الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: نجيب محفوظ ورحلة البحث عن الله.. هاجس مطروح بطرق وأساليب شتى فى عدد غير قليل من مؤلفاته الروائية والقصصية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

«أولاد حارتنا» لا تسىء إلى الأديان ولا تشكك فى الذات الإلهية بل تطرح هموم الإنسان 

ينتبه إلى الآفة التى تفسد الحياة الإنسانية وتعكر صفوها ويسعى لتحقيق الحلم بحياة أفضل 

ما أكثر الذين «سمعوا» عن رواية «أولاد حارتنا»، ويتحدثون عنها باستفاضة تناقض جهلهم بها، بل إنهم لا يتورعون عن إصدار الأحكام النهائية كما يليق بعتاة الجهلاء، التركيز كله ينصب على محاكاة نجيب محفوظ لتاريخ القبيلة البشرية في رحلتها الطويلة الشاقة بحثًا عن الحياة الأفضل، التي تسودها القيم النبيلة الغائبة، ويتناسى هؤلاء الذين يحكمون بلا قراءة، أن الأديان جميعًا بمثابة المحطات الرئيسة في قصة الحضارة، وما أتعسهم عندما يتصورون أنهم قد اكتشفوا الخارق غير المسبوق بقولهم إن «الجبلاوي» يرمز إلى الله، و«إدريس» أكبر أبنائه هو إبليس، و«أدهم» هو آدم، وابناه هما قابيل وهابيل، أما «جبل» و«رفاعة» و«قاسم» فهم تجسيد للأنبياء موسى وعيسى ومحمد. مثل هذه القراءة التبسيطية المخلة تعني عندهم إدانة محفوظ بالضرورة، وثبوت التهمة الموجهة إليه بإساءة الأدب في رؤيته للأنبياء!.

«أولاد حارتنا» عمل روائي في المقام الأول، ينبغي التعامل معه من منظور إبداعي خالص، ولا متسع هنا للمقاييس الدينية التقليدية، ذلك أن «قاسم» في الرواية، على سبيل المثال، ليس إلا شخصية روائية، ومن الخلل الفادح أن تتحول القراءة إلى ترجمة ساذجة ركيكة للشخصية، ويتم التعامل مع هذه الترجمة غير الدقيقة على أنها حقيقة متفق عليها ولا تقبل الشك.

قاسم شخصية روائية مصنوعة بمعرفة الروائي، وإذا كان فيها بعض الملامح التي تقود إلى النبي محمد، فإن فيها أيضًا الملامح المختلفة التي تنبع من الفن الروائي وتنتصر له، والأمر نفسه ينطبق على جبل ورفاعة وغيرهما من الشخصيات.

من ناحية أخرى، يتحتم على من يتربصون بالرواية وصاحبها أن يواصلوا القراءة بجدية، ويتفاعلوا مع شخصية «عرفة» الذي يرمز، اسمًا وسلوكًا، إلى العلم والمعرفة، فمن خلاله، ينتصر نجيب لمقولة إن العلم لم يقدم للبشرية خلاصًا، قتل الله- الجبلاوي، لا يعني نهاية عذابات البشر وما يعانونه من قهر وإفقار.

بعض قارئي الأعمال الروائية يتقمصون شخصية المخبر السري المتذاكي في الأفلام الأمريكية المثيرة، ويأبى خيالهم الضحل المحدود إلا توهم البراعة في الكشف عن الجذور الواقعية للشخصية الروائية، ومثل هذه القراءة البوليسية تمثل إساءة بالغة للنصوص الروائية ومبدعيها، وتقود إلى أوخم النتائج، ليس أدل على ذلك من تعرض محفوظ لمحاولة اغتيال فاشلة بعد أن تجاوز الثمانين من عمره، ويعترف القاتل الجاهل أنه يقدم على جريمته عقابًا للروائي الكبير مؤلف «أولاد حارتنا»، التي يسيء فيها إلى الله والأنبياء، ويؤكد أنه لم يقرأ الرواية، لكنهم «قالوا» له إنها تسيء وتتجاوز وتستدعي القتل!.

انشغال نجيب محفوظ بفكرة الله لا تقتصر على عمله الفريد «أولاد حارتنا»، فالهاجس مطروح بطرق وأساليب شتى في عدد غير قليل من مؤلفاته الروائية والقصصية، ومن ذلك ما نجده في قصة «زعبلاوي»، مجموعة «دنيا الله»، ورواية «الطريق» حيث البحث الدءوب الشاق عن الأب الضائع سيد الرحيمي، الذي يقترن عند الابن التعيس صابر بالحرية والكرامة والسلام.

يزدحم عالم نجيب محفوظ بوفرة من الملحدين واللا أدريين والمسكونين بالشك والحيرة، وأبرزهم كمال عبدالجواد في «الثلاثية» ومصطفى الدهشوري في «حكايات حارتنا» وجعفر الراوي في «قلب الليل»، وغيرهم، لكن العالم نفسه لا يقل ازدحامًا بالصوفيين والورعين البسطاء من المتدينين صادقي الإيمان، وما أكثر التحولات العاصفة التي تنتقل برجل مثل العجوز محتشمي زايد في «يوم قتل الزعيم»، من الإلحاد والشك إلى التصوف ومراودة الكرامات والمعجزات.

لن يكتمل الوعي بأبعاد رحلة نجيب في البحث عن الله بمعزل عن التوقف أمام روايته الاستثنائية «رحلة ابن فطومة»، حيث الرصد والتحليل بالغ العمق لمسيرة الإنسان مع العقائد الدينية والأنظمة الاجتماعية التاريخية، من الشيوعية البدائية والعبودية، إلى ما بعد شيوعية القرن العشرين، مرورًا بالإقطاع والرأسمالية.

في «أولاد حارتنا»، لا يسيء محفوظ إلى الأديان ولا يشكك في الذات الإلهية، بل إنه يطرح هموم الإنسان في صراعه الذي لا يتوقف مع الزمان والمكان، وينتبه إلى الآفة الكبرى التي تفسد الحياة الإنسانية وتعكر صفوها، وهل من آفة تفوق نسيان الحلم الذي يقترب قليلًا ويبتعد طويلًا؛ حلم أن تكون حياتنا أفضل وأرقى كما يليق بجلال وسمو الإنسان؟.