الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

الدكتور خالد عزب يكتب: القهوة والمقاهى.. من سحر المشروب إلى سحر المكان

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

العرب أساس انتشار القهوة فى جميع أنحاء العالم
فى إيطاليا.. القهوة الاكسبرسو قوية التركيز وتذكرنا بقوة الفارس الرومانى وحيوية المجتمع الإيطالى 

المغاربة المقيمون بالقاهرة سيطروا على تجارة البن من اليمن وإثيوبيا إلى تونس والجزائر والمغرب أوروبا وامتد نشاطهم إلى أوروبا
مقهى فى باريس
فى فرنسا.. جاءت كافيه لاتيه لتعبر عن نعومة ورقة الذوق الفرنسى فى تناول القهوة

اليونسكو سجلت مجالس القهوة العربية على قائمة التراث العالمى اللاشفهى عام 2015.. والعالم يحتفل باليوم العالمى للقهوة أول أكتوبر من كل عام
مشروب صاحبته تفاعلات اجتماعية وسياسية وثقافية وفنية فى أنحاء العالم وتغير معه وجه المجتمع العربى



القهوة ليست مجرد فنجان نحتسيه بل هو قصة ترويها الأحداث التاريخية، فالرواى للقصة يعود بنا إلى شجرة البن التى تزرع على مرتفعات  فى جو إستوائى، وأفضل انتاجها يكون فى تربة بركانية، تستنبت شجرتها من البذور مباشرة أو من جذع شجرة تزرع فى الأرض، وتأتى محصولها بعد ثلاث سنوات، لمدة تتراوح بين ٥٠ إلى ٦٠ عامًا، وهى شجرة تنمو فى اليمن وأثيوبيا، لم تلق اهتمامًا يذكر إلى أن التقط حبوبها الفقية الصوفى على بن عمر الشاذلى عام ٨١٢ هجرية (١٤٠٩ ميلادية) ليغليها ويشربها فتحدث لديه قدرة عالية على التركيز والانتباه فينصح بها مريديه، فينشرون هذا الشراب فى بلاد اليمن والحجاز، ثم يرحل مع الطلاب اليمنيين فى الأزهر بالقاهرة ليشربوه فى رواقهم حيث الدرس والمبيت، ويزورهم أقرانهم من أروقة الأزهر للسمر فيشربون البن لينتشر من هذا الرواق فى بلادهم من الصين إلى المغرب، ليخرج علينا من يفتى بتحريم القهوة وهو الاسم الذى أطلق على مشروب البن المغلى بعد تحميصه، لم يكتف هؤلاء بذلك بل حرضوا السلطان العثمانى على إصدار فرمان بذلك، (وكان السلطان سليمان القانونى "١٤٩٥-١٥٦٦"، أحد أشهر السلاطيين العثمانيين، وحكم لفترة ٤٦ عامًا منذ عام ١٥٢٠).. وهنا يتجمهر محبى مشروب القهوة ويلجأون إلى الشيخ زكريا الأنصارى الذى اتخذ منهجًا علميًا فى التعاطى مع الموضوع، فاحضر من يشربون القهوة إلى منزله ووفرها لهم من الصباح إلى المساء وهو يتحدث معهم ويلاحظهم، ثم فى اليوم التالى ذهب إلى صحن الجامع الأزهر، وأعلن على الجميع أن مشروب القهوة حلال حلال فانتشرت القهوة فى العالم وسقطت فتاوى الفقهاء المتعصبين ومعها فرمان السلطان.
الراوى يذكر أن سبب تحريم القهوة هو أن "تقهى" الناس عن الطعام أى تمنعهم من الأكل بعد شربها وأنها تنبه الإنسان على غير ما اعتاد عليه الناس، وهو نفس فعل الخمر التى أحد أسمائها فى العربية القهوة فاتخذ هذا سببًا لتحريمها، لنجد تصديًا من الأطباء لهذا أيضا فدادود الأنطاكى أشهر أطباء مصر والذى عمل فى المستشفى المنصورى بالقاهرة فى القرن السادس عشر الميلادى يصف البن ويعرفه ويشرح فوائده، ويحكى الراوى أنه سرعان ما كان البن وتجارته إلى أوربا طوق النجاة للإقتصاد المصرى خلال القرون ١٦ و١٧ و١٨ بعد أن فقدت دورها كوسيط دولى فى التجارة العابره لها من جنوب شرق أسيا والهند إلى أوربا، فصار البن سلعة تفرض عليها جمارك وتحقق أرباحا كبيرة، ومن الطريف أن من سيطر على تجارة البن من اليمن وأثيوبيا إلى أوربا التجار المغاربة الذين استقروا فى القاهرة، وكانت بداية تجارتهم فى البن بتصديره إلى تونس والجزائر والمغرب من مصر، ثم امتد نشاطهم إلى تصديره إلى أوربا، وكانوا يملكون أساطيل بحرية لنقله وقوافل جمال لنقله من موانىء البحر الأحمر للقاهرة، التى كان يوجد بها ٦٢ وكالة تجارية مخصصة لتجارة البن، والوكالة عبارة عن منشأة تجارية، يضم الطابق الأرضى بها مخازن لتخزين السلع ويعلوها غرف فندقية لإقامة التجار، وما زالت وكالة ذو الفقار باقية فى القاهرة شاهدة بضخامتها على حجم تجارة البن من مصر إلى أوربا.

