الإثنين 03 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

حاتم الجوهري يكتب.. جيل السبعينيات وتحولاتهم الثقافية في كتاب جديد

غلاف كتاب جيل السبعينيات
غلاف كتاب جيل السبعينيات وتحولاتهم الثقافية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

سعدت بدعوتي في منتدى "الشعر المصري" لأناقش كتاب صدر مؤخرا؛ وهو كتاب "جيل السبعينيات وتحولات الثقافة في مصر" للشاعر والناقد عيد عبد الحليم رئيس تحرير مجلة "أدب ونقد"، والذي يأتي ضمن مشروع: بحث دور جيل السبعينيات في تاريخ مصر بإشراف السياسي المعروف عبد الغفار شكر (والذي كتب تصديرا أو تقديما قصيرا للكتاب)، وذلك تحت مظلة مركز البحوث العربية والأفريقية، وقد صدر الكتاب بالتعاون مع دار نشر الأدهم وضمن منشورات عام 2021م.

والكتاب يتناول موضوعا شديد الحساسية والتداخل؛ فجيل السبعينيات هذا شهد عدة تقاطعات ثقافية وسياسية وفكرية يكاد المدقق فيها أن يصاب بالحيرة، هل هذا الجيل الأدبي كان انقطاعا عن جيل الستينيات ومشروعه الثقافي والسياسي القومي النهضوي فقط، أم أنه أعلن قطيعة مع الذات العربية كلية والصدمة كانت أقوى من الاحتمال مع هزيمة عام 1967م، وما جاء بعدها والتوجه نحو المعسكر الرأسمالي والتطبيع واتفاقية كامب ديفيد!

جيل السبعينيات بين السياسي والأدبي

فبداية يجب التأكيد على أن الكتاب يتناول الدور الأدبي والفني لجيل السبعينات وليس الدور السياسي، هذا الدور الأدبي الذي يرتبط بمرحلة ما بعد حرب 1973م، وكان رد فعل للتوجهات الجديدة نحو المفاوضات مع الجانب الصهيوني وتبني الرأسمالية، بخلاف الدور السياسي لجيل السبعينيات الذي يربطه البعض بمظاهرات ما قبل الحرب ورفض الهزيمة والركون لها ثم عودة الأحزاب وجدلها في المشهد، وهذه تفرقة مهمة من البداية لأن الكتاب يتناول التمثلات الأدبية والفنية لجيل السبعينيات، وليس التمثلات السياسية لجيل السبعينيات التي حملت على عاتقها التجربة الحزبية والسياسية المصرية لحد كبير، وإن كان البعض قد يقول بالتداخل – لحد ما- بين السياسي والأدبي والثقافي.

مركزية الشعر وتجربته في الجيل

 إنما يمكن القول أن هذا الجيل الأدبي شكل تيارا رئيسيا ارتبط بالشعر في الأساس، وما عرف بشعراء السبعينيات أو جيل السبعينيات الشعري، وقام مشروعه المركزي على التمرد على خطاب الواقعية القومية في مرحلة ما قبل السبعينيات، والتخلي -بنسبة ما- عن فكرة المضمون والقيم الكبرى في الشعر والتأكيد على ما هو جمالي وشكلاني وذاتي.

وقد يقول البعض إن هذا الجيل كان مجرد رد فعل للهزيمة وتعبيرا عن حالة التفسخ والتحلل التي ضربت قيم المجتمع المصري، ولم يكن جيلا يقف في وجه التيار الرسمي السائد، لأن كلا من التيار الرسمي (الساداتي) والتيار الهامشي (الشعري) تبنى فكرة التخلي عن الذات العربية بشكل ما، ولم يقدم هذه الجيل مشروعا للوقوف في وجه التيار الرسمي السائد، رغم حضور مظاهر التقييد التي واجهها في نشر أعماله وممارسة فعالياته الأدبية.

