رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

كيف يمكننا أن نقضي على الإرهاب؟ (٢-٤)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
اعتماد استراتيجية المواجهة الشاملة

انتقدنا فى المقال السابق الاستراتيجية الأمنية المعتمدة فى مواجهة الإرهاب الآن، وأوضحنا أنها تعيد إنتاج الإرهاب وتبرر وجوده بدلاً من أن تقضى عليه، وسنحاول هنا أن نعرض لما نسميه استراتيجية المواجهة الشاملة فى مواجهة الإرهاب.
وفى البداية وبعيداً عن أى لبس، ودرءاً لأى نقاش عبثى حول جدوى المواجهة الأمنية وأهميتها، نؤكد أن استراتيجية المواجهة الشاملة لا تنتقد أو تدين المواجهة الأمنية، ولا تفترض إلغاءها، وإنما تفترض أن المواجهة الأمنية تصبح جزءا من مواجهة شاملة تعتمد على أجهزة ومؤسسات وقوى أخرى جنبا إلى جنب مع المواجهة الأمنية، ومن ثم فإن إدانة المواجهة الأمنية إنما ينصب فقط على إدانة الاعتماد على المواجهة الأمنية فقط لأنها كما أكدنا، مراراً وتكراراًَ، تؤدى إلى تحول الصراع بين الإرهاب والأمن إلى معركة يحكمها العنف والنزعات الانتقامية المتبادلة، وبينما يواصل الإرهاب جنباً إلى جنب مع ممارساته العنيفة والإجرامية الترويج لخطابه الفكرى والسياسى الذي يبرر عنفه، فإن الأمن فى غياب المؤسسات الأخرى عن خط المواجهة، وبحكم طبيعته ومؤهلاته وقدراته، يرد على العنف بالعنف فقط وبدون أي خطاب ثقافي أو سياسي، وهكذا يبدو وكأن للإرهاب صوت ومنطق وخطاب يبرر ممارساته العنيفة، بل ويضفي عليها قداسة، بينما يبدو خصوم الإرهاب في المقابل وكأنهم يمارسون العنف بلا منطق أو مبرر!
المسألة إذن ليست فى ما إذا كانت المواجهة الأمنية مطلوبة أم لا، أو ضرورية أم لا، فالمواجهة الأمنية بالتأكيد ضرورية ومطلوبة، ولكنها لا يمكن أن تؤتى ثمارها المرجوة فى القضاء على الإرهاب، أو التخفيف من حدته، إلا لو تمت فى إطار من المواجهة الشاملة، بل إن ترك الداخلية وحدها فى المواجهة يبرر للإرهاب ويُعيد إنتاجه فى طبعات أخرى.
أهم ما يمكن أن يميز استراتيجية المواجهة الشاملة مثلما يتضح من السطور السابقة أنها يجب أن تستند على خطاب أو رؤية فكرية – سياسية فى مواجهة رؤية الإرهاب والإرهابيين الفكرية و السياسية- ذلك أن الخطاب الأمنى التقليدى، عند أنصار المواجهة الأمنية ، يرون أن الإرهابيين مجموعة من "الأرزوقية" أو "المأجورين" أو عملاء لمخابرات هذه الدولة أو تلك من الدول التى تُناصب مصر العداء، وهذا الكلام غير صحيح بالمرة، فالإرهابى الذى يقوم بعملية انتحارية أو يرتكب أفعالا تُعرضه للإعدام، أو الحبس لسنوات طويلة، ليس مدفوعاً بالمال، ولكن مدفوعاً بأفكار وقناعات ينبغى أن يتم مواجهتها ودحضها حتى لا تنجح قوى الإرهاب في تجنيد عناصر جديدة، وصياغة مثل هذا الخطاب، القادر على مواجهة ودحض هذه الأفكار والقناعات، يحتاج إلى توفير مناخ ديمقراطى يسمح بازدهار وتفتح الأفكار والرؤى بحيث يمكن بلورة مثل هذا الخطاب الثقافى و الفكري و السياسي القادر على أن يدحض أفكار الخطاب المتطرف الذى يتبناه، بكل أسف، مئات الألوف من المصريين الآن، ويحول ، أى شخص منهم ، إلى إرهابى فاعل بدلاً من إرهابى كامن، أو مُحتمل، بقرار شخصى منه يستند على رغبته الشخصية، وقدرته، كما يتصور ويعتقد، على تغيير المُنكر بيده بدلا من قلبه، وهذا الكلام حول إمكان تحول أى أصولى مُسالم إلى أصولى يستخدم العنف، بمجرد قرار ذاتي منه يتعلق برغبته وإرادته ،قاله لى منذ عدة سنوات مُفكر إخوانى شارحاً لى القوة الهائلة والكامنة وغير المنظورة للإسلام السياسى.
