الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

مصريات

عندما هز الفراعنة أشجار الإبداع| ورق البردي.. «أمين سر» الهوية المصرية

أول مكتوبة كانت بقايا من دفتر حسابات اكتشفت فى المعبد الجنائزى للملك «نفر كا رع» من الأسرة الخامسة

ورق البردى.. «أمين
ورق البردى.. «أمين سر» الهوية المصرية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يعتبر البردى من أشهر النباتات التى عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ، وهو نبات مائى ينمو فى المستنقعات والأراضى الضحلة، التى يغطيها الماء إلى عميق يتراوح بين ٥٠ إلى ١٠٠ سم. 


تدوين الحضارة الإنسانية
منذ قرابة ٤ آلاف سنة قبل الميلاد، عرف المصرى القديم الكتابة، وبمعرفته للكتابة تأصلت الحضارة المصرية القديمة لارتباطها بالتدوين، ومن ثم تراكمت المعارف وحفظت لتكون زادًا ثقافيًا وعلميًا للأجيال اللاحقة فى مختلف العلوم، ومن هنا نشأت الحضارة الإنسانية على تراكم الخبرات والمعارف فى مختلف المجالات. وكان لورق البردى دور كبير فى حفظ هذا الكم الهائل من المعلومات والخبرات التى توارثتها الأجيال، وهو ما يؤكده عالم الآثار والمؤرخ الأمريكى جيمس هنرى برستد، بقوله: ‏«كان لاختراع الكتابة واستعمال ورق البردى أثر عظيم فى رفع مستوى الجنس الإنسانى أكثر من أى شيء آخر، لأنه أهم من جميع الحروب التى خاض الناس غمارها، وأهم من جميع النظم أو الدساتير التى وضعت منذ خلق الله هذا الكون».
عرف نبات البردى منذ نشأة الكتابة المصرية القديمة، وكان يزرع بوفرة كبيرة على ضفاف النيل، ولم يقتصر استخدام البردى على أرض وادى النيل وحسب، حيث استفادت الدولة المصرية من هذه الصناعة بتصدير منتجها لمختلف دول العالم القديم لاستخدامه فى الكتابة، فيما وظف الصانع المصرى الماهر نبات البردى فى أكثر من صناعة، ومن بينها صناعة الورق بالتأكيد، وصناعة القوارب الخفيفة للعبور إلى الضفة الثانية لنهر النيل، كما كانت تستخدم رءوسها لصناعة أدوات الزينة لتزيين المعابد.


«من مصر انتشر ورق البردى فى العالم القديم انتشارًا واسعًا شمل سوريا واليونان وإيطاليا»، هكذا يؤكد حسن رجب، مدير مركز بحوث البردى، فى كتابه «البردى»، على رواج هذه الصناعة فى مصر، قائلًا إن «البردى» استعمل لكتابة المخطوطات والوثائق وغيرها، ووجد فى مقابر الملوك المصريين أوراق بردى عليها كتابات فى أيدى المومياء، وبعض المومياوات لفت أجسامها بهذا الورق، وقد عرف الأشوريون ورق البردى وسموه «قصب مصر»، الذى زرعه المصرى القديم فى دلتا النيل، وكانت هذه الصناعة إحدى أهم صناعات الدولة التى اشتهرت بها آنذاك.
أقدم نبات عرفته البشرية
الكاتب الإغريقى ثيوفرأستوس، يقول إن قصب البردى كان يزرع فى مياه ضحلة لا يزيد عمقها على ٩٠ سم تقريبًا، وكانت جذوره لا يتعدى سمكها معصم اليد، بينما طولها وصل إلى أربعة أو خمسة أمتار، وكانت هذه الجذور تتمدد أفقيا بينما الجذور الفرعية الصغيرة كانت تغوص فى الطين، أما طول القصبة وارتفاعها فوق الأرض فكان فى حدود المتر، وكانت رءوس هذه النبتة تستعمل لتزيين المعابد بينما استعملت الجذور وقودًا أو لصنع أدوات منزلية، أما الساق فاستعملت فى صناعة القوارب والأشرعة والثياب والحبال وورق الكتابة.
يُعد نبات البردى من أقدم النباتات التى تعرض لها الإنسان بالتسجيل والشرح، ويرجع الفضل فى ذلك إلى المصريين القدماء وما وصلوا إليه من حضارة ومدنية متقدمة مكنتهم من اكتشاف جميع المزايا التى يحويها ذلك النبات فى وقت مبكر جدًا من التاريخ، فاستخدموا البردى فى أغلب متطلبات حياتهم؛ فمن الجزء الرخو الموجود أسفل الساق استخلصوا طعامًا شعبيًا، ومن الجزء الباقى من الساق صنعوا الكثير من الأدوات المتصلة بحياتهم، فصنعوا منه المعدات التى استخدمت فى أجزاء مختلفة من أثاثهم كالصناديق والمناضد والسلال، ومن نخاعه صنعوا صنادل كان يلبسها الرهبان، كما صنعوا أحزمة يشدونها على وسطهم، ومن السيقان الجافة المربوطة فى شكل حزم متجاورة صنعوا مراكب استخدموها فى صيد الطيور والأسماك، كما صنعوا من النبات أنواعًا من الحبال كانت تقاوم تأثير المياه، مما يؤكد أن نبات البردى تغلغل فى حياة المصريين بدرجة كبيرة على نحو ما حدث مع نبات البامبو واستخداماته المتعددة فى الصين واليابان.