جدل "الشاعر النبي" مع "النبي المعتزل"

وقد يرى البعض أيضا أن الذي منح هذه الجيل كل هذا الزخم هو خلفية بعضهم السياسية والأيديولوجية التاريخية، التي على المستوى النفسي منحتهم مكانة تشبه "النبي المعتزل"، وليس "الشاعر النبي"، خاصة مع ما وظفوه من مهارات مختزنة للحضور والتأكيد على الذات من خلال مهارات تنظيمية، خرجت في شكل جماعات شعرية عبرت عن مرارة الهزيمة ورد الفعل لها، ولم تعبر عن اختيار بالصمود والسير في عكس اتجاه التيار الرسمي، كما أن هذه الجماعة الشعرية التي ارتبطت بما عرف بشعراء السبعينيات مارست الإقصاء الشعري على ما يخالف اختياراتها (الشاعر عزت عامر نموذجا مثلا).

ولعل فكرة "مرارة الهزيمة" وأثرها الساحق التفت لها مؤلف الكتاب في مقدمته، حين ذكر على لسان حلمي سالم الشاعر السبعيني المعروف أنه: "كان معظم أبناء جيل السبعينيات حينما دخل الجامعة يصدرون عن رؤية رومانتنيكية إنسانية في الحياة والمجتمع والفن، ذات طابع هيوماني عام، الحنين للحرية والعدالة والحب والجمال والتقدم، لكن حبسة القلعة القصيرة أخركت بعض أبناء هذا الجيل، وقد غادر هذا الموقع الهيوماني إلى مشارف الفكر الاشتراكي العلمي.... والاختبار المباشر لفكرة السلطة والاضطهاد التي كانت قبل ذلك فكرة ثقافية مجردة". (الكتاب ص11)

فيمكن القول من وجهة نظر أخرى أن جيل السبعينيات الأدبي أسس في الثقافة المصرية لخطاب "النبى المعتزل" أو "الملاك الساقط" المهزوم، وما ارتبط به في الثقافة المصرية وتقاليدها من بكاء ساخر على الأطلال ومفارقات وأقنعة، وجلد مضمر للذات واستبدال للعام بالخاص، وهو الخطاب الذي ربما لم يأخذ شكله الأوضح مع جيل السبعينيات لكنه سيأخذ هذا الشكل مع جيل التسعينيات وقصيدة النثر المصرية، التي ستتجاوز مراوحة السبعينيين بين السقوط والنهضة، والملاك والشيطان، والعام والخاص، والجمال والقبح، وتنتصر للانكفاء تماما على الذات والتأكيد على انهيار العالم والقيم الكبرى وسردياتها، وتحول العالم إلى غرفة صغيرة تحيط بها تفاصيل الحكي والسرد اليومية والكسر السطحي للتابو والمقدس والجنس.

تمدد حالة "النبي المعتزل"

ويمكن أن نلاحظ أن فكرة "النبي المعتزل" رد الفعل للهزيمة والاضطهاد هذه سترتبط بهذا الجيل وتأثيره من عدة أوجه، فتجربة السجن والاضطهاد والسفر خارج مصر سيتخذها بعضهم في الفترة التاريخية نفسها، مبررا لتقديم سردية لـ"الانسلاخ" عن الذات العربية كلية وليس بمفهوم المراوحة الذي ارتبط بالشعر السبعيني، فنتاجا لهذا التبنى الثقافي عن فكرة "النبى المعتزل" عاد بعضهم من سفره حاملا مشروعا عن عصر السرد والرواية، ونهاية زمن الشعر بوصف الشعر تعبيرا عن الذات الصاعدة وليس الذات المهزومة، ومعتبرا الذات الأوربية ذاتا عليا يتحتم "الاستلاب" لها وإلحاق الذات العربية المهزومة بها، حتى يمكن لها أن تحقق التحديث على طريقة "الحداثة" الأوريية.

