الجمعة 01 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

البوابة لايت

حكاية الست "نفيسة البيضاء" أم المماليك التي أثرت قلوب المصريين

نفيسة البيضاء
نفيسة البيضاء
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

"نفيسة البيضاء" "ذات الحجاب الرفيع والستر الحصين المنيع، الدرة القاهرة المخزونة والجوهرة الزاهرة المكنونة "الست نفيسة".
هي "الست نفيسة البيضا" وقد وصفت بالبيضاء لشدة بياض بشرتها ونضارتها وجمالها الخلاب، كانت امرأة فريدة جمعت بين الجمال البارع والذكاء المتوقد.
أتت نفيسة جارية جليبة إلى مصر في بعض سنوات القرن الثاني عشر للهجرة "18م" ، يقال انها شركسية الأصل، وقد اشتراها رجل مصر القوي آنذاك "علي بك الكبير" كبير طائفة الشراكسة في القوة العسكرية التركية بالقاهرة والذي صار "شيخاً للبلد".
افتتن الشيخ بجمال وثقافة جاريته فقرر أن يعتقها ويتزوجها في وقت كان يسعى فيه للاستقلال بحكم مصر عن الدولة العثمانية وكاد الرجل يصل لبغيته لولا أن أدركته مؤامرة عثمانية ألبت عليه صهره وساعده الأيمن "محمد بك أبو الذهب" الذي قاد تمرداً مملوكياً ضده وهو بجبهات القتال بالشام، ونال جزاء ذلك منصب "شيخ البلد".
أصبحت "نفيسة البيضا" أرملة، لكنها لم تدخل فيما ورثه أبو الذهب عن سيده "علي بك" لأنه وافق على أن تكون زوجة للأمير مراد بك نظير مساعدته له للتخلص من زوجها فلما قتل علي بك تزوجها مراد وصارت تعرف تبعاً لذلك بنفيسة المرادية. 

تعايشت "نفيسة" مع وضعها الجديد ورضيت بأن تكون زوجة لأمير مملوكي يحكم مصر مناصفة مع قرين آخر هو "إبراهيم بك" بعد أن كانت زوجة لرجل يحلم بأن يكون ملكاً متوجاً على مصر وأجزاء من بلاد الشام.
ولما كانت وريثة لثروة "علي بك" في زمن ولت فيه الطموحات السياسية، فقد أعادت استثمار أموالها في التجارة وصارت واحدة من أثرياء البلاد، ويكفي أنها امتلكت عدداً من القصور والبيوت ووكالات التجارة وجيشاً صغيراً مؤلفاً من 400 من المماليك فضلاً عن عدد كبير من الجواري والخدم في قصرها.
في تلك الفترة بدأت شخصية نفيسة تفصح عن نفسها كسيدة على إلمام بالثقافة التركية وموحية لزوجها المتغطرس بالتخفيف من سطوته على الناس و ذاع صيتها بين المصريين عندما شيدت لنفسها "وكالة" للتجارة يجاورها "ربع" لسكنى فقراء الحرفيين، وألحقت بهما سبيلاً للماء يعلوه "كُتاب" لتعليم الأطفال الأيتام مبادئ القراءة والكتابة والقرآن الكريم.

ويعد مشروعها المعماري الذي شيد على بعد خطوات من "بوابة المتولي" أو "باب زويلة"، من مشروعات البر والإحسان فإلى جانب إيواء فقراء الحرفيين نظير أجرة شهرية بسيطة كانت إيرادات الوكالة والربع توجه للإنفاق على وظائف التدريس بالكتاب وعلى قيام السبيل بتوفير ماء الشرب للمارة في تلك المنطقة التجارية.

وفي عام 1798م جاءها "بونابرت" من حيث لم تحتسب ليهزم المماليك بقيادة زوجها مراد بك، ويحتل القاهرة وفر مراد نحو الصعيد تاركاً زوجته تواجه سلطات الاحتلال الفرنسي !! ولشخصيتها ولثقافتها حصلت نفيسة زوجة الأمير الطريد على احترام سلطات الاحتلال الجديدة، وذلك عندما سمحت أولاً بأن يتلقى بعض الجنود الفرنسيين من الجرحى العلاج داخل قصرها الذي ورثته عن علي بك بالأزبكية وكان مواجها لمقر إقامة بونابرت.

