رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

ننشر مقدمة كتاب «عن القراءة» لسلمى الغزاوي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يصدر حديثا عن دارالهجان العراقية ، كتاب بعنوان "عن القراءة" للمؤلف مارسيل بروست، ترجمة المغربية سلمى الغزاوي.

وفي مقدمة للكتاب بعنوان "تَجَلِّيَاتُ الاستطيقا" تقول سلمي الغزاوي: لطالما كنتُ متيمة ومفتونة بالكتب التي تتمحور حول فن القراءة، وفن الكتابة الذي كثيرا ما يتولد لدى صاحبه جراء فعله القرائي المتصل منذ الطفولة، فالقراءة في كثير من الأحايين تمثل بالنسبة للكاتب عمود ارتكاز ممارسته الإبداعية، قد أكون غير متفقة تماما مع القول السائد الذي يقضي بأن كل كتاباتنا¬، نحن معشر الكتاب، ليست في الحقيقة سوى تناص لكتابات سابقة لأسلافنا المبدعين، غير أنني لا أنكر أن لتراكم حصيلتنا القرائية دورا مهما في تشكيل شخصيتنا الإبداعية، وأن ما نقرؤه كثيرا ما ينعكس في كتاباتنا، وأحيانا من دون أن نعي ذلك.

وأضافت: قلتُ إنني عاشقة للكتب التي تدور حول القراءة وبالتالي الكتابة، اللتين تربط بينهما علاقة سببية، لذا ككاتبة، استهوتني وأفادتني أيما إفادة كتب تنتمي إلى هذا النوع الأدبي المميز، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "تاريخ القراءة" و"المكتبة في الليل" لألبرتو مانغويل، "الكتب في حياتي" لهنري ميلر، "الروائي الساذج والحساس" لأورهان باموق، "غواية الشحرور الأبيض" لمحمد شكري، وأخيرا وليس آخرا ثلاثية ميلان كونديرا الشهيرة: "حول الرواية" ..لذا لم أتردد للحظة واحدة في قبول اقتراح الناشر بترجمة هذا الكتاب الفريد والمميز في نوعه ومجاله، الذي لم يسبق أن تُرْجِمَ إلى اللغة العربية، للباحث عن الزمن المفقود "مارسيل بروست"، الأسطورة الأدبية الفرنسية على مر الأزمان والعصور. بروست الذي رغم أنه معروف أكثر كروائي مُكَرس أكاديميا وناجح جماهيريا، إلا أنه كان أيضا قارئا ضليعا، وقد جاء هذا الكتاب كمحاولة منه لتوثيق علاقته بالقراءة، الكتب والمؤلفين الذين تأثر بهم، وكذلك لتضمين رُؤاه غير النمطية وآرائه الصريحة حيال القراءة.

في هذا العمل نتعرف على وجه آخر لبروست المثقف، الباحث في فن القراءة، والذي تجعلنا ذكرياته، تأملاته، تساؤلاته، قراءاته، ملاحظاته، وفلسفته القرائية، نغير منظورنا للقراءة ونتعرف في رحلة فكرية شيقة على كتب وكُتّاب قد يكون لهم دور فيما آل إليه بروست، الكاتب، المترجم والناقد، وكذا المفكر المختلف.