 وفي بداية أطروحة الكتاب ومقدمة المؤلف سنجد أنه قدم تعريفا واضحا يربط مفهوم الجيل كما يراه بفكرة التحولات الثقافية، وليس مجرد التمايز الزمني المتعاقب بين العقود أو السنين، وذلك حين قال: "إن فكرة الجيل -هنا- تعني التحول الثقافي النوعي على مستوى الأفكار وعلى المستوى الفعل الإبداع، وعلى مستوى تطور الشخصية" (ص5)

ضاربا مثلا بجيل الأربعينيات وأثره في الثقافة المصرية ونقل الفكر الاشتراكي العلمي والسريالية والليبرالية والعلمانية، ودلل بنموذج عالمي آخر لفكرته عن الربط بين مفهوم الجيل والأثر الثقافي، حين ذكر جيل 27 في أسبانيا مع لوركا ورفائيل ألبرتي وغيرهما، الذي ارتبط بعام واحد فقط للأثر الثقافي الذي أحدثته هذه الجماعة في هذا العام، ومن ثم تحولت إلى جيل بالمفهوم الثقافي الذي يقصده المؤلف.

الخلفية السياسية الرافعة للجيل

وإن كان لابد هنا من الإشارة إلى أن الحامل أو الرافع الثقافي والاجتماعي الأبرز لجيل السبعينات في الحالة المصرية كان مسكوتا عنه بنسبة ما، فالذي منح جيل السبعينيات –من وجهة نظر كامنة ومضمرة- هذا الزخم رغم مشروعه الثقافي عن المراوحة والبين بين، كان الخلفية السياسية والأيديولوجية لكثير من رجاله.

فرغم مشروعهم عن الانفصال عن الجماعي والموضوعي والتأكيد على الذاتي والجمالي، مثلت فكرة "النبي المعتزل" بتاريخه الأيديولوجي الرافعة الأقوى لهذا الجيل، وسمحت لهم بالعبور بفكرة المراوحة هذه في المحافل الأيديولوجية والحزبية فيما بعد، التي نظرت لهم باعتبارهم هامشا ثقافيا يضيف لهم أو يقع على ضفافهم، من خلال فكرة "النبي المعتزل" تلك. 

وقد أشار المؤلف للخلفية السياسية لجيل السبعينيات هذه حينما قال: "وكان معظم أبناء هذا الجيل أعضاء في منظمة الشباب الاشتراكي، وكانت المنظمة قد أعدت معسكرا للتدريب على السلاح منذ منتصف مايو 1967م .. وبدأ الشباب يتلقون المحاضرات التثقيفية والاشتراكية من معلمي معهد الدراسات الاشتراكية، في انتظار الحرب القادمة. لكن الجميع صحى في صباح 5 يونيو على الهزيمة القاسية"(ص9).

 وقد قدم المؤلف رصده لجيل السبعينيات والتحولات الثقافية في مصر من خلال ثمانية فصول هي: (من شعرية البيانات إلى جمالية الصورة- مسرح المواجهة- سنما الواقعية الجديدة- موسيقيون في مواجهة السح الدح امبو- وجوه في الحركة التشكيلية- السرد وخطاب الحرية- لجنة الدفاع عن الثقافة القومية- المسرح المحترق).

وفي البداية يجب الإشادة بالمشروع عامة وبالكتاب خاصة؛ لأنه يعود بالثقافة المصرية للاهتمام يالتصورات الكبرى أو القضايا الكبرى، وإصدار الكتب وتجاوز ثقافة التدوين الانطباعي التي كانت قد سادت المشهد بعد ثورة 25 يناير عام 2011م، وشيوع وسائل التواصل الاجتماعي، واكتفاء البعض بما يكتبه فيها في حالة من التفريغ المستمر التي تحولت لما يشبه الحالة المرضية، وغياب الوعي بأهمية الاحتشاد والعودة للكتابة المعتادة وصدور الكتب في المواضيع الجادة.

ملاحظات منهيجة وبنيوية

وأول ملاحظة يمكن تقديمها على الكتاب هي عمومية العنوان الذي جاء بصيغة: "جيل السبعينيات وتحولات الثقافة في مصر"، وكان يمكن استخدام بدائل أخرى للعنوان أقل تعميما مثل : من أوراق جيل السبعينيات....، أو من مظاهر جيل السبعينات....، لكن يبدو أن الذي فرض العنوان على المؤلف بشكله هذا هو المشروع نفسه، الذي يقوم به مركز البحوث العربية والأفريقية عن دور جيل السبعينيات في تاريخ مصر.

