الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

إسرائيل تحاصر الدول العربية باتفاقيات أمنية مع الصين لمدة 35 عامًا.. وتعاون وثيق في المجال الاستخباراتي مع بكين.. وتل أبيب تبحث عن بديل استراتيجي للولايات المتحدة

إسرائيل تحاصر الدول
إسرائيل تحاصر الدول العربية باتفاقيات أمنية مع الصين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"الصين والهند دول عُظمي في المستقبل"... عبارة قالها رئيس الوزراء الإسرائيلي "ديفيد بن جوريون" في خمسينيات القرن الماضى، متنبئًا لتلك المنطقة بأن تكون ذات أهمية استراتيجية بالغة بفضل قوتها البشرية الهائلة، مؤكدًا أن الهند والصين ستصبحان في غضون عدة عقود، دولتين عظميين، على حساب الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية، وتكهن أن تفقدا تدريجيًا مكانتهما ونفوذهما على الساحة الدولية.
تلك العبارة لم تكن مجرد كلمات عابرة كتلك التي تعودنا عليها في عالمنا العربي، بل إنها كانت مدروسة بشكل "جيواستراتيجي" أو ما يمكن أن نطلق عليه السياسة الخارجية الموجهة حسب التغيرات الدولية، لأنه كان يعلم جيدًا أن الدولة العظمى اليوم لن تكون كذلك في المستقبل، وبما أنها كيان صنعته دولة عظمي سابقة، وتدعمه دولة عظمى حالية، فكان من الطبيعي أن تبحث عن دولة عظمى تساندها في المستقبل إذا ما ضعف نفوذ من يدعمها اليوم.
المعروف أن الكيان الصهيوني، لا يتخذ قرارًا فجائيًا في استراتيجيته، بل إن قرار الاتجاه شرقًا إلى قوى عظمي كان مخططًا وبعد دراسة وتوقعات وفقًا لمفاهيم علمية سياسية عن ماهية البلد الذي يحتمل أن يصبح قوة عظمي في المستقبل، خاصة أن الجمهورية الصينية عندما أطلقت تلك العبارة في خمسينيات القرن الماضي لم تكن دولة ذات ملامح تنبئ بأنها ستصبح قوة عظمى في المستقبل القريب، بل كانت توفد الكثير من البعثات لتتعلم من الشرق الأوسط كيف تصبح دولة، ولكن "بن جوريون" كان يحمل بُعد نظر كبيرًا وفقًا للدراسات التي أجرتها مراكز الأبحاث الإسرائيلية.
أما نحن العرب فعادة لم نهتم ولم نلتفت إلى مثل هذه الأمور، ولم ندرس من ستصبح دولة عظمى، ومن سيكون له قدرة على التأثير في الرأي العام العالمي، وكالعادة تركنا الساحة فارغة للاعب الإسرائيلي ليصول ويجول هنا وهناك دون رؤية لما تخطط له تلك الدولة المتطفلة على الكيانات العظمى، والتي تبحث دائمًا عن دولة كبرى تحمي وجودها إذا ما غاب داعميها في أي وقت من الأوقات.

في شهر يناير من عام 1950 كانت إسرائيل أول دولة بالشرق الأوسط تتجه إلى الصين الشعبية في محاولة منها لترسيخ وتوطيد علاقاتها بتلك القوى الصاعدة، إلا أن الصين وقتها اكتفت برسالة شكر للحكومة الإسرائيلية، لأنها كانت إبان تلك الفترة إحدى الدول الداعمة للقضية الفلسطينية ومصر، خاصة إبان العدوان الثلاثي عام 1956، ما جعل الكيان الإسرائيلي يتنبه إلى أنه يمكن أن تمثل تلك القوى الصاعدة شوكة في ظهرها وتفسد عليها مخططاتها الاستعمارية بالمنطقة.
الغريب أن المخطط الذي رسمه "بن جوريون" لم يستمر، حيث إنه مع بدء العلاقات بين تل أبيب وبكين اتخذت الأخيرة موقفًا حادًا من إسرائيل، إثر موقفها الداعم للحرب الكورية في مطلع الخمسينيات، ووقوفها إلى جانب الولايات المتحدة، داعمة إرسال قوات أممية إلى كوريا، وهذا ما جعل الصين تنظر لها كدولة حليفة للاستعمار وأداة من أدواته في منطقة الشرق الأوسط.


