الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

من السربون إلى الإسلاميات

محطات فكرية في حياة عميد الأدب العربي

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 

محير هذا العقل!، ويصنف "بشريا" فى تقديرى المتواضع لصناعته الحضارة إن كان عقلا مبدعا أو نشطا فيها إن كان متلقيا عاديا وفى أسوأ الحالات هادما لها أى الحضارة وهذا الفعل حضارى أيضا لانشغاله بفكرة الحضارة حتى وإن كان يلعب دور الممحاة فى حدوتة الحضارة الإنسانية.

والمفكرون عموما هم صانعو مفاتيح أبواب الحضارات، وعلى أثر ذلك بيدهم مفاتيح الأبواب المغلقة أو غلقها لفترة أو إلى الأبد.

فى هذا السياق، يضعنا "سارق النار" فى مأزق فكرى كبير، ويطرح موقفه الفكرى ومنهجه الفلسفى العديد من الأسئلة، ويضع مشروعه بالكامل تحت مجهر متعدد العدسات لتلتقط كل منها بحسب أدوارها ما يكفى لتحليله وفحصه على كل المستويات الفلسفية والاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها، لرصد فعله الحضارى وأثره على الفكر المصرى والعربى أثناء بثه الآن وغدًا، وما ينتج عن هذه الآلية بالضرورة سوف يحدد موقعنا على الخريطة الإنسانية بشكل عام، وخصوصا سنعرف أين نحن الآن فكريا، ويحدد موقعه أيضا.

ويستند الموقف المحير فى البحث فى منهجية مشروع طه حسين الفكري، إلى مواقفه الإنسانية والفكرية المتعددة والتى أثارت، وما زالت، الكثير من الجدل إلى حد كبير.

مثلا، حصول عميد الأدب العربى على شهادة الدكتوراه سنة ١٩١٧ من جامعة السوربون التى ذهب إليها مبتعثا، وكان موضوعها "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية" مؤكدا فيها عظمة الدين الإسلامي، وحين عاد من فرنسا إلى مصر سنة ١٩١٩ كان مبهورا بحضارة الغرب وثائرا على واقع الشرق سياسيا، لدرجة تنكره من ثورة ١٩١٩ وهجومه على زعيم حزب الوفد سعد زغلول إلى أن وصل الأمر بتحقيق النيابة معه سنة ١٩٢٤، وعلى المستوى الفكرى رفض مشروع تجديد الخطاب الدينى الذى تبناه الشيخ محمد عبده، وكان رأيه فى هذا الشأن أن "عبده" حمل النصوص الإسلامية أكثر مما تحتمل لتتوافق مع العلم الحديث، ويقول فى كتابه "قادة الفكر":ـ

"إن قادة الفكر العالمى ليس فيهم إلا الغرب، فقد بدأ الفكر الإنسانى بالفلسفة اليونانية، ولم يكن ظهور المسيحية والإسلام بالشرق فى العصور الوسطى إلا جملة معترضة عادت بعدها السيادة للفلسفة اليونانية فى العصر الحديث"، معتبرا فى هذا السياق بأن الإسكندر الأكبر ضمن قادة الفكر البارزين، وإنه كان يغزو الدول الشرقية تمهيدا لغزو العقول ومن ثم تنويرها.

ثلاثينيات القرن المنصرم شهدت تحولا فى توجه "طه" حيث دعا لتجديد الخطاب الديني، وبرزت مقالاته عن عدالة الإسلام، حتى أنه غير قناعاته السياسية بتوجهه إلى حزب الوفد والكتابة عن وطنية سعد زغلول، بالتزامن مع إظهار العداء لـ"صدقي" وحكومته.

مرآة الإسلام

من أشهر الكتب التى ألفها طه حسين فى الإسلاميات حيث يشهد لهذا الكتاب أنه تمكن بأسلوبه وفكره من تطوير وتغيير عميق للرواية العربية حتى لقب صاحبه بلقب عميد الأدب العربي.

ويتناول "طه" فيه حياة العرب منذ أواسط القرن السادس للميلاد، راصدا فى هذه الحقبة تخلفا حضاريا قياسا إلى الروم والفرس اللتين مثلتا قوتين عظميين وقتذاك، وقبل أن ترتقى أمة العرب حضاريا مع ظهور الإسلام، مقدما لرؤية شاملة لوضع الجزيرة العربية، عارضا للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية والفكرية والأدبية التى كانت سائدة بتلك المنطقة، قبل ظهور الإسلام.