والملاحظة الأبرز بالطبع ستكون غياب الحديث عن أثر التجرية الحزبية المقيدة وعودة المنابر وتحولها لأحزاب في عهد السادات، على جيل السبعينيات سواء بشكل مباشر أو كخلفية للأحداث في المشهد السياسي والثقافي العام في مصر، ولكن قد يكون الرد عليها جاهزا وفي سياق المشروع نفسه بأن هذا الكتاب في سياق مشروع رصد دور جيل السبعينيات تناول الجانب الفني أو الثقافي فقط لجيل السبعينيات، ففصول الكتاب تناولت على التوالي: الشعر- المسرح- السينما- الموسيقى- الفن التشكيلي- السرد، باستناء الفصلين الأخيرين.

وفي سياق الملاحظات العامة على بنية الكتاب ذاتها يمكن القول إن الفصل الثامن بعنوان "المسرح المحترق" كان خارج نطاق جيل السبعينيات زمنيا، وتناول موضوع حريق مسرح بني سويف في عام 2005م وحاول المؤلف بمهارة تخطي هذه العقبة البنيوية عن طريق محاولة البحث عن صلات بين جيل السبعينيات وبين واقعة حريق مسرح بني سويف، فتحدث عن عدة حرائق في المسرح ظهرت في السبعينيات، وتحدث عن العديد من المنتمين لجيل السبعينيات الذي راحوا ضحية في الحريق، لكن كان يمكن ببساطة اختصار هذه الفصل القصير الذي جاء في ثلاثة مقالات وضمه إلى الفصل الثاني الذي تناول المسرح عموما عند جيل السبعينيات.

وهي الملاحظة التي تنطبق على الفصل السابع أيضا الذي جاء بعنوان: "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية"، فهذا الفصل يمكن أن نلحقه بالتحولات السياسية لفترة السبعينات وتحولاتها، لكن لا يمكن ربطه مباشرة بفصول الكتاب الستة عن التمثلات الفنية والأدبية، لكن المؤلف لجا إلى حيلة أخرى هنا متحدثا عن مثقفي جيل السبعينات في العموم، وليس مفهوم "جيل السبعينيات" الذي ارتبط بالشعر خصوصا والأدب عامة.

ويمكن أن نعتبر ما قام به المؤلف في الكتاب هنا هو سمة ستتطور مع الوقت في التجربة السياسية المصرية والثقافية مع عودة الأحزاب في السبعينيات، وهي فكرة المتن السياسي أو الأيديولوجي وحرصه على حضور عباءة واسعة فضفاضة، تحتوي حتى الخارجين عليه ومن على هامشه ومن كانوا تحت لوائه في يوم ما، وهذا هو السر ربما وراء تضمين المؤلف لفصل "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية" في كتاب فصوله تدور حول جيل السبعينيات ودوره الأدبي والفني.

متن الكتاب في فصوله الستة

وعلى مستوى بنية الفصول الستة الرئيسية نفسها التي قدمها المؤلف يمكن أن نرصد بعض السمات؛ حيث تباينت بنية الفصول الستة ما بين العرض الواحد المتصل الذي هو أشبه بدراسة نقدية مثلما فعل المؤلف في الفصل الأول الذي تناول فيه الشعر السبعيني تحت عنوان: "من شعرية البيانات إلى جماليات الصورة".

وبين بعض الفصول التي قامت على مقدمة تتحدث عن وجود تيار رئيسي أو بنية رئيسية عبرت عن الحالة السبعينية، مع استعراض المؤلف لأبنية متعددة تجاورت مع هذه الحالة الرئيسية وحضرت بدرجة ما، مثلما فعل في الفصل الثاني عن المسرح بعنوان "مسرح المواجهة"، الذي استهله بدراسة عامة عن متن المسرح وتحولاته في جيل السبعينيات بين البحث في التراث عن الاستعادة أو ظهور المسرح الكوميدي الذي يصطدم مع القيم أو يخلق المفارقة معها (تجربة عادل إمام)، والنقيض مع مسرح محمد صبحي الذي يربط الكوميديا بالقيم.

