عن حضوري في أماكن لا أكون فيها، وتقودني الصدف وحدها لأن أقرأ في صحف لا تخطر على بال، مقابلات معي لم أقدمها على الإطلاق، لكنني لا أستطيع إنكارها لأنها تعبر بنزاهة، وسطرا سطرا، عن أفكاري. بل إن أفضل مقابلة معي نشرت حتى اليوم، وكانت تعبر خير تعبير وبأكثر الأساليب وضوحا عن أشد منعطفات حياتي تعقيدا، ليس في مجال الأدب وحسب وإنما كذلك في السياسة، وفي ذوقي الشخصي، وفي أفراح قلبي وأتراحه، هي تلك المقابلة التي نشرت منذ فترة في صحيفة مغمورة تصدر في كاراكاس، وكانت مختلقة حتى النفس الأخير منها، وبالتوقيع الكامل لامرأة لا يعرفها ماركيز، ولكنه يؤكد 'لا شك في أنها تحبني كثيرا كي تعرفني إلى هذا الحد، حتى ولو كان ذلك من خلال أنا الآخر فقط".

يذكر أن ماركيز عاش 30 عاما في المكسيك، لكنه لم يظهر في مناسبات علنية في السنوات القليلة الماضية إلا نادرا. ومنذ نحو عامين، أعلن أخوه الأصغر جايمي لأول مرة أن جارسيا ماركيز أصيب بالخرف وأنه توقف عن الكتابة.

ومن الروايات الأخرى الشهيرة للمؤلف الراحل "الحب في زمن الكوليرا" و"وقائع موت معلن" و"الجنرال في متاهته".

وفي الختام نتذكر ما كتبه ماركيز: " لا تتوقف عن الابتسام حتى وإن كنت حزينا فلربما فتن أحد بابتسامتك".


تعلمنا منك أكثر

"تعلمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل، غير مدركين أن سرّ السعادة تكمن في تسلقه. تعلّمت أن المولود الجديد حين يشد على إصبع أبيه للمرّة الأولى، فذلك يعني أنه أمسك بها إلى الأبد. تعلّمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف. تعلمت منكم أشياء كثيرة! لكن، قلة منها ستفيدني، لأنها عندما ستوضع في حقيبتي أكون أودع الحياة".

تعلمنا منك أكثر يا ماركيز، تعلمنا التعبير عن مشاعرنا ببساطة دون خجل، وبأريحية، أدركنا معك وعبر كتاباتك أن الثانية مؤثرة وتفرق في الحياة كثيرًا!.

يمكننا تلخيص سر نجاحه وإبداعه فيما قاله عن نفسه: "من عرفوني وأنا في الرّابعة من عمري، يقولون إنني كنت شاحبًا ومستغرقًا في التأمل، وإنني لم أكن أتكلم إلا لأروي هذيانات. ولكن حكاياتي، في معظمها، كانت أحداثًا بسيطة من الحياة اليومية، أجعلها أنا أكثر جاذبية بتفاصيل متخيلة، لكي يصغي إليّ الكبار. وكانت أفضل مصادر إلهامي هي الأحاديث التي يتبادلها الكبار أمامي؛ لأنهم يظنون أنني لا أفهمها. لكن الأمر كان خلاف ذلك؛ فقد كنت أمتصها مثل إسفنجة، وأفككها إلى أجزاء، وأقلبها لكي أخفي الأصل؛ وعندما أرويها للأشخاص أنفسهم الذين رووها تتملكهم الحيرة للتوافق الغريب بين ما أقوله، وما يفكرون فيه"!.


شعبية طاغية

أدت شعبية كتابات ماركيز إلى تكوينه صداقات عدة مع الزعماء الأقوياء، ومنها الرئيس الكوبي السابق فيدل كاسترو، وبالمثل مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، إضافة إلى توافقه مع الجماعات الثورية في أمريكا اللاتينية وخصوصًا في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.

