الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قوة الضعيف

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

- هل فكرت يوما:
• لماذا تتقطع نياط قلوبنا حينما نسمع بكاء طفل؟
• لماذا تتحرك مشاعرنا لتدفع أيدينا إلى جيوبنا لندفع بعض المال لأولئك الذين نستشعر صدق بؤسهم ونتحقق من مرارة عيشهم؟
• لماذا نثور ضد شخص ما (ذو منصب أو جاه أو قوة أو يملك كل ذلك مجتمعا) عندما نراه يضرب أو يظلم أو ينتقص حقوق من هو دونه منصبًا أو جاهًا أو قوة؟
• لماذا ننزعج من منظر رجل أجلف يضرب حصانه في الشارع.
• لماذا ننزعج عندما نشاهد في التلفاز غزالة رقيقة وهي ترقد آمنة مطمئنة، ويباغتها أسد يفترسها ويمزقها اربًا؟
• لماذا تنزعج الأسرة بل وتقوم بمعاقبة ولدها الأكبر عندما يضرب أخاه الأصغر ؟
• لماذا يحظى الطفل الأصغر بعرش قلب والدية دون باقي إخوته في البيت، ولماذا  يخلعون عنه تاج هذا العرش عندما يكبر ويلبسونه لمن بعده؟
• لماذا نستشعر الأسف عندما تتهيج أنفسنا فنثور على شخص، بينما هو يقف صامتًا ساكنًا لا يبدي أي حراكًا.
الإجابة عن كل ما سبق سوف تتمحور حول أن النفس البشرية تجد لديها ميلا فطريا تجاه نصرة الضعيف، ودعمه والوقوف بجانيه. لدرجة قد نري فيها أن الأبن قد يقف معترضا على أبوه أو أمه أذا ما رأهم مثلا يظلمون ضعيف (يضربون الخادم مثلا)، والعكس صحيح يغضب الأب على إبنه إذا ما رآه يظلم ضعيفًا.  فما هو ذلكم السر في هذا الضعيف الذي يجعل كل من حوله يناصرونه. لا شك أن هذا الضعيف لديه قوة  هذه القوة لديها المقدرة على تحريك هذا الشعور الأنساني ليتحد معهم ويناصرهم هذه القوة هي قوة الضعيف، والتي إذا ما أحسن استغلالها صارت قوة تكافيء قوة القوي بل وتتفوق عليه.

فنحن نستشعر ضعف الطفل، وضعف البائس الفقير، وضعف الضعيف. هذا الضعيف يحرك بداخنا شعورًا انسانيا يجعلنا بتلقائية ننحاز بإنسانيتنا تجاهه. وأذكر على سبيل السرد واقعة شهيرة حدثت في وطننا العربي في المملكة العربية الأردنية الهاشمية تحديدًا، بطل هذه القصة كان عاملا مصريًا يعمل في أحد المطاعم بالأردن وتصادف أن دخل المطعم أحد أعضاء البرلمان الأردني ومعه بضع نفر من ذويه وأقربائه والذين تجادلوا مع العامل، وفي نهاية المطاف إستخدم من كان مع النائب البرلماني أيديهم وأرجلهم في صفع وركل هذا العامل. الشاهد في القصة أن العامل تسمر في مكانه تاركًا لهم نفسه يصفعونه ويضربونه ويركلونه دون أن يتحرك هكذا سجلت الكاميرات الموجودة في المطعم المشهد كاملا في مقطع إنتشر خلال وسائل الإعلام العربي والعالمي. الغريب  أن الأمر كان  له أثر بالغ الإستياء في داخل الأردن قبل خارجها. وكان هناك استياء عام من الشعب الأردني تجاه هذه الحادثة، لدرجة أن هناك بيانات عديدة صدرت من أهالي الأردن تجاه أهل هذا النائب البرلماني بل  أن الأمر وصل الى أن تدخل ملك الأردن نفسه والذي أعلن  إستيائه من موقف ممن كانوا مع النائب البرلماني وإنتهي الأمر أن أخذ العامل البسيط حقه كاملًا إلى أن طابت نفسه.

هذا الحادث يقودنا الى أن نستعيد قراءة المشهد من زاوية إفتراضية أخرى. فلو إفترضنا أن كاميرات المراقبة سجلت أن العامل كان يتبادل مع ضاربيه الركل والصفع وهذا مشروع بحكم الدفاع عن نفسه، ولكن هل كان سيحظى بإهتمام الرأي العام وإالتفاف العالم كله نحوه ومناصرة قضيته، أم أن الأمر كان سيأخذ شكل المشاجرة الإعتيادية بين عامل مغترب ومواطنين، بل ومن المؤكد أن هناك أراء كثيرة كانت سوف تشير بأصابع الإتهام نحو هذا العامل وإنه سيء الخلق وما إلى ذلك. لكن العامل حين وقف ساكن لا يتحرك وهو تكال له اللكمات والركلات والصفعات من كل حدب وصوب جعل الناس جميعا تلتف حوله لمناصرة قضيته. إنه موقف يجسد قوة الضعيف.

لا شك أن للضعيف قوة كتلك التي يملكها القوي، وإذا ما أحسن إستغلالها على الوجه الأمثل لكانت قوة الضعيف هذه ذات تأثير أقوى فاعلية من قوة القوي.

يقينًا أنت لستَ ضعيفًا ضَعفًا مطلقًا، وغيرك ليس قويًا قوة مطلقة، بغض النظر عن مدى ما يظهر من مظاهر ضعفك، ومدى ما يظهر من مظاهر قوة القوي. أنما  الأمر في ذلك تحكمه عوامل كثيرة، يمكن إستخلاصها في حياة الكائنات المختلفة من حولنا، والتي فيها يعيش النمل في عرين الأسد مطمئنا، لا يلقي له بالًا، بل ربما تسلط النمل على الأسد فضايقه وكدر عليه حياته.
توفي نيلسون مانديلا عام 2013 م. عن عمر يناهز 95 عاما بعد أن ترك وراءه تجربة ثرية، أعلن من خلال تجربته وبصوت وصل لكل أصقاع الأرض أن قوة الضعيف لا تقل أهمية عن قوة القوي متى كان إيمان هذا الضعيف راسخًا بقدراته وعدالة قضيته. إنتهج نيلسون مانديلا الأسود البشرة  ثوب المعارض ضد حكومة جنوب افريقيا العنصرية أنذاك. كان يتمتع في معارضته بقدر عالي من الذكاء فهو كان مدركًا أنه أمام قضية عادلة، ولكنه أيضًا أمام خصوم تملك القوة في زمن لا يعترف إلا بالقوي، كان يدرك قوة خصمة من ناحية ومن ناحية أخرى كان يدرك أمكانياته المتواضعة فقرر أن يواجه أعدائه بقوة الضعيف، وأستطاع أن يقنع العالم كله بأن يتعاطف مع قضيته حتى تحصل على دعم معنوي عالمي كبرت معه شوكته وإتخذ لاحقًا للمقاومة  مسارات أخرى متنوعة حتي تحقق له ما أراد وأصبح رئيسا لجنوب أفريقيا. وأقام دولة  تحطمت فيها أصنام العنصرية البغيضة في جنوب أفريقيا، في أنموذج جميل يبرز تفوق قوة الضعيف على قوة القوي.