ثم أتبع تلك المقدمة أو الدراسة العامة، بتناوله لعدة تجارب وتمثلات مسرحية مثل: مسرح دنشواى، فرقة الغوري وجماليات المسرح الشعبي، واستعرض تجاربا فردية مثل: عبد العزيز مخيون وتجربة زكي أفندي، وجماعة مسرح الشارع وخطاب الهوية، فرقة السرادق.. احتفالية مصرية، فرقة شبرا بخوم.

وفي الفص الثالث بعنوان: "سينما الواقعية الجديدة" ، استهله المؤلف بمقدمة أو دراسة نقدية حول سيطرة السينما التجارية على المشهد السبعيني وعزلة الداعين لتأصيل الهوية المصرية واستعادتها، ثم ظهور موجة جديدة من السينمائيين أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات معبرين عن الشارع المصري وتحولاته.

ثم سينتقل المؤلف في بنيته العارضة في هذا الفصل إلى شكل جديد بعدما قام في الفصل الثاني بتعديد الفرق المسرحية، سيلجأ في هذا الفصل لاستعراض نماذج شخصية لمخرجين بعينهم، مثل: داود عبد السيد.. الهروب من أرض الخوف، رضوان الكاشف.. ساحر السينما، علي بدرخان.. المتنوع، عاكف الطيب.. سينما المواجهة، خيري بشارة.. جماليات الهامش، محمد خان.. عاشق المكان، وحيد حامد.. كتابة المواجهة (وهو السيناريست الوحيد الذي وضعه بين نماذج الممثلين)، نور الشريف وثقافة النجم السينمائي، محمود عبد العزيز.. التلقائي، أحمد زكي المشخصاتي. نجلاء فتحي.. زهرة السينما، يحيى الفخراني.. المتمرس، سهير رمزي .. أداء متنوع، ميرفت أمين من المسرح إلى الشاشة الفضية، بوسي من برامج الأطفال إلى الشاشة الكبيرة، نيللي فراشة الاستعراض، ونلاحظ أن المؤلف هنا انتقل إلى ما يشبه التسجيلية والاستراض الببليوجرافي لبعض الأسماء الفنية التي اختارها.

وفي الفصل الرابع عن الموسيقى في السبعينيات بعنوان: "موسيقيون في مواجهة السح الدح امبو"؛ سيستمرفي منهجه القائم على مقدمة نقدية عامة للفصل ثم استعراض نماذج فردية للموسيقيين، مثلما فعل في الفصل الذي يسبقه حول السينما، حيث ركز المؤلف في مقدمته العامة للفصل على ظهور الفرق الغنائية في السبعينيات، بوصفها حالة مغايرة تقدم نموذجا يختلف عن الغناء التراثي الكلاسيكي مع أم كلثوم وعبد الحليم وفريد الأطرش، وتيار الغناء الشعبي الذي ظهر واشتد عوده كثيرا بظهور أحمد عدويه.

مستعرضا أسماء مجموعة من الفرق الموسيقية التي ظهرت في تلك الآونة؛ منها فرقة "المصريين" مع هاني شنودة التي مزجت الآلات الغربية بالشرقية، وفرقة "النهار" مع محمد نوح، وفرقة "الفور إم" مع عزت أبوعوف وشقيقاته الأربعة، وفرقة "الأصدقاء" مع عمار الشريعي والمطربين علاء عبد الخالق ومنى عبد الغني وحنان.

ثم انتقل المؤلف إلى آلية استعراض مجموعة من الأسماء الموسيقية والغنائية المختارة (دون أن يحدد معيار الاختار)؛ مثل: عمار الشريعي.. غواص في بحر النغم، حسن أبوالسعود.. غواص في بحر النغم"، عدلي فخري.. صوت المقاومة، محمد منير.. صوت الجنوب.

