الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

«حيدر حيدر» سردية روائية قلقة عن الزمان ووحشة المكان ومصائر تكابد مرارة الهجرة

حيدر حيدر
حيدر حيدر
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

المتتبع لكتابات الأديب السوري الكبير «حيدر حيدر» لا يمكن أن يتركها إلا وأن يعلن أنها صبغته بصبغتها وروته بأحلامها وآلامها وانغمس في مصائر أبطالها، كما يرى المتلقي ذاته التائهة بين سطور أعماله، ويرى ملامح تتجسد أمامه شخصيات من لحم ودم، تخرج من بين سطور الحكايات، - ولما لا- فهو الكاتب الذي استطاع أن يعبر عن ذاته بداخل ذوات أبطال روايته والتي شكلت جزءًا بالغ الأهمية من كيان الأدب السوري، وسجل اسمه بحروف من ذهب ضمن رواد الأدب العربي. 
ولعل أبرز كتاباته رواية «وليمة الأعشاب البحر» والتي أثارت جدلًا واسعًا حين صدورها، بعد أن منعها الأزهر بدعوى الإساءة إلى الإسلام، واتهامه بالتطاول على الدين الإسلامي، على الرغم من أنها كانت تدور حول أوجاع شخصيات أبطال الراوية في ظل ثورة لم تكتمل ومشاعر أبطالها بالوجع والضياع والبحث عن الذات والأنا، فـ «جواد» الهارب من مدائن العراق إلى بونة، يلتقي بـ «فلّة» التي خطت على الورق خطوطًا وإشارات كانت تشبه زورقًا أو سمكة لتطوقها بدوائر لولبية، هذا الصراع بين الأنا والأخر في روايته استمر في باقي أعماله الأبداعية ففي بداية أعماله ومجموعته القصصية «حكايا النورس المهاجر» والتي تضم ٩ قصص قصيرة وهي شجرة الكرز والنهر الحليبي والشمس تشرق من الغرب والصدع والهجرة وهذا البلد الأمين والوعل يُقتنص صغيرًا والشاهد والجمعة الحزينة والشموس الساطعة وكابوس في نهار قائظ. 
الطير المهاجر
ويقول حيدر في ظهر الغلاف «مدينة المقاهي والخمارات واللافتات والتماثيل البرونزية بدَتْ مهجورة تحت هذه الشمس،اللافحة شبيه سفينة غادرها بحارتُها بعد أن فاجأتهم العاصفة. وراء زجاج المقاهي بَدتِ الكراسي وحيدةً متقاربة، لكن رائحة الناس كانت هناك. هنا كان الزمن يمضي والكلمات أيضًا».
وهنا نجد أثر الهجرة والبُعد عن الوطن واضحًا بشكل كبير على كتاباته وكيف عبر بكلماته البسيطة عن أدق مشاعر الهجر والوحدة والتي خلفت وراءها أماكن موحشة مقبضة هجرها البشر ومكثت فيها أرواح التمثايل». 
لنجد المكان يمثل حالة سردية في أعمال حيدر فنجده وكأنه يتحدث ويبلغ عن آلامه  وأحلامه التي توشك على الفناء بعد الهجر والبُعد، ونجده يقول في مطلع المجموعة «عندما يتيه النورس عن شطآنه ويخفق وحيدًا في سماوات غريبة مجهولة، ينوح حنينًا موجعًا لوطنه الأصلي الذي فقده، نواح النوارس حكايا حزينة يرويها بلغته الخاصة للفضاء والبشر والأرض ونفسه» وهنا نجد أن الاغتراب هو القاسم المشترك بين جميع أعمال حيدر الإبداعية ففي قصته القصيرة شجر الكرز يقول:«إلى ذكرى أبي الذي غاب حزينًا وفقيرًا وتركني صغيرًا أواجه الإعصار» وهنا نجد أن طفولة "حيدر" الصعبة كان لها الأثر البالغ في تكوينه ما انعكس بشكل كبير في أعماله فنجده يقول: «منذ نعومة أظفاري، وتفتح براعم وعيي، وأنا أحبّ اللغة العربية لغة إيقاعية مفعمة بالمفردات والتوليد والاشتقاق والمجاز تشبه محيطًا لانهاية له، وعبر ذلك المحيط كان يسبح ويغوص مليون عربي من البشر الذين يحبّون البحر والشمس والثرثرة والصلوات القدسية، ويحبون الحرب أيضًا. 
