الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: الحريف

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

سر نجاح عادل إمام.. مصرى حتى النخاع فى ملامحه الشكلية ومفردات لغته وطبيعة ملابسه


أضحك شعبًا يحترف صناعة النكتة ويتقن السخرية من المستبدين والطغاة والفاسدين والمنافقين

 

يتسلل إلى القلوب بلا عناء.. والذين يشاهدونه لا يشعرون فى حضرته بالغربة فهو واحد منهم

 

أفلامه في الستينيات حتى منتصف السبعينيات تكشف عن الموهبة والحضور المتوهج.. و«مدرسة المشاغبين» بداية الصعود الصاروخى

 

السخرية اللاذعة الموجعة هي السلاح الأهم للشعب المصري في مواجهة المحن والشدائد، وفي مراودة التعايش والانسجام مع معطيات وتحديات الواقع المتجهم عندما يقسو ويحمل المصريين فوق ما يطيقون. "سمعت آخر نكتة؟" تعبير شائع في الشارع المصري، يمثل جزءً أصيلًا من نسيج اللغة اليومية، ويكشف عن أهمية النكتة في تشكيل الإيقاع الشائع، لكن الوجه الآخر الذي تكتمل به اللوحة يتمثل في مقولة مضادة لا تقل شيوعًا وانتشارًا،نرددها عندما نسرف في الضحك وتسود أجواء المرح والفرحة:"خير.. اللهم اجعله خير"، كأننا نخاف العواقب ولا نطمئن لصفعات وغدر الزمن.

 

في مئات الأمثال الشعبية تهيمن روح الفكاهة والبناء الكاريكاتوري الذي يختلط بالمرارة والوجع، وفي تاريخ مصر الثقافي عشرات من الأدباء والكتاب والصحفيين الذين يفجرون الضحكات ويعلمون الحكمة ويرفعون سلاح المقاومة بالكلمة، من عبدالله النديم إلى أحمد بهجت، مرورًا بعبدالعزيز البشري وإبراهيم عبدالقادر المازني ويحيى حقي ومحمد عفيفي ومحمود السعدني وأحمد رجب، وكثير وكثير غيرهم.

كيف تضحك شعبا يحترف صناعة النكتة، ويتقن السخرية من المستبدين والطغاة والفاسدين والمنافقين؟ هذا هو التحدي الذي يواجه نجوم الفن في السينما والمسرح والدراما التليفزيونية، ومع وفرة نجوم الكوميديا وتعدد مدارسهم واختلاف أدواتهم، لا بد من الإقرار بأن ثلاثة من هؤلاء يحظون بالمكانة الأرفع جراء عظيم نفوذهم وتأثيرهم: نجيب الريحاني "١٨٨٩-١٩٤٩"، فؤاد المهندس "١٩٢٤-٢٠٠٦"، عادل إمام "١٩٤٠".

لا تعني خصوصية وتفرد هؤلاء الانتقاص من شأن الآخرين، على الكسار وإسماعيل ياسين ومحمد رضا وأمين الهنيدي ومحمد عوض وسعيد صالح، وغيرهم، لكن الريحاني والمهندس وإمام يغردون خارج السرب، ويحتلون بإبداعهم المتميز مكانة فريدة في تاريخ الفن المصري، تتمثل في الشهرة الطاغية من ناحية والتأثير غير المحدود على ملايين المشاهدين، في مصر والبلدان العربية، من ناحية أخرى.

جانب مهم من نجاح عادل إمام مردود إلى أنه مصري قح، في ملامحه الشكلية ومفردات لغته وطبيعة ملابسه، ومن هنا يتسلل إلى القلوب بلا عناء، ذلك أن من يشاهدونه لا يشعرون في حضرته بالغربة،فهو واحد منهم، ولا شك أنه يشبه جيرانهم وأصدقاءهم وزملاء العمل ومن يجالسونهم في المقاهي ويجاورونهم في المترو ومدرجات كرة القدم ويرونهم في الشوارع والأسواق.
 