 

غيرت القهوة وهى مشروب البن المغلى بعد تحميص حباته بدرجات متفاوته شكل العالم، فلم يعد مجرد مشروب يُشرَبْ، بل مشروب صاحبته تفاعلات اجتماعية وسياسية وثقافية وفنية، فنشأت أماكن لتناوله عرفت بالمقاهى نسبة له، وصار أول مشروب غير الخمر والبيرة يشرب فى مكان عام، فصارت المقاهى مكانًا للقاء أو للاجتماع بين الأصدقاء أو بين أرباب المهن بدلًا من أن يشرب فيه الإنسان بمفرده، فاشتهرت المقاهى بأنها محطة لقاء التجار أو الحرفيين، ثم أصبحت منتديات للقاء العام ومناقشة القضايا المجتمعية والسياسية، وتواكب مع انتشارها فى أوربا انتشار الصحف فصارت تقرأ بها الصحف ويجرى تداول الأخبار حتى صارت المقاهى تشترى عددًا من نسخ الصحف اليومية لجذب الزبائن لها، فى حين أنها اتخذت فى القرنيين ١٨ و١٩ مقرًا لإطلاق الإشاعات، ومن الطريف أن تقاليد المقاهى فى المشرق العربى بدأت تأخذ منحى مسرحيًا حتى كانت مكان للحكواتى الذى يحكى قصصًا من التراث الشعبى.. وهذه العادة رأيناها فى مقاهى دمشق والقاهرة وحلب، ثم سرعان ما كان الرواة يطلقون من المقاهى قصصًا جديدة من مخيلة التراث الشعبى العربى.. هذا التراث من الحكى فقدنا الكثير منه، لكن المقاهى كان لها دور فى تطوير أليات حكى سير شعبية شهيرة مثل سيرة الظاهر بيبرس السلطان المملوكى، وتميزت بعض المقاهى ببعض السير التى تروى بها كألف ليلة وليلة، وفى أطراف المدن كانت المقاهى لديها فرق فنية من راقصات ومغنيين تقدم فقرات لتلسية الرواد، هكذا نشأت مع المقاهى فى المنطقة العربية حركة فنية ومجتمعية غيرت وجه المجتمع.
انتشرت المقاهى فى كل مدن العالم، بداية من ظهور كلمة قهوة فى اللغة الانجليزية من أصلها العربى عام ١٥٩٨ م، إلى أول مقهى معروف فى لندن عام ١٦٥٢ م، لتشهد الولايات المتحدة أول مقهى فى مدينة بوسطن عام ١٦٨٩ م، وما زالت قهوة الفيشاوى فى القاهرة تذكرنا بتاريخ القهوة فهى تعود إلى عام ١٧٩٧ م، لنرى تنوعًا عالميًا فى طرق إعداد القهوة مرتبطًا بثقافة كل شعب والمعطيات البيئية والتاريخية لكل بلد: فالعربى فى الصحراء يغلى القهوة الخضراء على طبيعتها فى الماء على الفحم فى الصحراء فى إناء يسمى الدلال ونالت الدلة اهتمام الصناع فى زخرفتها وأشكالها حتى صار لها تراث متنوع، العربى انسجم مع الطبيعة فى بساطتها وصفوها فكانت قهوته بسيطة بساطة الحياة، فى حين أن أهل المدن مثل مكة المكرمة والقاهرة يحمصون البن بدرجات ويعطونه نكهات مختلفة ويعدونه على نار هادئة حتى ابتكروا موقدًا ذا نار هادئة هو "السبرتاية" لإعداد القهوة على نار هادئة وتناولها فى فناجين من الفخار ثم من الخزف فى جلسات قد تدوم لساعات ففنجان القهوة هو رمز لمحبة اللقاء، ثم فى إيطاليا نرى القهوة الاكسبرسو ذات الكثافة العالية القوية التركيز والتى تذكرنا فى عنفوان قوتها بقوة الفارس الرومانى وحيوية المجتمع الإيطالى المتدفقة، فى حين جاءت كافيه لاتيه لتعبر عن نعومة ورقة الذوق الفرنسى فى تناول القهوة، لتجىء القهوة الأمريكية والنسكافيه تعبيرًا عن السرعة فى إعداد القهوة التى تعكس سرعة إيقاع الحياة والمنافسة الشرسة فى المجتمع الأمريكى.
دخلت القهوة على خط التراكم الثقافى للشعوب، ففى المنطقة العربية لا تقدم القهوة حين يتقدم العريس لخطبة عروسه إلا بعد قبول أبو العروسة الخطبة، وفى العزاء تُقدم القهوة سادة بدون سكر تعبيرًا عن الحزن، وفى القبائل العربية يقدمون القهوة عدة مرات وثالث فنجان دال على التعاضد ويسمى فنجان السيف، فشاربه من الضيوف يدلل على تضامنه مع القبيلة حتى فى الحرب لذا سموه فنجان السيف.. البن صار محل منافسة على تجارته دوليًا فذهب إلى الهولنديين عبر خط ملاحى من اليمن إلى هولندا من ميناء المخا إلى هولندا فعرف البن القادم منه باسم موكا نسبة لهذا الميناء وعرف البن عالى الجودة بموكا، وسرعان ما سير الانجليز سفنًا لجلب البن من اليمن مباشرة عام ١٧٢٠ م، وجارتهم فرنسا فى ذلك، لتنتقل زراعته إلى البرازيل وكولومبيا بعد ذلك.. إنه المزاج الإنسانى الذى يصيغ حركة التجارة والثقافة عبر العالم، لتسجل اليونسكو مجالس القهوة العربية على قائمة التراث العالمى اللاشفهى عام ٢٠١٥ م، ويحتفل العالم باليوم العالمى للقهوة فى ١ أكتوبر من كل عام وبدأ هذا الاحتفاء من مدينة ميلانو عام ٢٠١٥ م.
لمطالعة موقع ديالوج.. عبر الرابط التالي:

 

https://www.ledialogue.fr/