واستعرض فى كتابه رحلة حياة النبى محمد وأصحابه، بمزج الحكايات بالوقائع بالأحداث التاريخية بأسلوب سردى ممتع لا يخلو من التحليل والقراءة المادية للوجود الاجتماعى والفكرى والأدبى لبيئة الإسلام، لحجب الأساطير والخرافات للوصول إلى الإيمان الثابت.

وأيضا، تحدث عن الديانات التى كانت منتشرة على الجزيرة العربية، والقوى الكبرى التى كانت مسيطرة، وكيف كانت الحالة الفكرية والمجتمعية فى ذلك الزمان، ومن ثم يكشف لنا ما أحدثه دخول الإسلام من تغيرات جذرية فى الأفراد والمجتمعات، وبطبيعة الحال لم يغفل الكاتب أن يحدثنا عن القرآن وإعجازه وكيف أثر وغير قلوب المسلمين.

كما سلط فى هذا الكتاب الضوء على ما واجهه المجتمع المسلم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما حدث من انقسام ونزاعات على المستوى السياسي، وأيضا النزعات الفكرية التى أدت إلى ظهور العديد من الفرق والفئات، وضمن مؤثرات الكتاب هى لغته السردية التى حملت الأحداث إلى القارئ بشكل روائى جاذب.

ويقول طه حسين فى الكتاب:

"والذى نراه من حياة قريش قبيل الإسلام وحين بُعَث النبى صلى الله عليه وسلم فيهم يدلنا أوضح الدلالة وأقواها على أنهم لم يكونوا أهل إيمان ولا أصحاب دين، وإنما كانوا قبل كل شيء أصحاب تجارة يسعون فيها عامهم كله، تسافر قوافلهم فى جميع العروض ثم تعود فتستقر فى مكة وقتًا لتسافر بعد ذلك بهذه العروض تحملها إلى الآفاق. ولم يكونوا يؤثرَون على تجارتهم شيئًا، ولم يكن يشغلهم إلا التفكير فى جمع المال من أغنيائهم وأوساطهم وفقرائهم أيضا لجلب العروض ثم بيعها وجلب عروض أخرى لبيعها فى الجزيرة العربية نفسها وفى توزيع الأرباح التى تحققها التجارة على أصحاب الأموال، فكانوا ينفقون عامهم فى أخذ وعطاء وانتقال واستقرار يتحدثون فى المال والتجارة إذ لقى بعضهم بعضا، ويفكرون فى المال والتجارة إذا خلَو إلى أنفسهم، وإذا شغفت النفوس بالمال وجدت فى جمعه واستثماره شغلت به عن كل شيء وملك عليها أمرها كله وأوشك أن يكون لها إله تعبده وحده لا تشرك به شيئا".

على هامش السيرة

أحد أكثر الكتب شهرة فى مسيرة "سارق النار" وهو عبارة عن سرد مبسط للسيرة النبوية، وقد صرح الكاتب بأنه لم يأتِ بجديد عما ورد فى كتب السيرة، وأن ما دونه هو فقط مجرد خواطر، طرأت له أثناء القراءة، فصاغها بأسلوبه السهل الممتنع كما جاء تصريحه كالتالى فى مقدمة الكتاب.

"هذه صحف لم تُكتب للعلماء ولا للمؤرخين لأنى لم أرد بها إلى العلم، ولم أقصد بها إلى التاريخ وإنما هى صورة عرضت لى أثناء قراءتى للسيرة فأثبتها مسرعًا ثم لم أر بنشرها بأسًا، ولعلى رأيت فى نشرها شيئًا من الخير.

وأحب أن يعلم الناس أيضًا أنى وسعت على نفسى فى القصص، ومنحتها من الحرية فى رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأسًا، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي، أو بنحو من أنحاء الدين، فإنى لم أبح لنفسى فى ذلك حرية واسعة، وإنما التزمت ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث، ورجال الرواية، وعلماء الدين.

ولن يتعب الذين يريدون أن يردوا فى أصول هذا الكتاب القديم فى جوهره وأصله، الجديد فى صورته وشكله، إلى مصادره القديمة التى أخذ منها.

فهذه المصادر قليلة جدًا، لا تكاد تتجاوز سيرة ابن هشام، وطبقات ابن سعد، وتاريخ الطبري، وليس فى هذا الكتاب فصل أو نبأ أو حديث إلا وهو يدور حول خبر من الأخبار ورد فى كتاب من هذه الكتب".

