الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رفعت السعيد.. القابض على جمر الوطن

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كنا نتأمله بشغف تمتزج بحيرة بلا حدود.. كيف له أن يجمع كل تلك الأوراق في يديه دون أن يرتبك أو يخلد للراحة بعضا من الوقت؟
هو ذلك النموذج المدهش الذي نعرفه بـ "رفعت السعيد " تحاصرنا الحيرة ونحن نتابعه يفكر ويكتب ويشتبك ويخطب ويدير المؤسسات ويتابع العمل اليومي في حزب التجمع لحظة بلحظة ممتلكًا حضورًا ذهنيًا لا نقاومه ولا نطاوله أبدًا...
في النهاية كنا نرتكن للاستسلام ونصغى للمعلم مدركين أننا أمام شخص استثنائي تماما 
هكذا كان رفعت السعيد..
في عام ١٩٣٢ كانت مصر تواصل نضالها من أجل الاستقلال وقبل سنوات قليلة أنشئ أول حزب اشتراكي مصري عام ١٩٢١ ولم تكن الحركة الاشتراكية المصرية تعلم أن هذا الفتى المشاكس الذى ولد في مدينة المنصورة أكتوبر ١٩٣٢ سيكون هو مؤرخها الأهم وصاحب أكبر إنجاز في توثيق حركتها ونضالها ووثائقها.
كما أن جماعة الإخوان التي تأسست قبل مولده بأربعة أعوام لم تكن تدرك أن هذا الصبي سيصبح واحدا من أشرس خصومها فكريا وسياسيا وسيصبح الأجرأ في كشف مخططاتها وفضح أهدافها دون مواربة أو تردد.
نحن إذن في حضرة ذكرى الدكتور رفعت السعيد بكل هذا الزخم وكل ذلك التنوع في العطاء. المتتبع لمسيرة المفكر والمؤرخ الراحل "رفعت السعيد " يجد أن بها ثلاث مراحل رئيسية يمثل كل منها مشروعًا متكاملا استطاع من خلاله أن يؤسس رؤاه ويعزز وجهة نظره.
المرحلة الأولى هي كتاباته في تاريخ الحركة الوطنية المصرية والتي كانت موسوعته عن تاريخ الحركة الشيوعية درة التاج بها – وكان هذا هو البحث الذي نال عنه درجة الدكتوراه - استغرق هذا العمل الضخم سنوات من عمر "السعيد " ووثق شهادات رموز الحركة وتحولاتها السياسية والفكرية ووثائقها وتأثيرها السياسي والاجتماعي والثقافي على الساحة المصرية منذ نشأت تلك الحركة في بدايات القرن التاسع عشر.
كما كانت قراءته المختلفة والمغايرة لرموز الحركة الوطنية مثل "أحمد عرابي" وثورته "ومحمد فريد ونضالاته ومصطفى النحاس وزعامته وغيرهم من قادة العمل الوطني في نفس المرحلة فقد انشغل برموز التنوير والتأريخ لمسيرة الاستنارة ومعاركها وأزماتها والتحديات التي واجهتها خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين حيث نتعرف على "جورجي زيدان وسلامة موسي وفرح أنطون وغيرهم من مؤسسي المشروع التنويري المصري والعربي... هكذا كان المؤرخ الملتزم والسياسي صاحب المشروع النظري العميق. 
بعد ذلك تأتى حلقة أخرى من حلقات عطاء "رفعت السعيد " والتي تمثل واحدة من أهم نضالاته الفكرية والسياسية حين بدأ بشجاعة استثنائية التصدي بالنقد لأطروحات "الإسلام السياسي" ومبكرا جدا يقدم للقارئ العربي أحد أهم أبحاثة الفكرية والذى تناول مؤسس ومرشد جماعة الإخوان المسلمون "حسن البنا" في كتاب طرح عدة تساؤلات في عنوانه "حسن البنا... متى وكيف ولماذا " ولعل المتابع المنصف والقارئ المهتم سوف يكتشف أن هذا العمل الذى تحول إلى مرجع فكرى لنقد الجماعة ومؤسسها هو أحد أكثر الأبحاث النظرية في هذا الشأن موضوعية وحيادا وتجردا وقد نجح "السعيد" بامتياز في أن يعلى صوت المؤرخ عن أهواء السياسي لكنه احتفظ بمنهجه الثابت في التحليل والاستنتاج وحافظ على انتمائه لمدرسته في التأريخ الذى ينحاز إلى التفسير الاجتماعي والاقتصادي في قراءة الحدث والغوص في عمق المجتمع بعيدا عن القراءة الفوقية لحركة المجتمعات وقادتها فكل ذلك تحركه تفاعلات اجتماعية بالأساس وقبل كل شيء.