لا يمكن بلورة خطاب فكرى وثقافى مستنير ومبنى على قيم التسامح والتقدم بدون مناخ ديمقراطى وحوار واسع مع كل الأفكار والقيم بما فيها الأفكار الأكثر تطرفاً وظلامية، والوصول لهذا الخطاب وبلورته سيؤثر حتماً على أداء مؤسسات وقوى الدولة والمجتمع حيث سيعطي لكل هذه المؤسسات والقوى دوراً فى مواجهة الإرهاب بدءاً من كل المعنيين بنقد وتطوير الخطاب الدينى السائد وانتهاءً بكل المهتمين والمشتغلين بالسياسة مروراً بالمؤسسات التعليمية والإعلامية و الثقافية .
الخطاب، الخطاب الذى يجمع بين نقد خطاب التطرف وبين تقديم رؤية لموقع مصر وتطلعاتها، الخطاب الذى يمكن أن يدحض خطاب التطرف ويؤسس لرؤية فكرية – سياسية تقدمية وعقلانية ومستنيرة ، هذا الخطاب وحده هو الذى يمكن أن يكون البوصلة التى توجه كل مؤسسات الدولة للعمل، وفى غياب مثل هذا الخطاب – البوصلة يظل نسبة كبيرة من العاملين فى هذه المؤسسات أسرى نفس الخطاب المتطرف نفسه وتظل نسبة اخرى يتهددها خطر الوقوع أسرى هذا الخطاب المتطرف، ويظل كل المراقبين يتحدثون عن اختراق مؤسسات الدولة دون إدراك ان هذا الاختراق القائم بالفعل هو نتيجة منطقية لعدم وجود خطاب آخر في مواجهة خطاب التطرف، حيث تكتفي الدولة الأمنية التي تقود المعركة الآن بالحديث عن قوى الإرهاب والتطرف باعتبارهم "أرزوقية" دون أن تناقش مثلا موقف المتطرفين من قضايا المرأة، وهكذا ينتشر النقاب داخل مؤسسات الدولة تحت دعوى انه الزي الاسلامي دون أي مواجهة فكرية أو ثقافية أو إعلامية مع هذه الدعوى التي تفضي إلى انتشار التمييز والعنف ضد المرأة، وبينما تكتفي أبواق الدولة الأمنية بالحديث عن قوى التطرف باعتبارهم قتلة مأجورين فإنها تترك خطاب التطرف ضد الإخوان يقوى ويتعزز حتى يتبنى أعدادا كبيرة من موظفي الدولة في مختلف المؤسسات بما فيها الأجهزة الأمنية نفسها خطاب التطرف الذي يحرم التعامل مع "النصارى"، بل ويحرم توجيه التحية لهم، ويحرض على التمييز ضدهم، وعلى كنائسم التي يفتي شيوخهم، ويؤكد خطابهم، أن بناءها في ديار الإسلام حرام، ويكون نتيجة مثل هذا الخطاب، الذي لا يرد عليه أحد، انضمام العديد من الشبان لجماعات التطرف والإرهاب التي تعتدي على الكنائس والأقباط.
إلى جوار المواجهة الفكرية السياسية الشاملة، التي يمكن أن يحدد توجهها ومسارها الخطاب - البوصلة ، والتي ينبغي أن يشارك فيها الأوقاف والأزهر والتعليم والثقافة والأحزاب السياسية، فإن التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وبالذات للعشوائيات والقرى الأكثر فقرا تعتبر هي الأخرى من بين أهم آليات المواجهة الشاملة.
إليكم بعض الأمثلة: تنقية المناهج الدراسية، في التعليم العام والأزهريمن الأفكار المتطرفة، وإعادة تدريب وتثقيف المدرسين جزء من المواجهة الشاملة. إعادة فتح قصور الثقافة المغلقة وتنشيط المفتوح منها مع دعم نشر كتب التنوير والتراث الديني المستنير والعقلاني جزء من المواجهة الشاملة، فتح وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية لمناظرات حية مع الأفكار المتطرفة جزء من المواجهة الشاملة.
أخيرا ينبغي للمواجهة الأمنية أن تكون جزءا من هذه المواجهة الشاملة، وذلك وفقا لبعض المحددات والشروط التي ستكون موضع حديث قادم بإذن الله.