في هذا الكتاب المتاهة، يعرض بروست رؤيته وتصوره الخاص للقراءة، في فصول متداخلة، متقاطعة وأحيانا غير مترابطة أو متصلة "ربما كإحالة ذكية على الممارسة القرائية" ، فصول يحدد فيها بروست 
دونما مُواربة نظرته إلى القراءة كفِعل شخصي للغاية وخاص، عكس نظرية "روسكين" التي ضَمَّنها هذا الأخير في محاضرته حول القراءة المعنونة بـ: "السمسم و الزنابق"، هذه المحاضرة التي قد تتفاجأون بأن بروست هو من قام بترجمتها عن اللغة الإنجليزية إلى الفرنسية، وأن كتاب عن القراءة في الحقيقة قد صدر لأول مرة كمقدمة لمحاضرة روسكين، مقدمة اسْتُقْبِلَتْ بحفاوة من طرف النقاد، ولذلك أعاد بروست إصدارها في كتاب مستقل تحت هذا العنوان المحمل بدلالات شتى، والذي يفتح أمامنا أبواب عالم شاسع ومجتمع خاص ومتفرد "حيث نلتقي ونربط صداقات مع شخوص خياليين ينبعثون من صفحات الروايات، ومع كُتّاب عاشوا قبلنا بقُرون، غير أنهم خَلَّفوا لنا آثارا خالدة شاهدة على فكرهم العَصِيِّ على الامِّحاء، وعلى زمنهم الذي نتسلل إليه عبر الآلة السحرية العابرة للأزمنة والأمكنة، هذه الآلة المسماة بالقراءة، لنرى الأماكن التي وصفوها في كتبهم "تلك الأماكن التي استحالت في الواقع مجرد يباب وأطلال بسبب تأثير العوامل الزمنية عليها"، هذه الآلة التي تجعلنا نحيا في حِقَب وعصور غابرة، نلمح أناسها، نفغر أفواهنا مندهشين أمام عاداتهم ولكناتهم الغريبة، ونسمع همسات حضارة قديمة لم يعد هناك من شواهد عليها عدا الآثار الفكرية التي أورثنا إياها مبدعو تلك الحقبة.

بالرجوع إلى روسكين، الذي عارض بروست في هذا الكتاب نظريته حول القراءة، والتي تقول بأن القراءة فعل عام، جماعي، من المحبذ ممارسته في المكتبات العمومية التي ساهم روسكين في إنشاء إحداها بمدينة روشهيلم، بفضل عائدات محاضرته "الكنوز الملكية"، ربما انبثقت نظرية روسكين حول القراءة الجماعية التي كان يصر على قيمتها وقيمة المكتبات التي يُمَارَسُ فيها هذا الفعل من طرف العامة، من تأثير لقاءاته المتعددة بصديقه "كارليل" مؤسس مكتبة لندن. ينبذ بروست بجُرأة ليست بغريبة على كاتب/ إنسان مثله، نظرية روسكين ويُعَلِّق عليها قائلا ما مفاده: "إن محاضرة روسكين هذه تطغى عليها فكرة مغلفة بالتيار الأبولوني"، ويعارض رؤية روسكين للقراءة على أنها محادثة مع أناس أكثر حكمة من الناس الذين نتعرف عليهم عن كثب بقوله: "لا يمكن للقراءة أن تتنكر في هيئة محادثة ولو كان ذلك مع أكثر أبطال الرواية حكمة"، بل ويصدم القارئ بنَقده الصريح لأطروحة وفكرة روسكين عن القراءة وهو يقول في مقدمته: "لو كان روسكين قد استخلص ما يترتب عن الحقائق التي أعلنها في صفحات كتابه، من الوارد أنه كان سيتوصل إلى استنتاج مماثل لما استنتجتُه، لكن من الواضح أنه لم يسعَ إلى البحث في كُنْهِ فكرة القراءة، ولم يقم بحَكي سوى ما يشبه أسطورة أفلاطونية جميلة.. أعتقد أن جوهر القراءة الأصلي يكمن في التواصل الخصب في خضم الوحدة، وأنها شيء يفوق ويختلف عما قاله روسكين." ولهذا في نظر بروست: "القراءة ليست ملزمة بأن تلعب في الحياة ذلك الدور البارز الذي يخصصه لها روسكين".