تولد شهرته مع العمل المسرحي الأول:"أنا وهو وهي"، ١٩٦٣"، وتتحول كلماته سريعًا إلى عبارة يرددها الملايين ممن يشاهدون المسرحية الناجحة عبر شاشات التليفزيون: "بلد بتاع شهادات صحيح". إنهم يجدون في عبارته هذه، وفي هيئته الرثة أيضا، ما يترجم مشاعر الضيق التي تسكنهم في مواقف يواجهونها كل يوم مع المتغطرسين والمتفذلكين المتعالين، والأمر نفسه يتكرر في الأفلام الأولى لعادل، قبل أن يصل إلى محطة البطولة المطلقة،وهو ما نجده في "مراتي مدير عام"، ١٩٦٦، و"كرامة زوجتي"، ١٩٦٧، و"عفريت مراتي"، ١٩٦٨، و"نص ساعة جواز"، ١٩٦٩. أدوار ثانوية هامشية محدودة المساحة، لكن العيون والقلوب تلتفت إليها وتتعلق بها، فهي تجمع بين الإضحاك والتعبير عن القابعين في القاع أو القريبين منه، وتعبر عن البسطاء والعاديين من الناس: الموظف الصغير والتابع قليل الحيلة والصديق الأقل شأنًا والكومبارس الذي يُضرب وينفرد البطل بالمشاهد الغرامية والقبلات الساخنة.

أفلام عادل إمام في الستينيات حتى منتصف السبعينيات تكشف عن الموهبة والحضور المتوهج، ومع مسرحية "مدرسة المشاغبين"، ١٩٧١، يبدأ الصعود الصاروخي إلى قمة النجومية والشهرة، ويودع عادل مرحلة الأدوار الثانية والثانوية والبطولة الجماعية إلى الاستقلالية والبطولة المطلقة التي تتيح له أن يقدم عشرات الأفلام والمسلسلات التليفزيونية والمسرحيات التي تتباين قيمتها الفنية وعمقها الفكري، لكن أحدا من الموضوعيين المنصفين لا يملك أن ينكر ما فيها من توهج وما تحققه من نجاح.

في "إحنا بتوع الأتوبيس"، ١٩٧٩، تبدأ رحلة عادل مع معالجة القضايا ذات الطابع السياسي، بكل ما يترتب على ذلك الاشتباك من أشواك وورود. فكرة أن ترضي الجميع وأنت تناقش قضية سياسية ليست ممكنة، ذلك أن الانقسام حتمي لا مهرب منه، ولا بد أن يغضب الناصري ونحال توجيه النقد إلى حقبة عبدالناصروتجاوزات أجهزته، ومن البديهي أن يتذمر الإسلاميون والمتأسلمون وداعمو التطرف والإرهاب عندما يواجه الممثل الجريء مخططاتهموأفكارهم المنحرفة، بل إن السلطة ومؤسساتها لا تنظر بعين الرضا عندما تتعرض أفلام إمام للخلل الاجتماعي والتفاوت الطبقي وهيمنة الفساد وتراجع العدالة كما هو الحال في "الغول" و"الأفوكاتو" و"الإرهاب والكباب" و"المنسي"، على سبيل المثال.

عادل إمام ليس سياسيًا ممن يمكن تصنيفهم في اتجاه بعينه، فهو فنان يشتبك بطريقته مع هموم الواقع وما يطرأ عليه من تحولات، ما يعني بالضرورة أن تكون له رؤاه السياسية والاجتماعية المعبرة عن نبض الشارع كما يراه، ومما يُذكر للممثل القدير أنه يواجه الإرهاب والتطرف الديني بعرض مسرحية له في منطقة ملتهبة، ويتصدى بشجاعة لا توجد عند غيره من الذين يؤثرون الوقوف في المنطقة الآمنة.

في "الإرهابي"، ١٩٩٤، و"طيور الظلام"، ١٩٩٥، تتجلى جرأة عادل في المواجهة بلا خوف، والفضح بلا تردد، ولا يثنيه طوفان الهجوم أو يدفعه إلى التراجع أو المهادنة.