على هذه الكراسي العائمة فوق محيط اللغة كان العالم يتشكل مفردات وجُملًا وتوليدات واشتقاقات. يُبنى وينهار، يصبح الماركسي رأسماليًا، والاشتراكي بورجوازيًا، واليساري أصوليًا ويمينيًا، وعن هذه الكراسي كان يُؤخذ أُناس إلى السجون والمنافي، ويخرج مساجين يعبرون من هنا، في طريقهم نحو كراس أخرى، تستطيع أن تضحك لو طلب إليها أن تكتب التاريخ.
أوراق في المنفى «خصومة مع الوطن»
يقول حيدر في مقدمة «أوراق في المنفى.. شهادات عن أحوال زماننا»: "يوم اختصمت مع نفسي وأسرتي قلت للمرأة التي اشتجرت معها: لا بد من رحلة طويلة تستغرق بقايا زهرة العمر.
ويوم تناثر الحلم واختصمت مع الوطن رنت تحت الضلوع ساعة الرحيل. آنذاك قلت للسفر:كن رياحي التي تحملني على أمواج الجنون، وانثرني في العراءات الغريبة والمنافي التي لا عودة منها، هكذا بدأت الرحلة على دروب علاء الدين: درب الحريق، ودرب الغريق، ودرب السدّ الموغل فيه لا يُردّ. في ذلك الزمن الذي يبدو الآن سحيقًا على شاشة الذاكرة كان العالم في ما وراء حدود الوطن، عبر أحلامي، نوعا من الهيولى الأولى لبداية التكوين، وحواسي ستكتشف هذا الغمر الملون وأنا أنقذف كالسهم في المغامرة الغامضة". 
وفي ذلك الزمن الباهت، كنت مأخوذًا بالرغبة الجامحة للتعرف على العالم: المدن الجديدة والنساء الجديدات والأصدقاء الجدد واكتناه أسرار جديدة أكاد أسمع وجيبها في أعماقي ونبضات دمي.
خلال ثلاثة عشر عامًا من الزوغان والفوضى واضطراب الأزمنة وخفقان الموت وعشق النساء والقتال السري والعلني، صقلتِ الروح كما تصقل حجارة الشواطئ بأمواج البحر؛ وعلى مدى هذه السنوات العجاف ضرب الجسد والقلب بوهج البرق وهزيم الرعد ورعشة الجنون. ما كان المنفى "أوقيانوس" الجغرافيا والنأي عن الوطن، إنما كان هذا الوجيب الراشح بالحزن والمرارة. الوجيب الذي ينبض في الأعماق شبيه نبتة تنمو في شقوق الصخر.
الكتابة واكتشاف البشر
ويتابع: " في هذه الرحلة غير السعيدة لكن الغنية في تجربة الكتابة واكتشاف البشر والأماكن، عرفتُ أوطانًا أخرى غير وطني الأول، لقد تأقلمت هذه الأوطان والتحمت بها، وكما كنت وفيًا ومحبًا لوطني، ما اختلف الأمر بالنسبة لهذه الأوطان".
هكذا كان حيدر يتمتع بقدرات فائقة في اللغة العربية إذا انه استطاع أن يقتنص من مفرداتها ما يستطيع أن يحاكي هذا السارد أو المارد القابع بداخله ليعبر عن مكنون عذاباته وآلامه الذي مرَّ بها على مدار سنوات الهجرة ورحيله فيجسد الغربة بأنها غربة للروح وليس غربة عن المكان، وعلى الرغم من أن هناك العديد من الدراسات البحثية التي تناولت أعمال حيد حيدر الإبداعية إلا أن أغلبها لم يستطع تحقق هذا التماس بين الكاتب وبين شخصياته إذ إنه وجد وطنه الغائب وروحه التائهة في تماسه مع تلك الشخصيات - فعلى سبيل المثال- في مجموعته "مرايا النار" يتحدث عن نفسه في "زمن الهروب" قائلًا:"أنت أيها الهارب؟ جميعنا موتي في هذا الوقت الغارب".. لنجده يستكمل رحلة هروبة والتغريب في "زمن الغيرة والتي يبدأها بـ " من أي كوكب ملعون هبط علينا هذا الغريب. قبل أن يأتي إلى بلدتنا كانت حياتي ودميانه رضية، مستورة، الماضي دفناه في كهف الذاكرة، معًا تواطأنا لستر العائلة وهاجرنا من مدينتنا التي تبعد الآن خمسة أعوام، زمن النسيان والوقائع اليومية، غطي الفضيحة، هكذا تخيلنا ونحن نواصل حياتنا وقدرنا المكتوب".. ونجده في هذا المطلع يضعنا أمام حقيقة مغايرة للغربة عن الأوطان وأن المسافة لا تحسب هنا بالمسافات وإنما بالزمن وهو ما يجعل من فعل التغريب والهجر أصعب بكثير فلم تقتصر على المسافة الجغرافية وإنما أيضًا عن المسافة الزمنية فقد يغير الزمن الكثير الكثير بداخل الإنسان والوطن أيضًا.