وجاء الفصل الخامس بعنوان: "وجوه في الحركة التشكيلية" شمل مقدمة نظرية قصيرة استشهد فيها المؤلف برأي للفنان عز الدين نجيب، حول ظهور عدة تيارات فنية بعد هزيمة عام 1967م تبنت فكرة رفض الهزيمة، وهو رأي كان يحتاج للتدليل وتعقيب من المؤلف عن سبب التوجه العام المختلف للحركة التشكيلية –وفق الرأي الذي أورده- لفكرة الصمود والمقاومة على عكس الشعر مثلا.

غير أن المؤلف حاول تصحيح تصديره المقدمة برأي عز الدين نجيب، حين وصف هذا الجيل قائلا: "والذين تراوحت لوحاتهم بين التعبير عن حالة الانكسار وحالة الصمود والانتفاضة بأساليب فنية متنوعة" (ص125)، وهي حالة المراوحة والبين بين التي اتسم بها معظم جيل السبعينيات، وفي معظم تمثلاته الفنية والأدبية.

ثم انتقل المؤلف لآليته التي اعتمدها في معظم الفصول؛ مستعرضا مجموعة من الأسماء الفنية المختارة مثل: عبد السلام عيد، السيد القماش، سعيد أبورية، أحمد نوار، رضا عبد السلام، رؤوف رأفت، عبد الوهاب عبد المحسن، عصمت داوستاشي، بكري محمد بكري، أحمد الجنايني، فاتن النواوي، طارق زبادي، أحمد عبد العزيز، سميرشوشان، السيد عبده سليم، مجاهد العزي، عادل السيوي.

الفصل السادس جاء بعنوان : "السرد وخطاب الحرية"، وحمل مقدمة نظرية قصيرة للغاية تكاد تتكون من فقرة واحدة؛ حول فكرة المساءلة التي طرحتها الرواية في تلك الفترة عن الجدل بين الذات ولآخر، والبحث عن المسكوت عنه في التاريخ وأثر صدمة الواقع واستعارة أقنعة حداثية بديلية أو تعويضية.

ثم انتقل الكاتب إلى آلية استعراض النماذج الفردية مثل: إبراهيم عبد المجيد.. صياد الحاكيات، سلوى بكر.. كتابة الهامش النسائي، يوسف أبورية.. عاشق الحي، فتحي إمبابي وسؤال الهوية، نعمات البحيري: االمقاومة حتى النهاية، محمد المنسي قنديل.. الرحالة، محمود الورداني الروائي والمؤرخ، ابتهال سالم.. نوافذ متعددة.

وتلى الفصول الستة التي تناول فيها الفنون والآداب: (الشعر- المسرح- السينما- الموسيقى- الفن التشكيلي- السد)؛ الفصلين الذين سبق لنا الحديث عنهما بعنوان "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية"، و"المسرح المحترق"، ثم مجموعة الملاحق والوثائق التي أوردها المؤلف في الكتاب واشتبكت معه.

ما انتظره القارئ ولم يقله المؤلف

ولكن كان ينتظر المتلقي أو القارئ من المؤلف خاتمة مستفيضة يتحدث فيها عن الأثر المستمر لجيل السبعينيات الأدبي في الثقافة المصرية، أو المسكوت عنه داخل تطور ونشأة جيل السبعينيات نفسه. 

ومنها أثره اللاحق على الشعر المصري عندما مهد الطريق باختيار المراوحة وجدلية الملاك والشيطان أو "النبوة" و"الاعتزال"، لقصيدة النثر المصرية مع جيل التسعينيات لتؤكد على قطع الطريق على المراوحة وتبنى فكرة التفكك والتشظي وحدها دون حضور للجانب الآخر، وتبني كتابة الغرفة وجماليات القبح وكسر التابو، وفي مرحلة لاحقة التحم السبعينيون مع التسعينيين وأعلنوا أنهم آباء قصيدة النثر المصرية، وصدر رفعت سلام أنطولوجيا شعرية بعنوان: " ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: أنطولوجيا النص المصري الجديد" بمقدمة تتحدث عن هذه الأبوه وهذا الالتحام، دامجة الأنطولوجيا بين شاعر سبعيني وآخر تسعيني، وكان الكثيرون من السبعينيين قد اقتربوا بالفعل من كتابة التفاصيل اليومية والوصفة الجاهزة لقصيدة النثر المصرية، قرب نهاية تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة.