جانب كبير من شهرة عادل ونجاحه الجماهيري يقترن بأعماله المسرحية، وإذا استثنينا أدواره الثانوية عند بداياته الأولى مع فؤاد المهندس وعبدالمنعم مدبولي، فإن مسرحياته عبر أكثر من ربع قرن، بين عامي ١٩٧١ و١٩٩٩، لا تتجاوز خمس مسرحيات:

- مدرسة المشاغبين "١٩٧١"

- شاهد ما شفش حاجة "١٩٧٦"

- الواد سيد الشغال "١٩٨٤"

- الزعيم "١٩٩٣"

- بودي جارد "١٩٩٩"

الرصيد، على الصعيد الكمي، لا يُقارن بعطاء الريحاني والمهندس، لكن الملايين يتعلقون بمسرحياته هذه ويتفاعلون معها لأنهم يضحكون من أعماق قلوبهم، ويبحثون فيها عن المرح والبهجة دون نظر إلى الرسالة والهدف. البطولة للفكاهة الخالصة، ومن هنا يمكن القول إن سينما عادل إمام أكثر أهمية من الناحية الفكرية مقارنة بمسرحه، ومسلسلاته التليفزيونية التي ينفرد فيها بالبطولة، من "أحلام الفتى الطائر"، ١٩٧٨، إلى "فلانتينو"، ٢٠٢٠، لا تقل أهمية عن أفلامه وأعماله المسرحية. قد يكون صحيحا أنها تتراجع في العقد الأخير بفعل التقدم في العمر واشتداد المنافسة وتغيير المزاج العام عند الأجيال الجديدة،لكنها في مجملها محطات مهمة في مسيرة الممثل الكبير الذي تمتد رحلته مع الإبداع لأكثر من نصف قرن، يقدم خلاله ما ينعش القلوب ويصنع البهجة ويعين على تحمل منغصات الحياة.

في فيلم "الحريف"، الذي يقدمه عادل إمام مع المخرج الكبير محمد خان، ١٩٨٣، يقدم الممثل عظيم الموهبة واحدا من أعظم أدواره وأكثرها عمقا وإتقانا. يجسد شخصية فارس في براعة ترتفع به إلى مصاف العالميين من عتاولة التمثيل، ومن مثله يقوى على تقديم الهامشيين والمهمشين بمثل هذه البراعة؟.
 

في الفيلم اشتباك ناضج مباشر مع معطيات الواقع المصري المضطرب المرتبك، في مرحلة حافلة بالتحولات والتمزقات. البطولة لفارس، ومصدر بطولته كرة القدم التي تمثل جوهر وأساس حياته الغرائبية غير التقليدية؛ الحياة التي تتجسد من خلالها بطولة، أو لا بطولة، الهامش والمهمشين ساكني السطوح.

الملايين من أمثال فارس ينتمون إلى الهامش وملح الأرض، وفي "قمة" السطوح الوهمية تعبير فني بعيد عن المباشرة الفجة لطبيعة القاع الطبقي الذي يرادف المنفى والوجود الهش. لا يمكن القول إنهم من سكان العمارة الأصلاء، فهم مؤقتون منبوذون، لا أحد يفكر فيهم إلا عند وقوع كارثة مثل جريمة القتل، وليدة الفقر وضغوط الحاجة، فعندئذ يتم التحقيق معهم من منطلق الاتهام والبحث عن أدلة للإدانة.

فارس عامل ماهر في ورشة أحذية، في الثلاثين من عمره، مطلق وأب لطفل يحمل اسم جده لأبيه: بكر. في شبابه المبكر، كان ناشئا موهوبا مبشرا في نادي الترسانة، لكن رحلته مع المنظومة الرسمية لكرة القدم، صانعة النجوم أصحاب الشهرة والمكانة،تنتهي مبكرا، ولا شيء من تاريخه يغيب عن ضابط المباحث المحقق في جريمة القتل:

"- هم طردوك ليه من أشبال الترسانة؟

- أنا اللي سبته.

- ليه؟

- أنا حر.

- المعلومات اللي عندي غير كده خالص. انت اتخانقت مع المدرب بتاعك.. وعملتله تربنة في دماغه.. وعملولك محضر في القسم وقضية".

ليس صحيحا أنه من يبادر بالرحيل عن فريق الناشئين بالنادي الشهير، لكنه يتشبث بالمقولة المغلوطة في حوار مع ابنه الذي يرث كثيرا من صفاته وسماته:

"- ما انت كنت بتلعب في الترسانة زمان.. رفدوك ليه؟

- ما رفدونيش.. أنا اللي سبت".