أهم صادرات مصر للعالم
المتحف المصرى بوسط القاهرة، به المئات من الأدوات التى صنعت من البردى، ويرى قطاع كبير من خبراء الآثار، أن البردى كان متغلغلًا فى الحياة اليومية للمصرين القدماء، وأن اختفاءه لأى سبب من الأسباب كان كفيلًا بإصابة حياتهم بما يشبه الشلل، على أن أهم استخدام للبردى لديهم كان فى عملية الكتابة.
وظل المصريون يحتكرون صناعة ورق البردى وتصديره إلى أرجاء العالم القديم لمدة تربو على ثلاثة آلاف عام، وقد ظهر خلال هذه الفترة الكثير من مواد الكتابة البديلة فى بلاد أخرى، مثل ألواح الشمع وألواح الطين وجلود بعض الحيوانات فى محاولة للاستغناء عن البردى إلا أن هذه المواد لم تتمكن من منافسته أو إزاحته عن عرشه فى موطنه الأصلى مصر.
المؤرخ الإغريقى «هيرودوت»، أكد أن البردى وصل الجزر اليونانية ودعى بالجلد أو الرق، واستعمل فى أثينا على نطاق واسع بدءًا من القرن الخامس قبل الميلاد، ووجد إنجيل يوحنا، وهو أول الأناجيل المكتوبة، على ورق «البردى»، وتعود هذه الوثيقة الدينية المهمة جدًا إلى القرن الثانى بعد الميلاد، كما وجد دستور أثينا مسجلًا على «البردى»، واكتشفت بعض محاورات «أرسطو» على هذا الورق فى القرن التاسع عشر ميلادى، وتوسع استعمال البردى فى العهد الرومانى، وأصبح يستعمل فى صناعة الكتب وفى المراسلات والوثائق القانونية وكذلك فى العقود التجارية.


أسرار صناعية غامضة
رغم تسجيل قدماء المصريين كل ما يتصل بحياتهم وعاداتهم وفنونهم ومعتقداتهم، وأنشطتهم الزراعية والصناعية داخل مقابرهم أو على جدران معابدهم أو على صفحات بردياتهم، إلا أنه لم يعثر على أثر يذكر شيئًا عن تفاصيل صناعة ورق البردى، ويعزو بعض العلماء هذا الأمر إلى أن البردى كان حكرًا على الدولة التى كانت تشرف على صناعة الورق منه، وعلى تداول هذا الورق فى الأسواق الداخلية والخارجية، وربما كان السبب فى ذلك أن الدولة كانت تفرض عليه رسومًا تعود بالفائدة على خزانتها، ولا تريد أن يتسرب سر صناعته لخارجها.
المعلومات القليلة التى وردت عن صناعة ورق البردى لم تستقٍ من مصادر مصرية، وإنما أخذت عما دونه بعض المؤرخين الأجانب، وفى مقدمتهم «بلينى» الرومانى، الذى لم يثبت أنه زار يومًا مصر التى كانت المصدر الوحيد لصناعة البردى فى العالم، إضافة إلى أن «بلينى» لم ير النبات فى حياته، وأن كل ما كتبه عن هذا النبات إنما هو نقل عن مصادر أخرى.
شرح «بلينى» طريقة صنع الورق من سيقان نبات البردى، بقوله: «تقطع الساق إلى سلخات رفيعة توضع صفوفا بعضها بجانب بعض، ثم توضع فوقها بطريقة عكسية مجموعة أخرى من سلخات مماثلة، ثم تبلل هذه الشرائح بماء النيل، ثم تضغط وتجفف فى الشمس»، كما أشار «بلينى» إلى استخدام مادة لاصقة من معجون يصنع من أنعم أنواع دقيق القمح ممزوجا بالماء المغلى.
بينما وصف الرحالة الأسكتلندى جيمس بروس، طريقة عمل ورق البردى بقوله: «قمت بصناعة ورقات من البردى باستخدام الماء المقطر الذى استخدمه فى الشرب، وبرغم ذلك كانت أفضل القطع التى صنعتها سميكة وثقيلة وتجف بسرعة جدًا، ثم تصبح صلبة، ولا تنثنى ولا تكون بيضاء أبدا».
وحديثًا تعرف المصرى المعاصر على طرق صناعة ورق البردى، وأصبح هناك مراكز متخصصة فى تعليم صناعته، وتقام العديد من الورش لصناعة البردى، التى تقدم على سبيل التعريف بالحضارة المصرية القديمة، إلا أن أوراق البردى الآن لم يعُد لها استخدام فعلى على أرض الواقع فى عملية الكتابة والتدوين، كما كانت قديمًا، وأصبح استخدامها قاصرًا على الرسم، أو تقديمها كهدايا تذكارية.