واصل "السعيد " مشروعه الفكري والسياسي بجسارة وبأس وصلابة المناضل وعمق المفكر ودأب المؤرخ وكشف بوعى لا حدود له عن عورات الجماعة وتناقضاتها وفسر ما قالته وما كتبه قادتها وشيوخها وصار "رفعت السعيد " أحد أهم خصومها السياسيين والفكريين في الوطن العربي.. كان هذا في الوقت الذى يزداد فيه نفوذ الجماعة وتعدد أذرعها ويسعى الكثيرون لنيل رضاها والفوز بعطاياها السياسية... حيث بدأت مرحلة - شهر العسل – بين الجماعة والسلطة منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين – وهو نفس التوقيت الذى بدأ فيه "رفعت السعيد مشروعه للتصدي لأفكارهم رافعا شعار "الإرهاب يبدأ فكرا ".
لم تُخفه سيوفهم التي أشهرت في وجهه ولم تُغره خزائن الذهب التي امتلكوها فقد قاد كتيبة من المدافعين عن الوطن ضد فقه الجماعة ودعاوى "طز في مصر" التي ظلت مختبئة في معاطفهم حتى باح بها قائدهم في لحظة استقواء. 
كان "رفعت السعيد" هو زرقاء اليمامة الذي يرى ما لم يره الكثيرون وكان المؤذن بضرورة التصدي لمخاطر تفكيك مصر باسم الدين أو بالأدق باسم فكر الجماعة. 
لم تكن المواجهة شريفة ولم يكن الأمر سهلا على الإطلاق فقد تلقى "رفعت" بشجاعة المقاتل الجسور سهام التشويه أحيانا والتكفير أحيانا أخرى. 
لكن الأصعب بالنسبة له كانت "سهام" الرفاق والزملاء الذين رفضوا تلك المعركة ورفعوا شعار أن الجماعة "فصيل وطني" لتثبت الأيام صحة رؤية "رفعت السعيد" بأن الجماعة لا علاقة لها بالوطن وهذا ما أكدوه بأن الوطن في نظرهم هو "حفنة من تراب عفن".
إذن كان الزمن كفيلا بالانتصار لوجهة نظره وكان عطاؤه بلا حدود حيث قدم عشرات الدراسات في شأن الإسلام الساسي ونقده وظل صوته عاليا في وجههم شارحا للناس مخارطهم وموضحا تناقضهم وافتقادهم لمشروع حقيقي لإدارة وطن – هم بالأساس لا يعترفون به – فقط يبحثون عن وهم الخلافة.
والآن وبعد أربع سنوات من رحيل السياسي والمفكر والمعلم "رفعت السعيد" فنحن جميعا مدينون له بفضل عظيم... فضل شجاعة القول في لحظات الجزر الفكري وفضل التمسك بوجهة نظره رغم الصعوبات والتحديات....
فالمؤكد أن مواجهة جماعة منظمة كالإخوان كان أصعب كثيرا من مواجهة أي نظام سياسي مهما كانت درجة استبداده فالجماعة تمتلك في ظنها الدنيا والدين حيث كانت بنفوذها – المسموح به رسميا – أن تصفى خصومها جسديا باسم الدين أو تصفيهم معنويا – وهذا أضعف الإيمان. 
رغم كل هذا ظل رفعت السعيد قابضا على جمر وطنيته متمسكا باستنارته حافظا عهده للوطن ووحدته وتماسكه. 
سنتذكرك دومًا أستاذنا الجليل وستذكرك مصر كأحد حراسها المخلصين.