وإثر هذا الموقف الإسرائيلي الذي أزعج الصينيين، قامت بكين بتأييد مصر وساندتها ضد العدوان الثلاثي عام 1956، ورسمت الصين مواقف واضحة لسياستها الداعمة للحقوق العربية والمعادية للاحتلال الإسرائيلي في مؤتمر باندونج في العام نفسه، ورفض الطلب الذي تقدم به وفد الحزب الشيوعي الإسرائيلي أثناء حضوره المؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي الصيني في سبتمبر 1956 والداعي إلى إقامة علاقات دبلوماسية قوية مع إسرائيل.

وفي ستينيات القرن الماضي وبالتحديد في عام 1962 اشتدت العلاقات الصينية - الإسرائيلية سوءًا، بسبب وقوف إسرائيل إلى جوار الهند ومدها بجميع أنواع الأسلحة في حربها ضد الصين، ولإقامتها لعلاقات وثيقة مع دولة تايوان "الصين الوطنية" ومع كل دول جنوب شرقي آسيا الموالية لأمريكا والمعارضة للصين.
وردت الصين لإسرائيل الصاع صاعين جراء هذه القرارات المستفزة، فقامت بعمل علاقات سرية مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وكرست لهذه العلاقات من خلال استقبال رئيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1965 واعترفت بالمنظمة كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني وافتتحت مكتبًا تمثيليًا للمنظمة في العاصمة بكين يتمتع بكامل الحقوق الدبلوماسية، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل قامت الصين بدعم المقاومة الفلسطينية في نضالها ضد الاحتلال عسكريًا وماديًا.
لكن سرعان ما تنبهت تل أبيب إلى أنها بتصرفاتها أصبحت تعادى دولة عظمى صاعدة وفقًا لنبوءة بن جوريون.

ومن هنا قامت إسرائيل بالتصويت لصالح قبول الصين في منظمة الأمم المتحدة في أكتوبر عام 1971، واستغلت تل أبيب التقارب الصيني- الأمريكي، الذي تبلور بعد زيارة الرئيس الأمريكي للصين عام 1972، وخفف من حدّة العداء، ولم يَعُد هناك عقبة أمام "الدولتين" في إقامة علاقات دبلوماسية، وبعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، قامت على إثرها تل أبيب بتحسين وتوطيد علاقتها ببكين.
أما الخطوة التي فتحت الباب على مصراعيه في تاريخ العلاقات، فكانت سقوط الجناح اليساري في الحزب الشيوعي الصيني والمتمثل في "عصابة الأربعة" عام 1976، وصعود الجناح الانفتاحي على قيادة الحزب عام 1978، والذي أعاد مد جسور الثقة وإقامة العلاقات مع الدول التي كانت بالأمس تعتبرها الصين من القوى الرجعية الموالية للإمبريالية الأمريكية كإسرائيل وكوريا الجنوبية وغيرهما، واتخذت مواقف "معتدلة" وانتهجت سياسة "مرنة" إزاء العديد من المشكلات الدولية بصفة عامة والصراع العربي- الإسرائيلي بصفة خاصة.
وبالتزامن مع ذلك كانت الخلافات قد تفاقمت بشدة بين أكبر دولتين شيوعيتين في العالم، وهما الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية، الأمر الذي كان من مصلحة الصين كبح توغل موسكو في شرق آسيا، ونظرًا لأن إسرائيل تقف في وجه التوغل السوفيتي في الشرق الأوسط، فإن الصين وجدت نفسها تقف في معسكر واحد مع إسرائيل، وهنا بدأ أول اتصال رسمي معلن بين إسرائيل والصين عام 1978 عندما اجتمع مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة مع وكيل وزارة الخارجية الإسرائيلية.


