الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

المسلم بين الإيمان الحق.. والتأسلم (12)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

والحقيقة أن أكثر النزوع للخلاف بين المسلمين جاء صراعًا على السلطة. وفور وفاة الرسول وانقطاع الوحي، وتحول مسألة الحكم إلى مسألة إنسانية صرفة؛ بدأ النزاع في سقيفة بني ساعدة، وكانت هناك ثلاثة آراء..
الأنصار الذين فتحوا أبواب المدينة للرسول عقب هجرته واحتضنوه واحتضنهم، بعد وفاته طالب ممثلهم سعد بن عبادة أن تكون الخلافة لهم، ثم قال: منا أمير ومنكم أمير، وقال أبو بكر بعنف: “,”أنت تعرف يا سعد أن رسول الله قال إن هذا الأمر كله من قريش. ولكن سعدًا أبى أن يبايع أبا بكر وترك إلى الشام، وهناك قيل إن الجن قد شكت قلبه وقتلته؛ لأنه تبول واقفًا، وهذه واحدة من مقولات الجاهلية التي حذرت الرجال من التبول واقفين. لكن الشاعر أبى إلا أن يقول ما يعتقد أنه الحقيقة، فقال:
يقولون سعدًا شكَّت الجنُّ قلبَه .. ألا ربما صححتَ دِينكَ بالغدرِ
وماذا ذنبُ سعدٍ أنه بالَ واقفًا .. ولكنَّ سعدًا لم يبايع أبا بكرِ
ولعل أخطر ما في هذين البيتين هو الشطرة التي تقول “,”ألا ربما صححت دينك بالغدر“,”، ومعناها واضح ومغزاها أوضح.
لكن فريقًا ثانيًا كان هناك في سقيفه بني ساعده، وهم آل بيت رسول الله، الذين رأوا أن عليّ بن أبي طالب هو الأولى بالخلافة، فقال عمر بن الخطاب قوله الواضح والصريح: “,”إن قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فتذهبوا في السماء شمخًا بذخًا“,” [ابن أبي الحديد – شرح نهج البلاغة – الجزء الثاني – صـ9].
وكان أن تولى الأمر أبو بكر، وأدرك الرجل حدوده كحاكم يحكم بما يراه ملائمًا ومتمشيًّا مع شرع الله وسنة رسوله، فوقف خطيبًا وقال: “,”أما والله ما أنا بخيركم، ولقد كنت لمقامي هذا كارهًا، ولوددت أن فيكم من يكفيني“,”، ثم سأل الجالسين: “,”أتظنون أني أعمل فيكم بسنة رسول الله؟ إذن لا أقوم بها، إن رسول الله كان يُعصم بالوحي، وكان معه ملك، وإن لي شيطانًا يعتريني، ألا فراعوني، وإن زغت فقوموني“,” [أبو جعفر الطوسي – تلخيص الشافي- الجزء الأول – صـ9]، لكن شيعة آل البيت لم يقبلوا بذلك.
وتبقى عقدة سقيفة بني ساعده مستمرة حتى الآن. وما زالوا لم يقبلوا بها، وإن كان علي بن أبي طالب قبل وبايع أبا بكر. فهم يضيفون إلى خطبة الرسول في حجة الوداع ما يؤكد ذلك، أضافوا: “,”علي مني وأنا من علي، من كنت مولاه فهذا عليُّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي“,” .
ونتأمل الإضافات، بل نتأمل “,”كتاب الله“,” ومرادفًا له “,”عترتي أهل بيتي“,”. ونقرأ تعليقًا على هذه الإضافات: “,”إن الوصية مدقوقة كالوشم على جبين علي، لا التاريخ عمي، ولا أي رجل كريم من رجالات هذا العصر كان يعمى عن قراءة الحقيقة، ولكن سياسات الزعماء المتشربين روح القبلية هي التي عميت“,”.