ويقول طه حسين فى الكتاب:

"وإذا استطاع هذا الكتاب أن يُلقى فى نفوس الشباب حب الحياة العربية الأولى، ويلفتهم إلى أن فى سذاجتها ويسرها جمالا ليس أقل روعة ولا نفاذًا إلى القلوب من هذا الجمال الذى يجدونه فى الحياة الحديثة المعقدة، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد. وإذا استطاع هذا الكتاب أن يدفع الشباب إلى استغلال الحياة العربية الأولى، واتخاذها موضوعا قيما خصبًا لا للإنتاج العلمى فى التاريخ والأدب الوصفى وحدهما، بل كذلك للإنتاج فى الأدب الإنشائى الخالص، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد، ثم إذا استطاع هذا الكتاب أن يلقى فى نفوس الشباب أن القديم لا ينبغى أن يُهجر لأنه قديم، وأن الجديد لا ينبغى أن يُطلب لأنه جديد، وإنما يُهجر القديم إذا برئ من النفع وخلا من الفائدة، فإن كان نافعا مفيدا فليس الناس أقل حاجةً إليه منهم إلى الجديد، فأنا سعيد موفق لبعض ما أريد، وأنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب؛ لأنهم محدثون يُكِبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه. وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التى لا يسيغها العقل ولا يرضاها".

الوعد الحق

كتاب صدر سنة ١٩٤٩ لعميد الأدب العربى وواحد من مؤلفاته الإسلامية، ويقدم عميد الأدب العربى هنا جزء من تاريخ الإسلام فى القرن الأول للهجرة، القرن السابع الميلادي، من منظور إنساني، ويحوى من القيم الإنسانية المشتركة التى تؤكد لأشكال العدالة والخير، ويعرض طه حسين التاريخ الإسلامي، ويتناول من خلاله سيرة حياة باقة من الصحابة لم يتطرق أحد من قبل لتناول حياتهم بكل ما مروا به قبل وبعد ظهور الإسلام.

و"الوعد الحق" ليس عملًا أدبيا، وإنما هو صياغة سردية للتاريخ بأسلوب قصصى يتجه نحو الدراما، ويزخر الكتاب بصور حية دارت بين المشركين والمؤمنين، كما تعرض الكتاب لحادثة أبرهة الحبشى ملك الحبشة هدم الكعبة المشرفة وإحباط عمله.

ويقول "طه" فى كتابه: مَضَتْ سُنَّةُ الله فى التمكين لعباده أول ما مضت فى صحابة رسول الله؛ إذ إنهم حقَّقوا ما اشترط اللهُ عزَّ وجلَّ من صفات لخلفائه فى الأرض؛ وهى العبادة الحَقَّة له والإذعان والتسليم لأوامره. وعرف الصحابةُ منذ سُوَيْعَات إسلامهم الأولى ما اشترط اللهُ، فجدُّوا واجتهدوا له، فنالهم ما نالهم من تهجيرٍ وتعذيبٍ ومشاق جمَّة. ووَعْدُ الله الحقُّ لا يَغِيبُ عن أعينهم عبيدًا كانوا أو أحرارًا، حُكَّامًا أو محكومين، حتى منَّ اللهُ عليهم بما وَعَدَهُمْ، ومكَّنَ لهم فى الأرض، فمضوا ثابتين على طريقهم الذى رسمه لهم مُعَلِّمُهم الأول رسولُ الله، حتى لقوا ربَّهم وقد وضعوا تمثيلًا عمليًّا لما استنَّهُ اللهُ.. إنه "الوعد الحق".

ويصدر الكتاب بقول الله تعالى:ـ "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ".

ويسجل الكتاب الأدوار البطولية التى صدرت من الصحابة مثل "بلال وصهيب وعمار وسالم وابن مسعود".

الفتنة الكبرى "عثمان"

وهو كتاب مهم يرصد الفتنة الكبرى التى اشتعلت داخل شبه الجزيرة العربية، رصد فيه طه حسين الواقع الاجتماعى والثقافى بداية من فجر الإسلام ومرورا بعصر الخلفاء الراشدين حتى بداية الدولة الأموية.

ويقول عميد الأدب العربى فى كتابه:ـ "هذا حديث أريد أن أُخْلِصَهُ للحقِّ ما وسعنى إخلاصه للحقِّ وحده، وأن أتحرَّى فيه الصواب ما استطعتُ إلى تحرِّى الصوابِ سبيلًا، وأن أَحْمِلَ نفسى فيه على الإنصاف لا أَحِيدُ عنه ولا أُمَالئ فيه حزبًا من أحزاب المسلمين على حزب، ولا أُشايع فيه فريقًا من الذين اختصموا فى قضية عثمان دون فريق؛ فلستُ عثمانيَّ الهوى، ولستُ شيعةً لعلِيٍّ، ولستُ أفكر فى هذه القضية كما كان يفكر فيها الذين عاصروا عثمان واحتملوا معه ثقلها وَجَنَوْا معه أو بعده نتائجها.