تاريخ صناعة البردى
غير معروف تمامًا متى اخترع ورق البردى، وأول بردية مكتوبة عرفت كانت بقايا من دفتر حسابات اكتشفت فى المعبد الجنائزى للملك «نفر كا رع» من الأسرة الخامسة، وأجزاء هذا الكتاب موزعة بين المتحف المصرى بالقاهرة ومتحف برلين، وجامعة لندن.
وعثر علماء الآثار على قصاصات من ورق البردى، فى مقبرة «حاكا» أحد كبار رجال الدولة فى الأسرة الأول بسقارة، ولكنها كانت خالية من أى كتابة، وهذا يؤكد وجود البردى منذ ٣١٠٠ سنة قبل الميلاد، وظهر فى الكتابة الهيروغليفية علامة لفافة البردى منذ الأسرة الأولى، ثم العلامة الهيروغليفية الدالة على الكتابة، والتى تمثل أدوات الكتابة منذ ذلك العهد أيضًا.
أحبار وأدوات الكتابة على البردى
استخدم المصرى القديم عددًا من الألوان فى الكتابة على البردى، منها اللون الأسود، وكان يصنع من الكربون أو الفحم البلدى، أو الدقيق الذى كان يكشط من أوانى الطبخ ثم يخلط بعد طحنه جيدًا بمحلول من الصمغ العربى المخفف.
ومن أقدم أمثلة استخدام المداد الأسود ما وجد منه مخطوطًا على بعض الأوانى الفخارية التابعة لعهد ما قبل الأسرات، والمداد الأحمر، وهو مخلوط مغرة حمراء «المغرة، حجر يستخرج منه صبغ أحمر بنى مصفر، هو صبغة أرض طينية طبيعية عبارة عن مزيج من أكسيد الحديديك وكميات متفاوتة من الطين والرمل».
أيضا مطحونة طحنًا دقيقًا مع الصمغ والماء، وكلا المدادين كانا يعلقان على شكل أقراص مستديرة توضع على لوحة الكتابة «البالتة»، بينما كانت فرشاة الكتابة تصنع من نبات السمار المر وهو أحد النباتات المصرية الذى لا يزال ينمو طبيعيًا على حواف شواطئ البرك والمستنقعات، وله قدرة كبيرة على النمو فى الأراضى المالحة.


البردى يزين أعمدة المعابد
العمارة المصرية وثقت لنبات البردى نظرًا لأهميته فجعلت منه «موتيفات» فى أغلب المعابد التى بنيت أعمدتها على شكل نبات البردى، حيث استخدم المصريون زهرة البردى فى تيجان أعمدتهم، إما بشكلها المزهر كما فى حالة أعمدة معبد الكرنك، أو بشكل الزهرة وهى ما زالت برعمًا كما فى حالة بعض أعمدة معبد الأقصر، ويلاحظ فى حالة أعمدة هذه المعابد أن المصريين لم يغفلوا عن إبراز البردى كما هو فى بيئته الطبيعية، فقاموا بزخرفة الجزء السفلى من الأعمدة التى أخذت شكل البردى بما يظهر جذورها مغمورة فى الماء، فوضعوا من النقوش والزخارف فى أسفل هذه الأعمدة ما يشير إلى ذلك.
الرسوم والأعمال الفنية التى خلفها قدماء المصريون تزخر بالعديد من اللوحات التى تُبرز مدى تغلغل البردى فى حياتهم، ففى مقابر الأسرتين الخامسة والسادسة فى سقارة ندر أن يخلو رسم من البردى فى أى شكل من أشكاله، فبعض المناظر تشير إلى حصاد البردى بواسطة أفراد يقومون بذلك العمل، إما وهم يخوضون فى الماء، نظرًا لنموه فى مناطق ضحلة، أو بقوارب صغيرة، إذا كان ينمو فى مناطق عميقة نسبيًا.
كما استخدم المصريون البردى فى الزخرفة، فقاموا بعمل مقابض المرايا والمراوح، ومقابض الأبواب وظهور مقاعد الجلوس على شكل زهرة البردى، كما استخدم البردى بالاشتراك مع اللوتس كرمز للوحدة بين كل من الوجهين البحرى والقبلى. وهناك عدد من الآلهة المعروفة فى مصر القديمة ظهروا وهم يمسكون بصولجان البردى، وهو ما يدل على اهتمام المصريين القدماء بهذا النبات، حيث يظهر الآلهة «حتحور، وسخمت، ونفتيس»، وقد أمسك كل منهم بصولجان البردى إشارة إلى رمز القوة أو الحياة.
ويرى مؤلف كتاب البردى، أن أسباب اهتمام المصريين القدماء بهذا النبات ووضعه فى منزلة عالية بين النباتات الأخرى ترجع لأنه الوحيد الذى يصنع منه الورق الذى يحمل الكتابة التى وضعها المصريون موضع الإجلال والاحترام، وجعلوا لطائفة الكتبة منزلة خاصة تعلو باقى طبقات المجتمع المصرى القديم.