ثم يكون الهجوم على عمر بن الخطاب شديدًا وقاسيًا، ونقرأ: “,”لم يكن عمر بن الخطاب ضعيف السجية، إنه كريم عفيف من الرجال، ولكن عنجهية قبلية نائمة في بطانة نفسه ما سمحت له، ولا قبلت أن يتقدم عليه وعلى أمثاله من وجهاء الجزيرة فتى لا يزال أمرد، لقد كان حس ابن الخطاب بمركز الزعامة أرجح من حسه بقيمة الرسالة، إن هناك خبيئة من الماضي الوخيم تعشش في ضلوعه، إنها الأموية فيه ضد الطالبية والهاشمية [أي ضد بني طالب وبني هاشم].
ثم يمضي صاحب الكتاب قائلاً: “,”لقد وظف ابن الخطاب اجتماع سقيفة بني ساعده ليبعد عليًّا عن حقيقته وحقوقيته في الإمارة وإحلال أبي بكر فيها، كأنما الرضوخ لمشيئة النبي هو الخطأ والوقوع في المعصية هو الصواب“,” [سليمان كتاني – الإمام الحسين في حلة البرفير – طبعة طهران – صـ72].
وتمادى هذا الموقف ليخلق حالة من العداء لأبي بكر وعمر وعثمان، إلى درجة أن بعض متطرفي شيعة العراق أخذوا في الفترة الأخيرة في قتل كل من تسمى بهذه الأسماء، وما زالت هذه الأسماء ممنوعة من التسمي بها في إيران حتى الآن. ثم يكون القتل وسيلة عند البعض سبيلاً للتقرب إلى الله، رغم نهي الإسلام عن ذلك نهيًا قطعيًّا.
يقول الفخر الرازي في [التفسير الكبير] تفسيرًا للآية الكريمة (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور) [الحج -38]: إن مسلمي مكة استأذنوا الرسول الكريم في أن يقتلوا المشركين الذين آذوهم، وأن يكون القتل سرًّا، أي غيلة، أو أن يفاجئوهم بالقتل فتكًا، فرفض الرسول قائلاً: “,”الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مسلم“,” ، ونزلت الآية السابقة تأكيدًا لقول الرسول.
ويروي الدينوري أن مسلم بن عقيل رفض أن ينفذ أمر قائد شيعي باغتيال عبد الله بن زياد؛ مستندًا إلى هذا الحديث الشريف [الدينوري – الأحداث الطوال – صـ 236]. واستخدم ذات الحديث في إدانة مقتل الحسين [أبو الفرج الأصفهاني – مقاتل الطالبيين].
وهكذا، ورغم كل هذا النهي فإن الإسلام يتحول -بالتطرف والتنكر لحقيقة الإسلام- إلى تأسلم وتجبر وعنف، قادنا، ويقودنا، إلى ما نحن فيه. بل إنه يقودنا إلى محاولة تأليه الحاكم.. أو بالدقة “,”الإمام“,”، وهو ما رأيناه في أسطر سابقة.
ويمضي التشيع لآل البيت إلى هذا المسار، حتى نأتي -كمجرد مثال- إلى الحاكم بأمر الله الفاطمي، والذي تأله وادعى هو أيضًا -كقائد ثورة الزنج- العلم بالغيب، وجاءه الشعراء المنافقون مادحين، فقال ابن هانئ الأندلسي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
فكأنما أنت النبي محمد
وكأنما أنصارك الأنصار.
ولأنه كان يفزع خصومه وأنصاره زاعمًا أن وحياً يأتيه، وأنه يعلم الغيب؛ فقد كتب أحد المصلين شعرًا في ورقة، وناولها لمن أمامه خلال صلاة الجمعة التي كان الحاكم بأمر الله يؤمها، وتناولتها الأيادي، الواحدة تلو الأخرى؛ ولأنها كانت مغلقة ومكتوب على المظروف اسم الحاكم.. فقد وصلت إليه مغلقة، وفتحها الحاكم وقرأ فيها:
بالظلم والجور قد رضينا
ولم نرض بالكفر والجنابة
إن كنت تعلم الغيب حقًّا
فاعرف صاحب الكتابة
ولم ينطق الحاكم.. لكن التأسلم لم يزل قادرًا على التوالد.