وحاول بونابرت أن يستميل مراد بك للصلح معه لوقف حشد القوات ضده بالصعيد بحسن معاملة زوجه نفيسة البيضا، وبالغ الرجل في الأمر حتى أنه منحها هدية ثمينة من الحلي، لكن ذلك لم يحقق شيئاً مما كان يطمح إليه الجنرال الفرنسي.

بدأ بونابرت بتنفيذ سياسته الانتقامية بتوجيه تهمة إخفاء ثروات المماليك الفارين للصعيد، وفتش قصرها أكثر من مرة، وصودرت بعض ممتلكاتها، ثم أعقب ذلك بالقبض على حريم أمراء المماليك، مما اضطر نفيسة البيضا لدفع الغرامات التي فرضت عليهن نظير الإفراج عنهن وصيانة كرامتهن وتجاوز ما دفعته المليون ريال، و عندما اشتد الطلب عليها رهنت بعضاً من مصاغها ومن ضمنه قطعة الحلي الفرنسية التي أخذها بونابرت وأهداها لعشيقته.

ورغم ذلك ظلت نفيسة البيضا قادرة على رعاية حريم المماليك وموضع احترام سلطات الاحتلال خاصة بعد سفر بونابرت وتولي كليبر قيادة الجيش الفرنسي، وعندما نجح الأخير وربما عبر نفيسة البيضا في إقناع "مراد بك" بالتخلي عن السلاح، ورضي بأن يحكم الصعيد بوصفه نائباً عن "الفرنسيس".


لكن وهي تتأهب لاستقبال زوجها مراد أتاه وباء الطاعون ليحصد روحه عام 1801م، وفي نفس العام رحل الفرنسيون عن مصر، ولكن الحاكم التركي الجديد "أحمد باشا خورشيد" سلط رجاله على نفيسة البيضا، وصادر أموالها غير مرة، ولاحت في الأفق بوادر ثورة شعبية ضد ظلم خورشيد ،وسرعان ما نجحت الثورة الوليدة في طرد الوالي العثماني وتعيين محمد علي عوضا عنه.
صادر محمد علي ما بقي لها من مال وعقار‏،‏ وعاشت بقية أيامها في فقر وجهد‏،‏ لكنها واجهت ذلك كله بصبر و قوة عزيمة‏،‏ ولم تفارقها مروءتها ولا علو نفسها.

ماتت نفيسة البيضاء عجوزاً‏ فقيرة‏،‏ بعد أن كانت ملكة علي مصر، وذلك في يوم الخميس ‏19‏ إبريل عام ‏1816‏ في بيتها الذي بناه لها علي بك الكبير‏.، ووريت نفيسة الثري إلي جوار قبر زوجها الأول علي بك الكبير في الإمام الشافعي، ‏وبعد موتها استولي محمد علي باشا علي هذا البيت وأسكن فيه بعض أكابر دولته.

وقد تركت نفيسة البيضا مجموعة معمارية متكاملة هي نموذج رائع للعمارة العثمانية المتأخرة ، تقع بالطرف الجنوبي من شارع المعز لدين الله داخل باب زويلة، وهي تتألف من وكالة وربع وسبيل يعلوه كُتاب، وكانت تعرف إجمالاً باسم "السكرية" نسبة لسوق تجار السكر والحلوى بتلك البقعة. 
كما يعد "سبيل نفيسة البيضا"، أبرز مكونات هذه المجموعة، وهو يطل على الطريق العام وبواجهة نصف دائرية مشيدة بالحجر بوسطها شباك تسبيل أو توزيع الماء وهو من مصبعات حديدية تشبه الدانتيلا في جمالها الزخرفي وقد تعرض نتيجة لإنشاء شبكة التزود بمياه الشرب في بداية القرن الماضي للتهدم الجزئي وأعيد تجديده في عام 1995م في إطار مشروع القاهرة التاريخية، ويمتاز السبيل بأن خزان الماء الخاص به قد شيد تحت بناء الوكالة وليس تحت حجرة التسبيل، كما هو الحال في باقي أسبلة القاهرة.