ورغم هذا الانفتاح في العلاقات، فقد ظلت الصين تتحفظ على إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل، حيث رفضت إقامة علاقات دبلوماسية مع الأخيرة، ولكنها عدلت عن ذلك في عام 1992، وسمحت بفتح مكتب تمثيل دبلوماسي لإسرائيل على أراضيها، ومنذ ذلك الحين تعززت العلاقات السياسية بين البلدين.
واستكمالًا لسيناريو العلاقات التي تربط بين تل أبيب وبكين التي أزعجت واشنطن على طول الخط، بلغ حجم التبادل التجارى بين إسرائيل والصين عام 2013 ثمانية مليارات دولار، وبلغ حجم التصدير الصيني لإسرائيل 5.5 مليار دولار، أما حجم التصدير الإسرائيلي للصين فقد بلغ في العام الماضي 2.5 مليار دولار تقريبا.
وكانت الدولتان قد وقعتا 3 اتفاقات للتعاون المصرفي بينهما كان آخرها عام 2010، كما وقعتا في العام ذاته على اتفاق للتعاون في مجال البحث والتطوير وآخر للتعاون في مجال المواصفات لتسهيل عملية التبادل التجاري بينهما.
وكالعادة لم يستمر شهر العسل بين إسرائيل والصين، فقد تدخلت الولايات المتحدة لتفسد عليهما صفو العلاقة، وبرغم من نمو العلاقات التجارية بين البلدين، فقد تضررت العلاقات السياسية بين إسرائيل والصين، عقب إقدام الأولى في عام 2000، على إلغاء صفقة لتزويد الصين بطائرات "فالكون" من جانب واحد، واضطرت إلى دفع تعويضات للصين قدرها 350 مليون دولار، وذلك بضغط من الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، الذي هدد بتقليص المساعدات العسكرية لإسرائيل، واشترط عقد مؤتمر كامب ديفيد بين إسرائيل والفلسطينيين في صيف عام 2000 لإلغاء هذه الصفقة.
وهنا عمدت الحكومة الصينية إلى تقليص اتصالاتها مع جهات رسمية إسرائيلية، وعمدت إلى اتخاذ قرارات معادية لإسرائيل في الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن الدولي، لدرجة أنها صوتت في مجلس حقوق الإنسان الدولي أواخر عام 2009، لصالح تقرير "جولدستون" الذي أدان تل أبيب واستخدامها المفرط للقوة واستهداف المدنيين واستخدام أسلحة محرمة دوليًا خلال عملية الرصاص المصبوب ضد قطاع غزة.
ومن ضمن العوامل التي أدت إلى تدهور العلاقات بين تل أبيب وبكين، تمسك الأخيرة بالاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع بعض دول الشرق، وعلى رأسها إيران المعروفة بمواقفها العدائية لإسرائيل، بل إن بكين أقدمت على إحباط أي محاولة لتشديد وطأة العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على إيران؛ نظرًا لعلاقاتها المتوترة مع الولايات المتحدة.

