الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مطعم أبو ظبي وذكريات إيطاليا

شاهندة عبد الرحيم
شاهندة عبد الرحيم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لا أعرف لماذا أكتب الآن، ربما لأن الذكريات هي التي تقودني دائمًا إلى الكتابة فلستُ أجيد الكتابة المنتظمة "المقال اليومي" أو الأسبوعي، فأنا أكتب ما أحسه وأعيشه وأفرح أو أحزن به، ما يدفعني للكتابة ربما، مواقف حياتية مؤثرة وضاغطة.. لا أنفعل غالبا بالمواقف العابرة أو الأحداث الرتيبة المكررة والروتينية. 
أجلس الآن في مطعم يقدم المأكولات الإيطالية في أحد فنادق العاصمة الإماراتية أبو ظبي، المكان مضاء بالشموع وتتهافت عليه إضاءات بعيدة من المباني العملاقة التي تحيط به من كل اتجاه.. تعتري وجهي ابتسامات غريبة ربما ظن رواد المطعم أنني مُختلة أو شيء من هذا  القبيل ربما لأنني وحدي أبتسم لنفسي.

فقد تذكَّرت للتو صديقتي الإيطالية ايلينورا في آخر زيارة لي لروما في عام ٢٠١٩، حيث استقبلتني بحميمية شديدة هي وأسرتها، أتذكر حين اصطحبتني بقطار النوم من تورينو في شمال إيطاليا إلى العاصمة روما تلك المدينة التي تشبه متحف مفتوح تبهر عينيك بعظمة التاريخ والعمارة والبنيان في ذلك اليوم مشينًا كثيرًا من الفاتيكان إلى الكولسيو مرورا بنافورة الأحلام، وعندما تعبت أقدامنا وشعرنا بالجوع التفتنا يُمنةً ويسارًا بحثًا عن مطعم فقد كان الجوع يقتلنا.. وجدنا لافتة لمطعم إيطالي قديم يقدم المأكولات الإيطالية التقليدية، كان المطعم صغيرًا وقديمًا، جدرانه من الطوب وطاولاته من الخشب البني القديم يفترشها قماش من اللونين الأحمر والأبيض، خرج علينا الطاهي، عرفنا فيما بعد أنه مالك المطعم أيضًا، رجل مبتسم رسمت السنوات على وجهه بعض الخطوط ولكنه ما زال يشع شبابًا وحيوية، مر عليه آلاف السياح وبحكم مهنته يستطيع أن يُحدد لك المأكولات الإيطالية الشهية والتي لن تنساها طوال حياتك مهما زرت من بلاد.
طلب منا الطاهي أن نجرب قطعًا من "العكاوي" الغارقة في الصلصة الساخنة وطبقًا من الباذنجان مخدوم بجبنة الموتزاريلا بجانب معجون الطماطم الطازجة مخبوزًا في فرن حطب قديم، لن أنسى تلك الرائحة الشهية لقد أكلنا هذا اليوم كما لم نأكل من قبل، وضحكنا كثيرًا فقد حاولت صديقتي، دون جدوى، أن تشرح لي معنى العكاوي بالإيطالية ولكنني لم أفهم إلا عندما رأيت الطبق أمامي.
المطبخ الإيطالي مطبخ غني به الكثير من النكهات، والإيطاليون موهوبون في الطبخ، يتذوقون حتى يأكلون ولا يأكلون لمجرد الأكل.
وعندما قدمت لي النادلة اليوم طبق الحلوى الإيطالية الشهير "التيراميسو" تذكُّرت بيت صديقتي في شمال إيطاليا بقرية بيناسكا وهي إحدى القرى الصغيرة تقع جنوب غرب مدينة تورينو،
المنزل مكون من ثلاثة طوابق تحوطه حديقة صغيرة تزرع بها جدة صديقتي الكريز والتوت والفراولة وتسكن ايلينورا بالدور الأخير وجدتها بالدور الثاني فاجأتني صديقتي بأن جدتها صنعت لي كعكات صغيرة بالتوت البري الذي أتت به من حديقتها عندما علمت بمجيئي إلى المنزل سيدة بلغت من العمر مائة عام ولكنها ترفض الجلوس في المنزل .

تذهب إلى الكنيسة كل يوم احد وتتبضع من سوق الأربعاء تحتفظ بكل قطعة أو تحفة قديمة في منزلها وتأخذ فيتامين دال من خلال الجلوس في شرفتها للتعرض إلى الشمس يوميًا متمتعة بمنظر الجبال الشاهقة تمارس فن التريكو وتعشق نسج الخيوط ببعضها، فرانشيسكا لم تكن تحب نسج الخيوط فقط ولكنها كانت تحب أيضًا الناس كانت تحب أن تُحدثني كثيرًا بالإيطالية ولكنني لم أكن أفهمها كثيرًا فكانت تكتفي بكلمة Bella وتعني الجميلة باللغة العربية، كانت تقف على باب منزلها تنتظرني أنا وصديقتي ونحن ذاهبون للمدينة لتعطينا الفاكهة حتى نتناول الإفطار .

ويوم الأحد أعطت ايلينورا ١٠٠ يورو وقالت لها هذه مني لك ولصديقتك تنزهوا واستمتعوا ولم تكتفِ بذلك بل صنعت لي عروسة بيضاء بالخيوط والأنسجة وقالت لي ستكونين عروس جميلة مثلها يوما ما تذكرت أيضا باولو ابنها، والد صديقتي، أب على الطراز الحديث يعشق ابنته ويدللها، يرتدي الجينز ويذهب إلى العمل بالدراجة البخارية، لن أنسى عندما تأخرت ايلينورا في العمل واصطحبني إلى المتحف المصري بتورينو، ومن بعدها اشترى لي الآيس كريم أو الجيلاتو من محل قريب من المتحف وحاول أن يهون عليَّ جراحي آنذاك قائلا إن الفتيات الجميلات دائمًا ما يتعثرن ولكن كوني قوية فأنتِ تستحقين الأفضل.

كنت أمُر بأوقات صعبة أيامها، لن أنسى جمال وجه وروح والدتها فكنت دائمًا ما أداعبها قائلة كيف حالك يا "مونيكا" فكنت أرى شبهًا كبيرًا بينها وبين الممثلة الإيطالية شديدة الجمال "مونيكا بيلوتشي" فكانت تنظر نظرة هادئة وتلتفت للجميع وتضحك فهي لا تجيد الإنجليزية، ولكنها تجيد الحب الذي ترجمته لي عندما احتضنتني في منزلها عشرة أيام.
كانت تأتي من العمل كل يوم في المساء لتعد لي العشاء وعلى وجهها ابتسامة عريضة، تذكَّرت تلك العائلة التي جعلتني أعشق إيطاليا وقريتهم الصغيرة واللغة الإيطالية وحضارتهم وابنتهم وكل شيء ينتمي إليهم، فسلامًا عليكم عائلتي الثانية وإلى لقاء..