وفي مقابلة مع ماركيز عام 1982، أقر أن صداقته مع كاسترو تنصب بالأساس في مجال الأدب: "العلاقة بيننا ما هي إلا صداقة فكرية. ربما لم يكن معروفًا على نطاق واسع أن فيدل رجل مثقف. وعندما نكون معًا، نتحدث كثيرًا عن الأدب".

وإضافة إلى شهرته الواسعة التي اكتسبها من مؤلفاته، فإن وجهة نظره تجاه الإمبريالية الأمريكية أدت إلى اعتباره شخصًا مخربًا، ولسنوات عدة تم رفض إعطاءه تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة من قبل سلطات الهجرة. وبالرغم من ذلك، وبعد انتخاب بيل كلينتون رئيسًا للولايات المتحدة، تم رفع الحظر المفروض عليه للسفر إلى بلاده، وأكد كلينتون أن مئة عام من العزلة "هي روايته المفضلة".

وخلال الفترة ما بين عامي 1986 و1988، عاش جارسيا ماركيز وعمل في مدينة مكسيكو ولا هافانا وقرطاجنة. وبعد ذلك، وفي عام 1987 أقيم احتفال في أوروبا وأمريكا بمناسبة الذكرى العشرين لصدور الطبعة الأولى من مئة عام من العزلة.

ولم تقتصر مساهمات جارسيا ماركيز على الكتب فقط ولكنه أيضًا كان قد انتهى من كتابة عمله المسرحي الأول "خطبة لاذعة ضد رجل جالس" عام 1988. وفي عام 1988، صدر فيلم "رجل عجوز جدًا بجناحين عظيمين" عن قصته التي تحمل نفس الاسم.

وفي عام 1995، قام معهد كارو وكويربو بنشر مجلدين من مرجع نقدي عن جابرييل جارسيا ماركيز، وفي عام 1996، نشر جارسيا ماركيز خبر اختطاف، حيث جمع بين توجهه في الإدلاء بشهادته في الصحافة مع أسلوبه الروائي الخاص. وتمثل هذه القصة موجة هائلة من العنف وعمليات الاختطاف التي لا تزال تواجه كولومبيا.


عشت لأروي

يبدأ كتاب جابرييل جارسيا ماركيز "عشتُ لأروي" بعبارة استهل ماركيز كتابه فيها يقول: "الحياة ليس ما يعيشه أحدنا، وإنما ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويه".

الكتاب سيرة ذاتية، يخلط بها ماركيز سيرته بالخيال، فهو يتذكر حياته بتفاصيلها، يتذكر أولاد العائلة الكبيرة التي يرعاها أب كسول فاقد الحس بالمسئولية، يعرض ماركيز إلى وصف طفولتهم ومراهقتهم التي تأخذ أعراضها المضحكة والمبكية، مآخذ روائية فيها من السحر الكثير.

أفرد مركيز فصلا طويلا في تناول رفاق طفولته وصباه، فعرض إلى أسماء ذات شأن في الثقافة والجهاد السياسي الذي ساد في تلك الفترة، كما تذكر تأسيس أول مجلة ثقافية معهم، كما أخذ الحب الأول، والتجربة الجنسية الأولى مساحتهما في الكتاب.

يحكي عن أمه أنها كانت تمتلك حس السخرية والصحة الحديدية، كانت أكثر مزاياها "موهبة رقتها التي أتاحت لها إخفاء قوة طبعها الرهيب، إنها برج أسد مكتمل، وقد وفر لها ذلك فرص سلطة أممية تصل سيطرتها إلى أبعد الأقارب المقيمين في أماكن لا تخطر على بال، مثل نظام كوكبي تتحكم به من مطبخها، بصوت خافت ومن دون أن يرف لها جفن تقريبا، بينما هي تسلق قدر فاصوليا".

كانت مواقفه دالة على تمتعه بضمير كاتب حقيقي فقد أعلن ماركيز -الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1982م- عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني، وإدانته للمجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني.


أدباء ومثقفون: عن ماركيز الذي رحل..