الغريب أنه منذ عامين تقريبًا استأنفت العلاقات بين الصين وإسرائيل، وظهر هذا جليًا في زيارة قائد الأسطول الصيني لإسرائيل في شهر مايو عام 2011، وما أعقبها من زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك للصين في الشهر التالي، وأخيرًا زيارة رئيس أركان الجيش الصيني لإسرائيل في شهر أغسطس من العام ذاته، ورغم ذلك تمتنع إسرائيل عن توثيق علاقاتها العسكرية مع الصين إلى مستوى قد يثير ريبة الولايات المتحدة مرة أخرى تفاديًا لتعكير صفو علاقاتها الاستراتيجية بينهما.
في البداية أكد الدكتور طارق فهمى، رئيس الوحدة الإسرائيلية بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن هناك مصالح مشتركة بين تل ابيب وبكين على رأسها تصدير تكنولوجيا الأسلحة والمعدادت النووية والطائرات دون طيار وتكنولوجيا الأقمار الصناعية، إلى جانب اتفاقيات أبرمتها الصين مع إسرائيل سيتم بموجبها عمل تعاون على كل الأصعدة خلال الـ35 عامًا المقبلة.
وأضاف فهمى، أن التقرير السنوي للدولة العبرية التي تصدره إسرائيل، أوضح أن علاقات إسرائيل بالصين في المجال الاستخباراتى والأمنى من أفضل العلاقات الثنائية الأمنية على مستوى العالم، لافتًا إلى أن ما يحكم العلاقات بينهما ضوابط أمنية واستخباراتية تعززت في وجود صفقات التبادل التجارى الكبرى.
وشدد فهمي، على أن إسرائيل لا يمكنها التخلى عن أمريكا والاتجاه إلى الصين، رغم وجود مؤشرات قوية للاتجاه لبكين، مشيرًا إلى أن هناك مصلحة صينية في توطيد العلاقات لفتح سوق لأسلحتها بإسرائيل والترويج لها على أنها صناعة إسرائيلية في منطقة الخليج العربى.
وأوضح السفير محمد عاصم، سفير مصر السابق لدى تل أبيب، أن حجم التبادل التجارى بين إسرائيل والصين وصل إلى 7 بلايين دولار خلال الأعوام الأخيرة، وهو ما يعكس طبيعة العلاقات الحالية بينهما.
وأضاف عاصم، أن لكل من الطرفين مصالح مباشرة مع الآخر، موضحًا أن إسرائيل تسعى لتوطيد علاقتها مع الصين للحصول على دعم مادى واقتصادى، إضافة إلى تكنولوجيا المعلومات التي تأخذها إسرائيل وتجرى تعديلات عليها لجلعها ذات قدرة أعلى وتنافس المنتج الأصلى من خلال دعمها بوسائل تكنولوجية إسرائيلية أحدث، كما أن الصين أيضًا لديها مصالح جلية في علاقتها بإسرائيل وعلى رأسها الحصول على التكنولوجيا والأسلحة الحديثة الأكثر ذكاءً ومن ضمنها الطائرات دون طيار وتكنولوجيا الرى التي برعت فيها إسرائيل، إضافة إلى إقامة نفوذ لها في منطقة الشرق الأوسط، لافتًا إلى أن إسرائيل غير قادرة على الاتجاه للصين في مقابل الابتعاد عن أمريكا، موضحًا أن هناك 5.5 مليون يهودى يعيشون بالولايات المتحدة وهم يمثلون ورقة ضغط على السياسية الأمريكية، مبينًا أنه على الرغم من صعود الصين ورغبة إسرائيل في إقامة علاقات قوية معها خصوصًا في المجال الأمنى والعسكري إلا أنها لا تخطو خطوة إلا بعد موافقة الجانب الأمريكي.
وأرجع الدكتور جمال زهران، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة حلوان، اتجاه إسرائيل نحو الصين، إلى التعاون الأمنى والاستخباراتى وتبادل صفقات الأسلحة الضخمة، والعلاقات التجارية التي تجمع بينهما.
وأضاف زهران، أنه أعد دراسات سابقة حول التوجه الإسرائيلي للصين ووجد أن تل أبيب تحاول دائمًا غزو المناطق التي كانت داعمة للعالم العربي مثل كوريا وماليزيا وإندونسيا والصين واليابان، مشيرًا إلى أن الدبلوماسية الإسرائيلية حاولت على مدى عقود ماضية اختراق آسيا لكسب ودها والاستفادة منها، ولذلك فإن الخطة هي حصار مصر والدول العربية وتحجيم الخيارات السياسية لدول المنطقة.