وأنا أعلم أن الناس ما زالوا ينقسمون فى أمر هذه القضية إلى الآن، كما كانوا ينقسمون فيها أيام عثمان رحمه الله؛ فمنهم العثمانيُّ الذى لا يَعْدِل بعثمان أحدًا من أصحاب النبى بعد الشيخين، ومنهم الشيعيُّ الذى لا يَعْدِل بِعليٍّ رحمه الله بعد النبى أحدًا، لا يستثنى الشيخين ولا يكاد يرجو لمكانهما وقارًا؛ ومنهم من يتردد بين هذا وذاك، يقتصد فى عثمانيَّته شيئًا أو يقتصد فى تشيُّعه لعلى شيئًا، فيعرف لأصحاب النبى كلهم مكانتهم، ويعرف لأصحاب السابقة منهم سابقتهم، ثم لا يُفضِّل بعد ذلك أحدًا منهم على الآخر، يرى أنهم جميعًا قد اجتهدوا ونصحوا لله ولرسوله وللإسلام والمسلمين، فأخطأ منهم من أخطأ وأصاب منهم من أصاب، ولأولئك وهؤلاء أَجْرُهم؛ لأنهم لم يتعمدوا خطيئة ولم يقصدوا إلى إساءة. وكل هؤلاء إنما يرون آراءهم هذه يستمسكون بها ويذودون عنها ويتفانون فى سبيلها؛ لأنهم يفكرون فى هذه القضية تفكيرًا دينيًّا، يصدرون فيه عن الإيمان، ويبتغون به ما يبتغى المؤمن من المحافظة على دينه والاستمساك بيقينه، وابتغاء رضوان الله بكل ما يعمل فى ذلك أو يقول.

وأنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مجردة، لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين، وإنما هى نظرة المؤرخ الذى يجرِّد نفسَه تجريدًا كاملًا من النزعات والعواطف والأهواء، مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها.

وقد قضى جماعة من المسلمين، بل من خيار المسلمين، نَحْبَهم قبل أن تحدث هذه القضية وتُثار حولها الخصومة، فلم ينقص هذا من إيمانهم ولا من أقدارهم، وإنما عصمهم من الشبهة وجنبهم مواطن الزلل، فمضوا بخير ما كتب الله للمسلمين، ونجوا من شر ما كتب عليهم؛ وعاش قوم من أصحاب النبى حين حدثت هذه القضية وحين اختصم المسلمون حولها أعنف خصومة عرفها تاريخهم، فلم يشاركوا فيها ولم يحتملوا من أعبائها قليلًا ولا كثيرًا، وإنما اعتزلوا المختصمين وفروا بدينهم إلى الله؛ وقال قائلهم سعد بن أبى وقاص رحمه الله: لا أقاتل حتى تأتونى بسيف يعقل ويبصر وينطق فيقول: أصاب هذا وأخطأ ذاك!

الفتنة الكبرى "على وبنوه"

يواصل طه حسين فى هذا الجزء سرده لأحداث الفتنة الكبرى، وذلك بدءا من مبايعة "علي" وانتهاء بوفاة يزيد بن معاوية، مشيرا إلى ثلاثين عاما تقريبا هى أحلك فترة مرت بتاريخ المسلمين.

كما أكد التغيرات التى طرأت على حياتهم، ومواقف الصحابة من هذه الأحداث، ومشيرا فى الوقت نفسه إلى تحول نظام الحكم من نظام "الخلافة" القائم على النصح والمشورة والعدل، إلى نظام ملكى يقوم على استبداد الحاكم.

ويقول عميد الأدب العربى فى كتابه:

"واجه المسلمون إثر قتل عثمان رحمه الله مشكلتين من أخطر ما عرض لهم من المشكلات منذ خلافة أبى بكر، إحداهما تتصل بالخلافة نفسها، والأخرى تتصل بإقرار النظام وإنفاذ أمر الله فيمن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد فى الأرض.

فقد أمسى المسلمون يوم قُتِل عثمان وليس لهم إمام يدبِّر لهم أمورهم ويحفظ عليهم نظامهم، وينفذ فيهم سلطانهم، ويقيم فيهم حدود الله، ويرعى بعد هذا كله أمور هذه الدولة الضخمة التى أقامها أبو بكر وعمر، وزادها عثمان سعة فى الشرق والغرب.