لا تفاصيل عن أسباب ودوافع الاعتداء على المدرب، ولا تبرير لإصراره على إنكار واقعة الطرد من الفريق، لكن النتيجة الملموسة تتمثل في الانتقال من ممارسة اللعبة في الأندية المعروفة المشاركة في المسابقات الرسمية، إلى ساحة مغايرة هي لعب "الكرة الشراب" في الشوارع والقرى، حيث المراهنات والجمهور المختلف.

القمة الكروية الشعبية موزعة بين الأهلي والزمالك،والأندية الأخرى تشارك في إطار أقرب إلى التبعية لاستكمال مشهد المنافسة التقليدية بين الفريقين القطبين اللذين يحتكران الأغلب الأعم من البطولات. الابن بكر هو من يطرح السؤال الجدير بالاهتمام في حوار مع أبيه:

"- انت ما بتلعبش في الأهلي ولا الزمالك ليه.. عشان العيال يشوفوك في التليفزيون.

- أصل اللي عايز يلعب في نادي من دول.. لازم يلعب فيه وهو صغير.. أنا خلاص كبرت".

الإجابة التي يقدمها فارس ليست شافية مشبعة مقنعة، ويترتب عليها بالضرورة سؤال مسكوت عنه: لماذا لم يلعب الموهوب الحريف لأي من الفريقين الشهيرين؟. إنه يمتلك من المهارة والبراعة ما يؤهله للتألق والتوهج والشهرة والنجومية،ويرتفع كثيرا عن أبناء جيله من اللاعبين العاديين.
 

في الحياة وكرة القدم معا، يقنع فارس لأسباب غامضة مجهولة، مثله في ذلك مثل ملايين المصريين،بالهامش الضئيل الذي لا يتوافق مع حجم موهبته، ويبدو جليا أن السلوك العنيف الذي يمارسه مع المدرب سمة راسخة تلازمه في علاقاته مع الآخرين. يطلق زوجه دلال، بعد اعتداء عنيف يكشف عن انفلاته العصبي وإدمانه للعنف، وفي لغته ومواقفه مع المحيطين به يطل عنف مماثل يجسد التأزم وغياب التوافق. إنه ليس حالة فردية استثنائية، بقدر ما هو تعبير عن ظاهرة اجتماعية جمعية تنم عن عمق التحولات السلبية التي تطيح بالكثير من ملامح وسمات الشخصية المصرية في عقود سابقة.

قرب نهاية الفيلم، يتهيأ اللاعب الشعبي الهامشي للانخراط في منظومة الحياة التقليدية المستقرة التي لا متسع فيها للتمرد والاحتجاج والعنف، ويعود إلى الزوجة بعد ثلاث سنوات من الطلاق. يتساءل الابن الذي تنبئ المؤشرات جميعا عن سيره في درب أبيه:

"- يعني مش ها تلعب كورة تاني؟

- ها أطلقها بالتلاتة.. بس بعد الماتش ده.

- انهي ماتش يابا.. انهي ماتش؟

- ماتش الوداع".

يشارك فارس في المباراة بعد بدايتها، وينضم إلى الفريق المهزوم ليواجه النجم الجديد الصاعد مختار. يحقق الانتصار الأخير الصعب، وبه يختتم فصلا طويلا في رحلته مع الحياة، ويشرع في بداية فصل جديد مختلف.

تفرد عادل إمام في فيلم "الحريف"، يتمثل في اقتحامه الجريء الواعي للقضايا الشائكة المسكوت عنها عند صناع السينما التقليدية. يتفوق عادل في تعبيره عن الأغلبية الساحقة في الحياة المصرية، ويقدم دورا لعله الأعمق والأكثر نضوجًا في رحلته الفنية الثرية.

إذا كان "الزعيم" لقبه الأكثر شيوعا، مستمدا من مسرحية تجارية ناجحة، فإن "الحريف" هو اللقب الأكثر دقة في التعبير عن انتمائه الذي يتجلى في أعماله التي تجمع بين النجاح الجماهيري والعمق الفكري.