إن هذا النص الذي يقدمه لنا بروست، أو بالأصح هذه المرافعة عما تمثله القراءة بالنسبة إليه منذ نعومة أظفاره، وما خلفته بداخله من صور، ذكريات وكلمات، هو نص فسيفسائي شبيه بأحجية، نركض فيه لاهثين خلف بروست أثناء رحلته القرائية، في رجوعه إلى الطفولة/ مرحلة القراءة الممتعة، وفي إيابه المفاجئ إلى تحليل ونقد رؤية روسكين ورُؤى كُتَّابٍ آخرين، هو بحَقٍّ نص سهل ممتنع، كتاب يصعب سبر أغواره إلى حد يبدو معه في بعض المقاطع مُوَجَّهاً فقط للنُخبة المثقفة، أو السادة كما يلقبهم، بينما هو في الحقيقة أنشودة مُمَجِّدَةٌ لخُصوصية الفعل القرائي، أنشودة بوسع أي عاشق حقيقي للكتب أن يسمعها، يستمتع بها و يفهمها..
انطلاقا من طقوس قراءته في فترة طفولته، أماكنها، وما يميز تلك الأيام، مرورا بالدور العلاجي للقراءة، وانتهاء بامتزاج الحاضر بالماضي عن طريق الكتب، يأخذنا بروست في رحلة قرائية تحبس الأنفاس، وتجعل عقولنا تفكر وتستخلص العديد من الأشياء التي ربما ليس بوسع أي شخص التقاطها والتعمق في كُنهها مثلما فعل بروست، الذي قال عنه ميلان كونديرا: "وصل بروست إلى نهاية رحلة عظيمة استنفدت كل إمكانياته"، لكن مع ذلك أثرُ فكره الفريد بَاقٍ، يحثنا على مواصلة رحلتنا الخاصة للبحث عن أنفسنا، عن رؤانا الشخصية وأحلامنا السرية..

بإمكاني القول: إن مارسيل بروست هو ككاتب مهووس بتَصَنُّعِ وعجز النص الأدبي عن تحقيق الواقع، وكقارئ يُولي اهتماما كبيرا للطريقة التي تتفاعل بها عقولنا وأرواحنا ونحن نقرأ، لذا حسب تصنيف أورهان باموق هو قارئ وروائي حساس، وهذا ما يتجلى من خلال موقف مارسيل من القارئ/ المثقف الساذج "الذي يخال أن الحقيقة ملموسة، مُودَعَةٌ بين أوراق الكتب كَرَحيق مُحَضَّرٍ من طرف الآخرين، لذا ليس علينا سوى تجشم عناء الوصول إلى رفوف المكتبات لنتذوقه بعدها في راحة جسدية وروحية مُثلى."، لأنه في نظره: "القراءة ليست سوى حافز لا يستطيع أن يحل محل مجهودنا الشخصي"، لذلك يعتبر أن مفاتيح الحقيقة ليست بِيَدِ شخص سوانا، عكس ما يعتقده المثقف الساذج، ذو الفكر الخامل، والذي يقول عنه بروست في معرض كلامه: "إنه يُسْبِغُ رِفْعَةً وهمية على كل ما يحيط به، عوض أن يتلقى رفعة حقيقية من الأفكار التي توقظها القراءة بداخله"، ويضيف منتقدا إياه: "إن عقله لا يعرف نشاطا أصليا، ولا يعلم كيفية استخلاص العبرة التي بوسعها أن تُقوِّيه فكريا من الكتب".

إن بروست لا يكتفي في مقدمته/ أحجيته هذه بدعوتنا إلى إعادة النظر في مفهوم القراءة الخاص، وإعمال عقولنا فيما نقرأه لنستخلص منه ما يلزمنا كي نشق طريقنا الخاص صوب الحقيقة، بل يقدم لنا مفهوما مغايرا للصداقة/ التوحد مع القراءة، ويقارنها بالصداقة "غير المُجْدِيَةِ في نظره" مع الأشخاص، ويتجلى هذا عبر قوله في هذا الصدد: "الصداقة مع الكتاب على الأقل صادقة، ولو كنا نربطها مع شخوص خياليين، وكُتَّابٍ راحلين أو غائبين، الشيء الذي يمنح هذه الصداقة بُعدا مؤثرا وخاليا من المصالح.. ففي القراءة تعود الصداقة إلى نقائها الأصلي.. فمع الكتب لا مجال للمجاملة.. إلخ".