لم تكن تبالغ د. سهير المصادفة، رئيس تحرير سلسلة الجوائز بهيئة الكتاب، في تصريحات خاصة، تعليقًا على رحيل ماركيز عندما قالت: "البقية في حياة الأدب كله، ماركيز هو الذي قلب وأضاف وغيّر الكتابة الأدبية، وهو الذي تدين له كل الأجيال التي أتت بعده وكانت مواكبة له بنقلة حقيقية في السرد"، مؤكدة أن الشاردين لن يخرجوا ببساطة من تأثيره، وفرط نوره لسنوات عديدة.

ووصفته المصادفة بأنه من الكبار الذين يضعون نقطة على ما تم إنجازه في السرد، ثم يبدأون في التأريخ من جديد، هكذا فعل، فهو من أساطين الكبار الذين ضافوا تقنيات وآليات، ويعد محطة جديدة في السرد العالمي.

تواصل: تحفته الرئيسة كما يقال هي "مئة عام من العزلة"، فلكل كاتب كما تشير تحفة فريدة في مشروعه الإبداعي، و"مئة عام من العزلة" تظل أيقونة ماركيز وتحفته، وزمردة في عقد أعماله الإبداعية، كذلك تحب له المصادفة "أحداث موت معلن"، و"خريف البطريرك".


عبدالمجيد: غير شكل الكتابة

وصفه الأديب الكبير إبراهيم عبدالمجيد بأنه روح الإنسانية التي غيرت في شكل الكتابة الأدبية، وحول الحياة إلى عجائبية بشكل مقنع دون ابتذال، مؤكدًا أنه يدعو له بالرحمة على قدر ما أسعدنا، معتبرًا أن أيقونته الفريدة هي "مئة عام من العزلة"، التي تظل هي الأهم بين أعماله العظيمة.


سلام: خسارة فادحة للجميع

وبنبرة ملأها الحزن، أعرب الشاعر رفعت سلام عن حزنه لرحيل ماركيز قائلًا: إنه ثروة ليست مقصورة على الروائيين فقط، ولكن ثراء إبداعاته وتعدد أبعادها أثرى كثيرًا من الشعراء، والفنانين التشكليين والموسيقيين، وبالتالي وفاته خسارة فادحة للجميع، خاصة أنه ظل متمسكًا بالكتابة حتى اللحظة الأخيرة من حياته.

يتابع: لا أنكر أني قد استفدت بالذات من "خريف البطريرك" روايته الشهيرة، واستندت إليها في كتابة تجربتي المنشورة بعنوان "إشراقات رفعت سلام"؛ فضلا عن إلهامات أخرى من شخصياته وعوالمه، ولعلي آخذ على المترجمين المصريين العارفين بالإسبانية، أنهم كانوا متأخرين في اكتشافه وكشفه لنا وتقديم أعماله واحدا تلو الآخر بدقة وسلاسة، وجعلونا دائما في انتظار ما يأتي من ترجمات أعماله من بيروت وغيرها، وربما لم ينشر لدينا من أعماله بترجمة مصرية سوى عملين رغم غزارة إنتاجه الإبداعي.


فؤاد: "لن يرحل أبدًا"

من جانبه، يؤكد الشاعر زين العابدين فؤاد، أن ماركيز "لن يرحل أبدًا"، فالكتاب برأيه لا يموتون خصوصا إذا كان لديهم إنجازات عظيمة، سيظلون باقين طوال عمر التاريخ وعمر القراءة والكتابة، فما زلنا إلى الآن نقرأ مسرح يوناني، ونقرأ دانتي وأبو العلاء المعري، وشعر ما قبل الإسلام.

يتابع: قدم ماركيز عمل معجز في الواقعية السحرية، وقد رأيته -يواصل فؤاد- في مؤتمر للسلام في كولومبيا، حضوره مؤثر وكتاباته فتح كبير في الرواية، وأثرت على جيل كبير من الكتاب في العالم كله، معتبرًا "مئة عام من العزلة" هي الأقرب بين أعماله إلى قلبه، قائلًا إنه رأى الأماكن الطبيعية التي كتب عنها ماركيز في روايته "الحب في زمن الكوليرا".