فهذه البلاد التى فُتحت عليهم ولم يستقر فيها سلطانهم بعدُ كانت فى حاجة إلى من يضبط أمرها ويحكم نظامها ويُبعد حدودها التى لم تكن تثبت إلا لتتغير؛ لاتصال الفتح منذ نهض أبو بكر بالأمر إلى أن كانت الفتنة وشُغِل المسلمون بها أو شُغِل فريق من المسلمين بها عن الفتوح.

وكانت للمسلمين جيوش مرابطة فى الثغور تقف اليوم لتمضى غدًا إلى الأمام، وهذه الجيوش لم تكن مشغولة بالفتح وحده وإنما كانت مشغولة كذلك بإقرار النظام فيما فُتح عليها من الأرض، وتثبيت السلطان الجديد على أنقاض السلطان القديم، واستحداث نظم فى الإدارة تلائم مزاج الفاتحين، واستبقاء نظم فى الإدارة أيضًا تلائم مزاج المغلوبين، وهذه الجيوش كانت محتاجة إلى من يُمدها بالجند والعتاد، ويرسم لها الخطط، ويدبر لها من الأمر ما تحتاج إلى تدبيره.

وواضح أن الذين قتلوا عثمان لم يكونوا هم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان نفسه من المهاجرين والأنصار، وإنما كانوا شراذمَ من الجيوش المرابطة فى ثغور البصرة والكوفة ومصر ومن ثاب إليهم من الأعراب ومن أعانهم من أبناء المهاجرين، وكانت الجِلَّة من أصحاب النبى المهاجرين والأنصار قد وقفت مواقف ثلاثة مختلفة من هذه الفتنة: فأمَّا كثرتهم فكانت ترى وتُنكر وتَهمُّ بالإصلاح فلا تجد إليه سبيلًا فتسكت عن عجز وقصور لا عن تهاون وتقصير، وأما فريق منهم فقد شُبِّهت عليهم الأمور فآثروا العافية والتزموا الحيدة واعتزلوا الفتنة، وكانت قد وقعت إليهم أحاديث عن النبى تخوِّف من الفتنة وتأمر باجتنابها، فلزم بعضهم البيوت، وترك بعضهم المدينة مجانبًا للناس فارًّا بدينه إلى الله.

وفريق ثالث لم يُذعنوا للعجز ولم يؤثروا الحيدة والاعتزال، وإنما سعوا بين عثمان وخصومه، بعضهم ينصح للخليفة ويحاول الإصلاح بينه وبين الثائرين، وبعضهم ينقم من الخليفة فيحرِّض عليه ويُغرى به، أو يقف موقفًا أقل ما يوصف به أنه لم يكن موقف المخذِّل للثائرين أو المنكر عليهم.

فلما قُتِل عثمان استرجع أكثر الصحابة لأنهم لم يستطيعوا أن ينصروه، وفكروا فى غد، وأرادوا أن يستقبلوا أمورهم وتهيئوا لما يُقبِل عليهم من الأحداث، وأمعن المعتزلون فى اعتزالهم وحمدوا الله على أنهم لم يشاركوا فى الإثم ولم يخبوا ولم يوضعوا فى الفتنة، وأما الآخرون فجعلوا يترقبون ما يصنع الناس، يفكرون فى أنفسهم أو يفكرون فيمن يلوذون به من الزعماء.

ولم يكن للمسلمين نظام مقرر مكتوب أو محفوظ يشغلون به منصب الخلافة حين يخلو، وإنما كانوا يواجهون خلوَّ هذا المنصب كما يستطيعون أن يواجهوه.

فأنت تعلم كيف بُويِع أبو بكر، وكيف رأى عمر أن بيعته كانت فَلتة وقى الله المسلمين شرها، وأنت تعلم أن عمر إنما بُويِع بعهد من أبى بكر إليه وإلى المسلمين، وقد قبل المسلمون عهد أبى بكر لم يُنكره ولم يجادل فيه منهم أحد".

 

 

رفض مشروع محمد عبده لتجديد الخطاب الديني.. رغم تأكيده فى شهادة الدكتوراه على عظمة الدين الإسلامي

 

 

 

 

 

 

 

«مرآة الإسلام» تمكن فيه بأسلوبه وفكره من إحداث تطوير وتغيير عميق فى الرواية العربية.. و«على هامش السيرة».. سرد مبسط للسيرة النبوية وخواطر طرأت له أثناء القراءة فصاغها بأسلوبه السهل الممتنع