اللافت للنظر أيضا في هذا الكتاب، أن بروست يتجرأ على نقد وكَشْفِ مواضع ضعف بعض الرموز الإبداعية، وكذلك كُتَّابِهِ المفضلين، كالشاعر المثالي "تيوفيل غوتييه"، وهو نفس النهج " الكونديري"، فعلى سبيل المثال، بعد أن يصف بروست غوتييه بـ: " سفير المثالية الفنية" ويُسْرِفَ في مديحه، يفاجئنا بانتقاده المباغت له: "ورغم ذلك لا نستطيع منع أنفسنا من أن نجد هذا الالتزام الذي يُقَيِّدُ به نفسه، والذي يقضي بألا يترك أي شيء من دون أن يصفه وصفا كاملا، ويرفقه بتشبيه لا ينبثق من انطباع ممتع وقوي، التزاما جد بعيد عن الفن الحقيقي، لذا نجد أنفسنا نلقي اللوم على الجفاف البائس لِمُخَيَّلَتِهِ.. إلخ."، وفيما يلي، يأتي على ذكر الكاتب "فرومتنان" والكاتب "دي موسيه"، ونندهش ونحن نقرأ رأيه الصادم فيهما:  "ونحن نَنْكَبُّ على كتاب لفرومنتان أو كتاب لمُوسيه، بوسعنا أن نلمح بشكل مميز في مضمون فكر فرومنتان قصر النظر والحماقة، أما فيما يخص موسيه، فإننا نلاحظ نقصا بلاغيا."، يا لها من صراحة! ويا لها من جرأة و شجاعة أدبية مَكَّنَت بروست من التصريح بآرائه في رموز وأسماء مُكّرَّسَة ومنقوشة بمَاءِ الذهب في سجلات تاريخ الأدب، جرأة تعوز في عصرنا هذا الكثير من الكُتّاب بل وحتى بعض النقاد.

"عن القراءة" تجسيد حي للاستطيقا، كونه مؤلفا يتماهى مع متحف نكتشف رويدا رويدا داخل أروقته اللامتناهية روائع أدبية، تشكيلية، موسيقية وكذا معمارية، وهذا الحضور الجمالي المكثف، المؤرِّخ للآثار الفنية يَنِمُّ عن الذوق الرفيع والاطلاع الواسع والإلمام الكبير لمارسيل بروست بشَتى الفنون، إن براعته في استخلاص الجمال من كل شيء، ولو كان لوحة قاتمة لموريس دينيس، نصا تراجيديا لسُوفوكليس، معزوفة مغرقة في الحزن لفانسان داندي، أو حتى بقايا رخاميات أثرية، وأشكال لغوية مندثرة، يجعلنا لا نرغب في توديع مؤلفه المدهش والبديع هذا، الشبيه بمتاهة "ديدالوس"، خشية أن تلفحنا شمس الواقع كما حدث مع "إيكاروس"، إن قوة هذا النص تكمن في أن بروست يحررنا من أوهامنا، ويقودنا صوب الحقيقة لا عُنوة، بل عن طريق دفع عقولنا وأرواحنا للعمل الدؤوب من أجل النفاذ إلى عمق فكره واستخلاص ما أراد أن يُعَلِّمَنا إياه، وكيف لا، وهو القائل إن الحماسة التي تلي بعض القراءات تنعكس وتؤثر إيجابا على العمل الروحي؟

ختاما، أود القول: إنه كما هو معروف، كثيرا ما يرتبط إلى الأبد اسم كاتب ما بعُنوان كتاب واحد من كُتبه العديدة، لسبب مُبهم أحيانا، من دون أن يعني هذا أن ما سبق أو تلا هذا العمل الملتصق بكاتبه كتوأم سيامي، أقل روعة وأهمية منه، في حالة بروست، رغم ارتباط اسمه العابر للعصور بتحفته "البحث عن الزمن المفقود"، فإن كتاب "عن القراءة"، هذا النص الذي يتماهى في بعض المواضع مع فن الماندالا، يضاهي في روعته وثقل حمولته الفكرية أشهر أعمال بروست، هذا النص المثير للإعجاب، والذي كان بذرة و شرارة كل ما تلاه من أعمال بروست، بما فيها روايته الأطول في التاريخ التي بحث فيها عن زمنه المنفلت، والتي تضمنت الكثير من التفاصيل والأماكن التي أتى على ذكرها في "عن القراءة"، وكأن هذا الكتاب هو جوهرة التاج المنسية فيما خَلَّفَهُ لنا بروست من إرث أدبي ثمين، وقد لا أجد أفضل من أبيات من أزهار الشر لشارل بودلير لأصف هذا الكتاب الآسر:
" ثمة جواهر عديدة ترقد مُتوارية
في الظلمات والنسيان
ولو أنها بعيدة عن المعاول وآلات سَبْرِ الأغوار
وثمة أزهار كثيرة تسكب رغما عنها
عطرها الآسر كَسِرٍّ
في الوحشة العميقة.