فقد استطاع حيدر حيدر أن يصنع حيزًا زمانيًا ومكانيا مبعثرًا، عبر من خلاله كان يرى واقعه المعايش، فنجده أقرب ما يكون للكاتب العالمي صمويل بيكت والذي اشتهر بالكتابة الثنائية المتناقضة مثل الموضوعية والذاتية والماضي والحاضر والتفاؤل والتشاؤم والتبسيط والتعقيد والتسامح والحقد.
الغربة والروح والحنين
وكان حيدر يجد أن غربته الحقيقة هي في غربة الروح وليس غربة المكان فيقول:"كانت الغربة في الروح لا في المكان والخطأ الفادح الهاجع كجرثوم في قاع بحيرة الروح، ربما كان محمولًا في الدم مع الولادة قبل تسمية الوطن، لكن أن تنتشر وتتسع أبعد من وطنك الذي ولدت فيه فهذا يعني دخولك في دائرة العالم الأرحب، وكسر الدائرة الصغيرة والضيقة بوعي وجنون الممارسة الخطرة والعذبة والثرة". 
أراض جديدة سماوات رحبة لاتحدها الأبصار، غابات عذراء مكللة بالندى والضباب شواطىء وبحار خضراء خضراء شوارع عامرة بالضجيج والصخب والنساء. أرصفة مصقولة بالمطر وبارات دافئة مقاه وساحات وبشر تراهم للمرة الأولى فتيات ونساء يزلزلن أساسات القلب ويخلخلن حركة الجسد أصوات الموسيقى والضحكات وهسيس قبلات العاشقين هدير البحر وخفقان الطيور، وضربات أقدام الراقصات والراقصين فوق حلبة الرقص. 
لقد أتى زمن النار وزمن القتلى وزمن الهول في الصباح نفطر قذائف من توربيدات البحر، وفي الظهيرة نتغدى قنابل القاذفات الإسرائيلية، وفي المساء نتعشى قذائف مدفعية دباباتهم.
الكتابة نجاة الروح 
كما أن حيدر وجد في الكتابة ملجأ للهروب من الغربة والتغريب ومناجاة ومواساة لروحه التائهة فنجده يقول:" ففي فسحة السلام والحرب فسحة الحياة والموت كان علي أن أواصل سيرة  الحياة وسيرة الكتابة. وبالكتابة ربما كنت أتوازن وأنا أترنح، مولدًا من الكلمات هرمونات مضادة للموت والجنون وضراوة الحنين في المنفى". 
كان الحنين إلى الوطن في تلك الأزمنة الفوضوية، مختزلًا في شعاع الشوق المرّ إلى أسرتي وأمي التي عميت بكاء عليّ، وأصدقاء الزمن القديم الذين بعثروا كالنيازك في أرجاء الوطن وخارجه وطفولتي النائية والضائعة بين قريتي وسهولها البحرية، والنساء اللواتي عشقتهن وعشقنني ثم هُجرتُ منهن أو هجرتهن كما تهجر عاصفة مجنونة سهلًا أخضر تركته يبابًا..
في ذلك الزمن كنت الرجل الذي لا وطن له لأنني كنت بلا أمل. لست مغاليًا إذا قلت بأن هاجسي الوحيد كان الكتابة والموت بعد أن تبدد من رأسي حلم الثورة السياسية المستحيلة التي اغتيلت من محيط الشمس إلى خليجها. وفي ذلك الزمن دخل الوطن في نفسي محاق القمر.
ما كانت الكتابة لتفعل شيئًا ذا تأثير في المشهد السياسي القائم في تلك البرهة الراهنة، كما لم تكن لتغير من سيرورة العاصفة الجامحة التي تدمر ما في طريقها. فقط كانت تشير وتنذر من خلال صرختها الدامية والحزينة إلى هذا الانهيار الشامل. وفي وهمي كنت أعتقد أن هذه الصرخة لا بد أن تترسخ، كصوت الرعد أعماق الاحياء من البشر الذين ينشدون الحد الأدنى من حياة الحرية والكرامة والمستقبل المضيء.