 

أقدم برديات عرفها التاريخ
كان اهتمام المصريين بتاريخهم اهتماما بنشأة الكون وعمران البلاد، وتعاقب ملوكهم وفترات حكمهم، وجليل أعمالهم، ومن أهم البرديات التى عرفتها البشرية بردية «تورين» التى حصل عليها الرحالة والدبلوماسى والمستكشف الأثرى الإيطالى برناردينو دروفيتى، عام ١٨٢٠، والمحفوظة حاليًا بمتحف تورين بإيطاليا.
وترجع إلى عصر الرعامسة، وتبدأ البردية بأسماء الآلهة الذين حكموا مصر، ثم تتبعهم بأنصاف الآلهة أتباع حورس، ثم ملوك منف، فملوك أون، وتستمر فى ذكر الملوك حتى نهاية فترة الاضمحلال الثانية بما فى ذلك ملوك الهكسوس. كما تعد بردية باريس من أهم البرديات التى تحدثت عن النصح والمواعظ، والتى عُثر عليها فى ذراع أبو النجا بالأقصر، وهى من أقدم البرديات المعروفة، ويرجع تاريخها إلى ٤٥٠٠ عام، وتتحدث وقائعها عن الأسرتين الخامسة والسادسة، وتحتوى على نصائح ومواعظ للوزير «بتاح حتب» فى عهد الأسرة الخامسة. يأتى هذا بالإضافة إلى بردية بولاق التى عثر عليها ماربيت باشا مؤسس مصلحة الآثار المصرية فى إحدى المقابر بالدير البحرى بالأقصر عام ١٨٧٠، واشتهرت ببردية بولاق لأنها حفظت بالمتحف المصرى، وقت أن كان فى بولاق مقره الأول، وهى محفوظة حاليا بالمتحف المصرى، وقد كتبت فترة تولى توت عنخ آمون، أى منذ ٣٣٠٠ سنة تقريبًا، وتتضمن حكما وضعها «آنى» الحكيم لتلميذه «خونس حتب، ومما جاء فى هذه البردية: «صن لسانك عن مساوئ الناس، فإن اللسان سبب كل الشرور، وتخير محاسن الكلام، واجتنب القبائح، فإنك ستسأل فى آخرتك عن كل لفظ».
الأدب صناعة مصرية
ومن أبرز البرديات بردية «الغزل» التى تخفق قلوب من كتبوها وهم يشكون من لوعة الحنين إلى الحبيب، ومن بينها أنشودة «الفتاة المغرمة» التى تعرض بعض أبياتها فى عرض الصوت والضوء أمام أبو الهول، ومنها «ما أمتع السير فى الحقول معك، أنت الحبيب الذى اختاره قلبى، لم لم أعد أحرك قلبك؟».
وهناك عدد من البرديات التى تحكى قصصا مثل قصة «سنوحى» إحدى روائع الأدب المصرى القديم، التى تمتاز بجمال الأسلوب، وحلاوة العبارة، والتى وجدت مكتوبة على مدرج طويل من البردى، ومحفوظ بمتحف برلين بألمانيا، ويعدها علماء المصريات خير ما يمثل الأدب المصرى، وأكثر القصص المصرية كمالا، وجديرة أن تمثل الأدب المصرى الكلاسيكى نظرا لخصائصها من جهة التركيب واللغة والأسلوب، وغيرها العديد من البرديات التى تحكى قصصا من التاريخ المصرى البعيد، مثل قصة الملاح الغريق، وقصة الفلاح الفصيح، وجميعها شاهد حى على عراقة وأصالة الحضارة المصرية القديمة.