وكذلك كان يمكن للمؤلف أن ينظر في أثر الحالة الثقافية والأدبية للسبعينيات وتفاعلها مع التجربة الحزبية والشأن المصري العام عموما؛ والتداخل الذي أصبح متزايدا بين مفهوم الثقافة والإبداع أو المثقف والمبدع، والذي انتهى عند البعض لأن أصبحت الثقافة مجرد فعلا إبداعيا كرنفاليا يبتعد عن هموم البلاد ودوائر وجودها، لا فعلا شموليا أو كليا عارفا يهتم بدراسة الماضي والحاضر وأنماطهما المقارنة؛ بحثا عن استشراف أفضل الطرق للمستقبل وتعبيدها.

لكن ختاما لا يمكن إلا الإشادة بهذا العمل ومؤلفه في وقت تزايد فيه الركون إلى ثقافة التفريغ والتدوين الانطباعي في وسائل التواصل الاجتماعي، ويمكن اعتبار الكتاب دعوة للبحث في المسكوت عنه والمضمر والكامن في طبقات الثقافة المصرية، بهدف واحد معلن وصريح؛ وهو كيف يمكن أن تقدم الثقافة منتجات معرفية تتفعال مع الواقع المحلي والإقليمي والدولي، وتنظر في كيفية العبور للمستقبل؟ لا الثقافة التي تفصل بين الأدب والمعرفة والفنون والمستقبليات ومصير الجماعة، الثقافة التي تنتج وتطرح البدائل ولا تزايد ولا تنفصل عن حاضنتها التاريخية والشعبية برطانات مستجلبة.

ففي وجهة نظر البعض أصبحت الثقافة المصرية بتراتباتها الاجتماعية التاريخية ثقافة للاستهلاك المحلي، تقدم أدوارا من الحنين للماضي والالتصاق به، دون قدرة على تحمل المسئولية ومواجهة الحياة والواقع من حيث ما هو قائم، والعمل وفق منهج "دراسة الحالة" والبدء من الصفر، هناك من يرى أننا في حاجة لتوصيف جديد للثقافة يتوحد مع اللحظة التاريخية الآنية ويتجاوز كافة التناقضات الموروثة، ويقدم المسارات البديلة للعبور للمستقبل دون مزايدة أو تزيد أو تفريط.

وقد تُختصر أزمة الثقافة المصرية ووقوعها في دائرة الاستهلاك المحلي وغواية الحنين واجترار الذكريات أو حالة الكرنفالية المائعة في فكرة مركزية، وهي أن الجماهير تحلم بسردية كبرى جديدة لاستعادة الذات العربية وأحلامها وأن تتجاوز ثوراتها تفجير التناقضات وتوظيف الفرقاء السياسيين؛ في حين أدبيا وشعريا تدور الثقافة المصرية في فلك التفاصيل الصغيرة والتشظي والذاتي مع السبعينيين والتسعينيين، وفكريا ومعرفيا تدور الثقافة المصرية في فلك الدراسات الثقافية والتمركز حول الهوامش ونسيان أحلام المتن العربي، أو دراسات ما بعد الاستعمار مثلا وبحث العلاقة بين المستعمِر والمحرَّر دون اهتمام بالمحرَّرِ العربي وكيف يلتفت لحاله ويقدم نموذجا خاصا به للتحديث والصعود.

إنما تبقى في النهاية التهنئة واجية للمؤلف وجهده، وللمشروع الجاد الذي يهدف للوقوف على مشروع السبعينيين الأدبي والفني ودورهم في تاريخ مصر (الأدبي)، وما قد يثيره ذلك من جدل وحراك.